في وقتٍ مبكر من الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة ظهر أنس الشريف على شاشة الجزيرة، بهيئةٍ ضئيلة الحجم، وبلا خوذة أو درع، وفي وقتٍ كان يتزاحم فيه كبار صحفيي الفضائية على تغطية الكم المهول من الأخبار ونقلها مباشرة إلى العالم.
حينها كان ظهور أنس مترددًا خجولًا، كأنما يُحال له الفائض من المآسي والأحزان، قبل أن ينسحب كبار الصحفيين واحدًا تلو الآخر نتيجة استشهاد أو إصابة أو سفر، حتى أصبح أنس بصوته الذي امتلك قوة الفقد وجسارة التحدي، عين العالم العربي الأول على الإبادة.
وكما الحال مع كل صحفيي فلسطيني يترك لعدسته أن تنقل أوجاع الفلسطينيين دون تشذيب دبلوماسي، تعرض أنس لسلسلة تهديدات “إسرائيلية” متعاظمة، لكنه ولفردانيته أٌلحق بأخرى أشرف عليها الذباب الالكتروني العربي، سعيًا في تبرير جريمة قتله قبل ارتكابها.
حتى مضى أنس، وقد كان يعلم يقينًا أنه سيمضِ، لتختفي برحيله آخر الأصوات الواثقة من القطاع، وليتضاءل الأمل الفلسطيني بالنجاة أو الهدنة، التي كان أنس بصوته وقفزاته بين الجموع أحد أبرز وجوهها، وخير من نقلها وعبّر عنها.
في السطور التالية، يُصار لنا نحن الأحياء أن نُطالع المسيرة القصيرة لأنس الشريف على مد الإبادة التي ابتلعته، ثم نتساءل عن تقاطع الاستهداف مع المصلحة “الإسرائيلية” وما يُصار لها من أن تتحول لاحتلالٍ عسكري كامل للقطاع، وعن صدى رحيله فلسطينيًا وعربيًا.
نجونا بمعجزة
في شهادة سابقة لأنس عن أهوال الإبادة، يُكرر مرارًا “نجونا بمعجزة” مبررًا استمرار وجوده على قيد الحياة، ثم يُزجي إلى تبريره الكثير من الإصرار والتحدي على مواصلة عمله الصحفية، ونقل مجريات الإبادة إلى العالم، ومن بين مآسي الإبادة المريرة لا يذكر العالم لحظاتٍ مرحة مع أنس إلا فيما ندر.
جميعها كان خلال الهُدن السابقة، في لحظاتٍ خلع بها خوذته ودرعه، قبل أن يُعاود ارتدائهما مجددًا حتى رحيله الأخير بغارة جوية “إسرائيلية” استهدفت خيمة الصحفيين قرب مشفى الشفاء في غزة، في 11 أغسطس الحالي، مع فريقٍ كامل من صحفي فضائية الجزيرة، ليكون “الناجون بمعجزة” آخر أصوات الأرض المعذبة.
وُلد أنس الشريف في مخيم جباليا شمال قطاع غزة عام 1996، وهُناك قضى جُلّ حياته الدراسية في مدارس الأونروا، حتى التحق بكلية الإعلام في جامعة الأقصى، وتخرج منها، ليتطوع بعدها في شبكة إعلامية محلية، قبل أن يغدو مراسلًا لمنطقة شمال القطاع في فضائية الجزيرة.
فعليًا، لم يظهر أنس على المستوى الإقليمي والدولي قبل السابع من أكتوبر 2023، خاصة وأن القطاع كان يعج بالصحفيين الفلسطينيين والعرب والأجانب، الذين أُجبر معظمهم على إخلاء القطاع قبل بداية الاجتياح البري نهاية أكتوبر 2023.
ظهور أنس الفعلي تزامن مع صموده في شمال قطاع غزة وتغطيته للإبادة من مناطق خطرة جدًا، وإيصاله لصورٍ حية من داخل المناطق التي يصعب الوصول إليها، ومسارعته لتغطية المجزرة تلو المجزرة ونقلها حية إلى العالم، برغم ما كان يعانيه من خطر شديد ونقصٍ في المستلزمات الصحفية والإمدادات الأساسية، وحصار مشدد وانقطاع شبه كامل للكهرباء والاتصالات.
التهديد والاستهداف
هذا ما لفت الأنظار “الإسرائيلية” إليه، فتلقى تهديدات عبر مكالمات ورسائل من الجيش “الإسرائيلي”، ارتبطت بمحاولات تشويه سمعته باتهامه بالانتماء لحماس، قبل أن تأمره بمغادرة شمال القطاع، وأمام إصراره على الرفض استُهدف منزل عائلته في ديسمبر من العام نفسه، حيث قضى والده المريض في غارة جوية، بينما تمكن بقية أفراد عائلته من إخلاء منزلهم مسبقًا.
