ترجمة وتحرير: نون بوست
مشروع “القبة الفولاذية” يجسد رؤية تركيا في مجال الدفاع الجوي، ويبرز كنموذج معماري لأنظمة قادرة على التكيف مع بيئة الحروب المستقبلية. ويتميز المشروع ببنية متعددة الطبقات، وبنية قيادة وتحكم مدعومة بالذكاء الاصطناعي، إضافةً إلى أنظمة استشعار وتسليح واتصالات تم تطويرها بالكامل باستخدام الموارد المحلية والوطنية. وبذلك، لا تمثل “القبة الفولاذية” مجرد مظلة دفاعية فحسب، بل هي أيضًا نتاج رؤية تكنولوجية وإستراتيجية متكاملة.
شهد شهر يونيو/حزيران 2025 وقوع حدثين حاسمين قدّما مؤشرات مهمة على الطبيعة المتطورة للقوة الجوية في ميادين القتال الحديثة، وعلى تأثير هذه القوة إستراتيجياً. ففي 1 يونيو/حزيران، نفذت أوكرانيا هجوماً متزامناً بطائرات مسيّرة على عدة قواعد جوية تقع في عمق الأراضي الروسية. وفي 13 يونيو/حزيران، شنّت إسرائيل عملية جوية واسعة النطاق ومنسقة ضد البرنامج النووي الإيراني والبنية التحتية العسكرية في إيران. أعقب ذلك قيام إيران بالرد عبر إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة انتحارية باتجاه الأراضي الإسرائيلية.
اللافت في كلا الحدثين لم يكن مجرد الخصائص التقنية للمنصات الجوية المستخدمة، بل أيضاً الكيفية التي تم بها دمج هذه المنصات مع أنظمة الاستخبارات، والحرب الإلكترونية، ومنظومات القيادة والسيطرة.
هذه التطورات أفرزت نتائج ينبغي أخذها في الحسبان ليس فقط على المستوى العملياتي، بل كذلك على المستويات الإستراتيجية والتكنولوجية والعقائدية. والأهم من ذلك أن وقوع هذه الأحداث في جغرافيا قريبة من تركيا أظهر أن ديناميكيات التهديد ليست مجرد فرضيات نظرية، بل هي أيضاً مسألة مرتبطة مباشرة من الناحية الجغرافية برؤية تركيا للأمن القومي.
وفي هذا السياق، فإن مساعي تركيا لبناء وتطوير منظومتها الخاصة للدفاع الجوي والصاروخي لا تقتصر على تحقيق تقدم في مجال التكنولوجيا الدفاعية فحسب، بل تمثل أيضاً عنصراً محورياً لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية، وتعزيز قوة الردع، وترسيخ الاستقرار الإقليمي.
ضمن هذا الإطار؛ برز مشروع “القبة الفولاذية” الذي أُعلن عنه خلال اجتماع لجنة الصناعات الدفاعية المنعقد في 6 أغسطس/آب 2024، باعتباره تجسيداً لرؤية تركيا في مجال الدفاع الجوي ونموذجاً معمارياً لمنظومة قادرة على التكيف مع بيئة الحروب المستقبلية. ويتميز هذا المشروع بهيكليته متعددة الطبقات، وبنية القيادة والسيطرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إضافةً إلى أنظمة الاستشعار والتسليح والاتصالات المطوّرة محلياً وبموارد وطنية بالكامل. وبذلك، فإن “القبة الفولاذية” ليست مجرد مظلة دفاعية، بل هي أيضاً ثمرة رؤية تكنولوجية واستراتيجية متكاملة.
القبة الفولاذية
وأُعلن عن مشروع القبة الفولاذية عقب اجتماع لجنة الصناعات الدفاعية المنعقد في 6 أغسطس/آب 2024، وهو في جوهره الاسم الذي يُطلق على الهيكل الذي سينشأ من خلال دمج أنظمة الإنذار المبكر، والقيادة والسيطرة، والاتصالات، ومنظومات الأسلحة، والمخصص للدفاع الجوي والصاروخي لتركيا.
وجاء في البيان الصادر عقب الاجتماع: “من خلال أنظمة الدفاع الجوي متعددة الطبقات، ودمج جميع أجهزة الاستشعار والأسلحة ضمن هيكل شبكي يعمل بتكامل، وإنشاء صورة جوية موحدة، وإيصالها في الوقت الفعلي إلى مراكز العمليات، وعرضها على صانعي القرار مدعومة بالذكاء الاصطناعي، فإننا نعمل على تطوير مشروع القبة الفولاذية محلياً وبموارد وطنية بالكامل، وقد تقرر المضي قدماً في تنفيذه.”
هذا التعبير يلخص ثلاثة أبعاد رئيسية للمشروع، يمكن ترتيبها على النحو الآتي: البنية متعددة الطبقات، ومنظومة القيادة والسيطرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتركيز على الأنظمة الوطنية. ويعكس مشروع القبة الفولاذية، باعتباره “منظومة للمنظومات”، الطبيعة المتداخلة والمتعددة الطبقات للدفاع الجوي.
ولشرح هذه الخصائص الثلاث الأساسية، من الضروري النظر في أبرز التهديدات في ساحة الحرب الجوية الحديثة.
تنوع التهديدات
الطائرات ثابتة الجناح:
تُستخدم الطائرات العسكرية ثابتة الجناح في نطاق واسع من المهام، وتشمل أنواع المهام الأساسية: القتال جو–جو، والهجوم على الأهداف الأرضية، والنقل اللوجستي، والاستطلاع والمراقبة، والإنذار الجوي المبكر والقيادة والسيطرة، إضافةً إلى الحرب الإلكترونية. وتفرض اختلافات هذه المهام إبراز معايير أداء محددة في تصميم الطائرة. فعلى سبيل المثال؛ في الطائرة المقاتلة المطوّرة لتحقيق التفوق الجوي، تكون الأولوية للسرعة العالية، والقدرة على المناورة، وقابلية التسلق السريع. أما الطائرة المخصصة لمهام الإسناد الجوي القريب، فيجب أن تتميز بقدرتها العالية على البقاء ومقاومة نيران العدو. بينما طائرات النقل الثقيل، والتي صُممت عادةً للطيران بسرعة ثابتة على ارتفاعات عالية، لا تحتاج إلى قدرة مناورة كبيرة.
الطائرات ذات الأجنحة الدوارة (المروحيات):
تُستخدم المروحيات في مهام متنوعة مثل النقل، والاستطلاع والمراقبة، والهجوم. وهي غالباً ما تطير على ارتفاعات منخفضة وبسرعات منخفضة إلى متوسطة. وتختلف قدرتها على المناورة والرشاقة تبعاً لنوعها وتصميمها، حيث تتمتع بعض المروحيات بخفة عالية في الحركة، بينما تكون المروحيات المتوسطة والثقيلة المخصصة للنقل أكثر بطئاً وثقلاً في الأداء. أما مروحيات الهجوم، فتصمم خصيصاً للعمل على ارتفاعات منخفضة وبسرعات نسبية عالية، ومن أبرز مزاياها الحديثة القدرة على تدمير الأهداف بدقة باستخدام ذخائر موجهة، مع تقليل احتمالية اكتشافها.
الطائرات المسيّرة (الدرونز):
بفضل التطورات التكنولوجية، يتراوح نطاق الطائرات المسيّرة بين الدرونز الصغيرة التي تُطلق باليد ويتم التحكم بها عبر نظارات الواقع الافتراضي (FPV)، وصولاً إلى طائرات استطلاع إستراتيجية تعمل بمحركات نفاثة ويمكنها البقاء في الجو لأكثر من 24 ساعة. وتتنوع قدراتها بين التحكم عن بُعد، والتحليق شبه الذاتي، أو الذاتي بالكامل. وتُستخدم الطائرات المسيّرة المطوّرة للأغراض العسكرية على نطاق واسع في مهام الاستطلاع والمراقبة، والهجوم، والحرب الإلكترونية. وكما ظهر في الطائرات المسيرة التركية المسلحة مثل بيرقدار TB2 والعنقاء (أنكا)، فإنها قادرة على إحداث تأثير حاسم في ميدان المعركة. ومعظم الطائرات المسيّرة التكتيكية والعملياتية الشائعة الاستخدام مزودة بمحركات مكبسية أو توربينية مروحية (تربوبروب)، ولها قدرة عالية على البقاء في الجو لفترات طويلة، كما تتميز بهياكل أصغر بكثير مقارنة بالطائرات المقاتلة المأهولة.