ليتعرض بعدها بشهرٍ واحد لاستهدافٍ متعمد، في 22 يناير 2024، حين كان يحاول الحصول على إشارة انترنت لرفع تقرير مباشر لفضائية الجزيرة، حيث أصيب بشظية في ظهره خلال إطلاق النار على منطقة وجوده، رغم ارتدائه سترة الصحافة، وظهور كلمة “Press” عليها بشكلٍ واضح.
من الإندونيسي إلى الشفاء إلى كمال عدوان، وغيرها من مشافي القطاع تنقل أنس مع طاقم الجزيرة في تغطية ما غاب عن الطواقم الصحفية، ونقل قصص الجرحى والمرضى والفاقدين، وكثيرًا ما لاحق صوته الحدث حتى غدا وجود مواطني القطاع المنهكين بجانبه خلال التغطية اعتياديًا.
في يناير 2025، وأثناء تغطيته المباشرة لجولات التبادل بين المقاومة الفلسطينية والصليب الأحمر، خلع أنس خوذته ودرعه، في إشارة لاستراحة محاربٍ خلف الكاميرا، قائلًا: “الآن، يمكنني أخيرًا أن أخلع هذه الخوذة التي أرهقتني طوال هذه المدة، وسترتي أصبحت جزءًا من جسمي”، بينما رفعه الفلسطينيون على أكفهم احتفاءً بصنيعه وحُسن تغطيته لأوجاعهم.
في مواجهة آلة الإبادة
خلال الهُدنة كان صوت أنس مرادفًا للعز والفخار، متنقلًا من ميدانٍ إلى آخر، ومن ساحة تبادلٍ إلى أخرى، يرثي من ارتحل من رفاقه الصحفيين شهيدًا، بينما يتتبع عودة الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال، ووصولهم المفجع إلى اللامكان، وحزنهم على أطلال منازلهم، وعلى رُفاتٍ لم تُستخرج بعد لأحبائهم، هُناك أيضًا كان حزن أنس على والده.
بُعيد الهدنة ارتفع منسوب التهديدات “الإسرائيلية” باستهدافه، وترافقت مع حملات تشهير سياسية وإعلامية وحكومية واسعة ضده، ما دفع المقررة الخاصة للأمم المتحدة في تموز الماضي، لإدانة التهديدات ووصفها بأنها “محاولات خطيرة لإسكات-آخر صحفيي الجزيرة الناجين في شمال غزة- عن تغطية الإبادة الجماعية في غزة، كما رفضت الاتهامات “الإسرائيلية” بأنه عضو في حماس، معتبرة إياها استهدافًا للصحفيين المحليين وتقويضًا لدورهم في نقل الفظائع إلى العالم.
وحده أمام آلة القتل
“آخر صحفيي الجزيرة الناجين” كانت بالنسبة لأنس عبئًا ثقيلًا، وهو الذي قضى آخر عامين من حياته يودع رفاق مهنته واحدًا تلو الآخر، من رفيقه إسماعيل الغول، ورامي الرفاعي، وإسماعيل أبو حطب، ويحيى صبيح، وسمر أبو دقة، وسعد أبو نبهان، وأحمد اللوح، ودعاء شرف وحسام شبات وغيرهم، ممن استُشهدوا خلال الأشهر الست الأخيرة، ليتركوا أنس وطاقمه وحدهم أمام آلة الإبادة “الإسرائيلية”.
حتى ليلة الحادي عشر من أغسطس حين تحول صوت أنس إلى رقمٍ يُضاف لـ 237 صحفيًا فلسطينيًا، اغتالهم الرصاص “الإسرائيلي” متذرعًا بالخطأ مرةً، وبلجنة التحقيق مرة أخرى، ثم مجاهرًا في وقاحته، واصفًا الاستهداف بأنه إسكات لصوت حماس الإعلامي، وسط تواطئ غربي حقوقي وإعلامي ترك الميدان متاحًا أمام المزيد من القتل.
غابت شمس الحق
باستشهاد أنس الشريف تكتمل حلقات الإبادة حول الفلسطينيين، لا سيما وأن حكومة الاحتلال صادقت على تنفيذ احتلالٍ عسكري كاملٍ للقطاع، واستبقته بتلميعٍ دبلوماسي إعلامي بالسماح لعددٍ محدودٍ من الصحفيين الأمريكيين -طاقم فوكس نيوز تحديدًا- الدخول إلى القطاع، وإنتاج تقارير عن الوضع فيه برفقة جيش الاحتلال، وبمراقبة وإشرافٍ “إسرائيلي” عسكري، ليبدو كأنه إحلالٌ لصوتٍ ممنتج على حسابٍ صوتٍ أصيل.