صواريخ كروز المسيرة:
وهي ذخائر موجهة تتقدم نحو أهدافها عبر مسار طيران مستقيم مشابه للطائرات، مع تحكم مستمر في مسارها. وغالباً ما تحلّق هذه الصواريخ على ارتفاعات منخفضة، وتقوم بتصحيح مسارها ذاتياً بفضل أنظمة التوجيه والتحكم المدمجة. ولأجل تحقيق دقة إصابة عالية، تُستخدم فيها تقنيات متنوعة للتوجيه والملاحة. ومعظم صواريخ الكروز المنتَجة والمستخدمة على نطاق واسع تعمل بمحركات نفاثة وتطير بسرعات دون صوتية، لكن في السنوات الأخيرة بدأت تنتشر أيضاً النماذج الأسرع من الصوت، بل وحتى الفرط صوتية (التي تزيد سرعتها خمس مرات على الأقل عن سرعة الصوت).
الطائرات المسيّرة الانتحارية (كاميكازي):
تُعتبر هذه الطائرات شكلاً وسطياً بين الطائرات المسيّرة وصواريخ الكروز. وعلى الرغم من أنها موجودة في الإنتاج والاستخدام منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإنها لفتت الانتباه عالمياً مع استخدام روسيا للطائرات الإيرانية الصنع شاهد 136 في الحرب الروسية – الأوكرانية. وكانت النماذج الأولى تطير في مسار مستقيم نحو هدف مبرمج مسبقاً، لكن الإصدارات الأحدث اكتسبت قدرات إضافية مثل تغيير السرعة والارتفاع والمسار، والانتظار في منطقة الهدف (loitering)، واستقبال تحديثات للهدف من المحطة الأرضية. وبسبب حجمها الصغير وسرعتها المنخفضة، يكون تعقبها والتعامل معها بواسطة أنظمة الاستشعار والأسلحة المخصصة للتصدي للطائرات أو الصواريخ أمراً بالغ الصعوبة، وقد ألحقت هذه المنصات أضراراً كبيرة بالبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.
الصواريخ الباليستية:
وهي أسلحة بعيدة المدى تصل إلى أهدافها عبر مسار باليستي بعد الإطلاق؛ حيث تحصل على قوة الدفع المطلوبة عند الإطلاق، ثم يتوقف المحرك وتدخل مرحلة الطيران الحر، وهي ما تُعرف بمرحلة “المنتصف”. بعد ذلك، وفي المرحلة النهائية (النهائية أو الطرفية)، تهوي الصواريخ نحو الهدف بزاوية شبه عمودية. وإذا كانت مجهزة بأنظمة توجيه متطورة، يمكنها إجراء تصحيحات طفيفة في المسار خلال هذه المرحلة. وبسبب السرعة العالية في هذا الطور، تتمتع الصواريخ بطاقة حركية هائلة تؤدي إلى تأثير تدميري كبير على الهدف.
لقد أسهمت التطورات في مجالات المواد، والإلكترونيات والاستشعار، وبرمجيات التحكم في تعزيز قدرات وأداء التهديدات الجوية المذكورة أعلاه، بل وجعلت من الممكن إسناد مهام جديدة إليها. فعلى سبيل المثال، بدأت الطائرات المسيّرة التي طُوّرت أساساً لمهام الاستطلاع والمراقبة تُسلّح وتُستخدم في مهام الضربات الدقيقة، ثم جُهّزت لاحقاً بحساسات متطورة لتنفيذ مهام الحرب الإلكترونية والإنذار المبكر الجوي.