يترافق ذلك مع تغييب لأي أصواتٍ أخرى، بحجة الظروف الأمنية، ومع رفضٍ من المحكمة العليا “الإسرائيلية” لطلب مجموعة من جمعيات الصحافة ومؤسساته حول العالم، لدخول قطاع غزة وتغطية ما يجري فيه، ومنا طلب جمعية الصحافة الأجنبية في “إسرائيل”، التي قوبل طلبها بالرفض، لأسبابٍ أمنية.
الإرهاب والتبرير
من زاوية أخرى، فإن رحيل الصحفي الشاب الذي خاض غمار التغطية الإعلامية لواحدة من أعتى حروب العصر وإبادته، وترك خلفه طفلين في مقتبل العمر، يعكس آخر ما وصل له الإرهاب “الإسرائيلي” وتبريراته، باتهام الشريف -الذي ظهر يوميًا ومرات عدة في بحث حي ومباشر- بأنه “قائد خلية في حماس”، وأنه يُروج لإبادة كاذبة.
فخلال الشهر المنصرم، انفرد الناطق باسم جيش الاحتلال بالتركيز على أنس، والإشارة إلى ارتباطات له بحركة حماس، وتغطيته لأنشطة مسلحة، وهو الاتهام الذي نشره قبل عامٍ واحد، في أغسطس 2024، حين وصف أنس بأنه “يغطي أنشطة حماس والجهاد الإسلامي، ويخفي جرائمهما في الاختباء داخل المدارس”، وبأنه ينتمي لكتائب القسام منذ 2013، ويستخدم عمله الصحافي للتغطية على “أنشطة إرهابية”، لتقوم شبكة الجزيرة بنفي الاتهام والإشارة إلى خطورته على حياة أنس وصحيفيها الآخرين.
نفي الشبكة، والحراك الإعلامي الدولي للمطالبة بحماية الصحفيين، لم يخفف من إدراك أنس أن نهايته محتومة، وأن الهدف من الاتهامات اغتياله معنويًا تمهيدًا لاغتياله جسديًا، فأعد وصيته مسبقًا، ليُعاد نشرها من حسابه في منصة إكس، قائلًا فيها: “إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”، وداعيًا لمساندة غزة وعدم خذلانها.
الدعوة المتكررة للنصرة والمساندة وإيقاف الحرب وعدم الخذلان، كانت صدى أنس الأخير الذي خفت باستشهاده، وهو الذي أمضى الشهور الأخيرة ينقل قصص الجوع، والقتل عبر استهداف قوافل المساعدات، وطوابير المجوعين أمام بوابات مؤسسة غزة الأمريكية، وصور الأطفال الراحلين جوعًا وعطشًا ومرضًا في المشافي الفلسطينية.
هذا الدور، دفع الصحفيين “الإسرائيليين” للاحتفاء باستهداف أنس الشريف وقتله، فالصحفي في القناة 12 عميت سيغال، سارع لنشر خبر اغتيال أنس الشريف، معلقًا عليه بالقول: “انتظرت الخبر طويلًا..طويلًا جدًا”، ولدعم رواية الجيش وتبنيه لاغتيال طاقم الجزيرة في القطاع، بوصف أنس بأنه “ينتحل صفة صحافي”، والزعم أنه كان مسؤولاً عن هجمات صاروخية على المدنيين “الإسرائيليين”.
بينما نددت جمعيات حقوق الصحافة، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين بالاغتيال، وطالبت بمحاسبة المسؤولين وضمان سلامة الصحفيين في مناطق النزاع، فيما أصدرت شبكة الجزيرة بياناً حملت فيه جيش الاحتلال وحكومته المسؤولية الكاملة، واعتبرت الاغتيال “هجوماً متعمداً على حرية الصحافة”.
الحقيقة المُرة
تقول الحقيقة المُرّة كالعلقم، أن صحفيًا شابًا قضى آخر أيامه مجوّعًا، ملتحفًا السماء وسقف خيمة مهترئة، أمام بوابة مشفى محطم، وقف في وجه منظومة إعلامية ودولية متكاملة، سعت لشيطنة انحيازه نحو كرامة قومه وحقوق أهله، وأنه حين قضى برفقة خمسة آخرين، لم يثر سوى بيانات الإدانة والشجب، وأنه انضم إلى قافلة من شهداء الكلمة الحُرة.
تقول الحقيقة الصادمة كرائحة الموت الأسود، أن الصحفي “الإسرائيلي” مدجج بالسلاح والصواريخ والكاميرات، يُتاح له أن ينقل روايته كل يوم، فتتلقفها الجماهير العربية والغربية بأناقة الشوكة والسكين، بينما تتردد جمعيات الصحافة في البلدان العربية “الشقيقة” عن رثائه، لأنه لم يتلقف مساعدات أنظمتها بالشكر المبجل كما تُحب.
يُبرى أنس الشريف نفسه وجهده في وصيته قائلًا: “يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سنداً وصوتاً لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين”.
أما نحن فلا براء لنا ولا رثاء..ولا صوت بعد اليوم.