وتختلف هذه التهديدات الجوية اختلافاً كبيراً من حيث ارتفاع وسرعة الطيران، وقدرات المناورة، إضافةً إلى مدى أنظمة التسليح التي تحملها، ومدى تغطية مجساتها. وهذا يبرز حقيقة أن مظلة الإنذار المبكر والدفاع الشاملة ضد هذه التهديدات يجب أن تتألف من طبقات متداخلة.
ويقوم جوهر نهج “منظومة المنظومات” في مشروع القبة الفولاذية على هذه البنية متعددة الطبقات.

مكوّنات القبة الفولاذية
ويتألف العمود الفقري لمشروع القبة الفولاذية من أنظمة تسليح محلية ووطنية، جرى تنويعها وفق فئات ارتفاعات وأمداء مختلفة. في الطبقة الأدنى من هذه المنظومة، تتواجد أنظمة “إخطار” و”غوكبَرك” المصممة خصيصاً للتصدي للطائرات المسيّرة. يليها نظام المدفعية ذاتية الحركة “كوركوت”، إضافةً إلى المدفعية المضادة للطائرات عيار 35 ملم التي جرى تطويرها محلياً. كما يحتوي تصميم نظام كوركوت على نسخ مشتقة مخصصة للدفاع الجوي القريب عن القواعد والمنشآت، وهي كوركوت 110/35S وكوركوت 100/25 SB. وتستخدم هذه العائلة الكاملة من المدفعية المضادة للطائرات ذخيرة ATOM الذكية ذات الشظايا، المطوّرة من قبل شركة أسيلسان.
وتشمل الطبقات المنخفضة والمتوسطة الارتفاع منظومة صواريخ الدفاع الجوي “حصار”، التي تم تطويرها بالشراكة بين أسيلسان وروكيتسان. وضمن هذه العائلة، دخل نظام حصار-A+ (منخفض الارتفاع) وحصار-O+ (متوسط الارتفاع) مرحلة الإنتاج التسلسلي ودخلا الخدمة اعتباراً من عام 2021. ويتألف نظام حصار-A+ من رادار ومستشعرات كهروبصرية مركبة على هيكل عربة مدرعة مجنزرة ACV-30 من إنتاج شركة FNSS، إضافةً إلى أربعة قواذف إطلاق عمودي تطلق صواريخ موجهة بالأشعة تحت الحمراء بمدى 15 كيلومتراً، لتأمين الحماية ضد الطائرات المسيّرة وصواريخ الكروز والمروحيات على الارتفاعات المنخفضة. أما حصار-O+، فهو نظام متوسط الارتفاع محمول على مركبة تكتيكية بعجلات، بمدى يصل إلى 25 كيلومتراً.
وتضم عائلة حصار نسخة بحرية مخصصة لاستخدامها على السفن الحربية، تحمل اسم حصار-دي آر إف، تُطلق من خلال منظومة الإطلاق العمودي الوطنية “ميدلاس” التي طوّرتها شركة روكيتسان للسفن. ومن المقرر أن تعزز هذه الصواريخ قدرات الدفاع الجوي في السفن الحربية الوطنية بدءاً من فرقاطات فئة “إستيف”.
أما على صعيد حماية البنية التحتية الإستراتيجية والقواعد والمنشآت، فيبرز نظام “سيبر”، الذي تم تطويره بالتعاون بين أسيلسان وروكيتسان وتوبيتاك سايج. ويتميز هذا النظام بصواريخه الموجهة بالرادار النشط، وبنية القيادة والسيطرة المتطورة، وراداره القادر على اكتشاف وتحديد وتعقب الأهداف من مسافات بعيدة، ليشكّل العمود الفقري للدفاع الجوي الإستراتيجي لتركيا.
وخلال اجتماع لجنة الخطة والموازنة في البرلمان التركي، أوضح وزير الدفاع الوطني ياشار غولر أن الصاروخ الأول للنظام، “سيبر – المنتج 1″، يملك مدى 100 كيلومتر ودخل الخدمة، فيما يجري حالياً تطوير واختبار صاروخ “سيبر – المنتج 2″ بمدى 150 كيلومتراً، و”سيبر – المنتج 3” بمدى 180 كيلومتراً.
أنظمة الدفاع الجوي المذكورة أعلاه تستمد بيانات الأجواء والأهداف من رادارات الإنذار المبكر من سلسلة “ألب” ورادارات الدفاع الجوي من سلسلة “كالكان”، والتي طورتها شركة أسيلسان. ويشكّل نظام “حاكم” للقيادة والسيطرة الجوية العمود الفقري لهذه الشبكة. وأُطلق نظام “حاكم” في مارس 2020 بواسطة أسيلسان، وهو نظام من نوع سي4 آي (القيادة، التحكم، الاتصالات، الحواسيب، المعلومات) ومصمم ليوفر تكاملاً كاملاً بين مراكز القيادة والسيطرة على المستويات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية لدى قيادة القوات الجوية التركية. كما يدمج بيانات المجسات القادمة من القوات البرية والبحرية لتكوين “الصورة المشتركة”، ويتوافق مع بنية حلف شمال الأطلسي إيه سي سي إس (نظام القيادة والسيطرة الجوية)، ما يمكن تركيا من تبادل المعلومات الجوية مع الدول الحليفة عند الحاجة.
وتُمكّن هذه البنية تركيا من تتبع حركة جميع الطائرات في أجوائها ومحيطها في الوقت الحقيقي، واكتشاف وتحديد التهديدات المحتملة عبر مستشعرات متعددة من مدى بعيد، والتصدي لها باستخدام أنسب أنظمة التسليح. وبفضل التصميم المرن والمركّب للنظام، يمكن دمج أجهزة استشعار ومنصات جديدة مع الأسلحة في مخزون القوات المسلحة التركية مستقبلاً، مما يعزز من قدرة تركيا على التعاون العسكري والاستراتيجي مع حلفائها.
وتمثل القبة الفولاذية رد تركيا على التهديدات الجوية التي تشهد تغيراً وتطوراً سريعاً. ورغم وجود مشاريع وحلول مختلفة في العالم، فقد أظهر الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل، خاصة مع التهديدات الصاروخية الباليستية، الضغط الكبير الذي تتحمله أنظمة الدفاع الجوي الحديثة.
البنية الدفاعية الجوية لإسرائيل
وتمتلك إسرائيل نظام دفاع جوي متعدد الطبقات ومتكامل لمواجهة التهديدات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، يتكون هذا النظام من عدة طبقات، تشمل في المدى القصير نظام القبة الحديدية، وفي المدى المتوسط نظام مقلاع داوود، وفي المدى الطويل أنظمة سهم 2 وسهم 3، بالإضافة إلى نظام ثاد الأمريكي. وتدعم هذه الأنظمة شبكة رادارات واسعة، وأنظمة استخبارات إلكترونية متقدمة، وبنية قيادة وتحكم متطورة، كما تعمل بشكل متكامل مع القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة.
وتأسس نظام سهم على أساس مذكرة تفاهم بين إسرائيل والولايات المتحدة وُقعت عام 1986. وبدأ تطوير النظام الأولي الذي تضمن رادار “جرين باين” بمدى يصل إلى 1500 كيلومتر وبنية ذات مرحلتين لتوفير دفاع أساسي ضد الصواريخ الباليستية. ثم حل محل نظام سهم 1 النسخة المطورة والأخف وزناً سهم 2 التي بدأت في التطوير منتصف التسعينيات. ويعمل سهم 2 بشكل متكامل مع أنظمة باتريوت باك الأمريكية ضمن مفهوم دفاعي ثنائي الطبقة، مع قدرة على الكشف بمدى يصل إلى 500 كيلومتر ومدى اعتراض يصل حتى 90 كيلومتراً.
أما أكثر أنظمة العائلة تطوراً فهو سهم 3، الذي يمتاز بقدرته على الاعتراض خارج الغلاف الجوي (في الفضاء). يعتمد هذا الصاروخ على مبدأ “الضربة القاتلة” حيث يدمر الهدف بواسطة الطاقة الحركية مباشرة دون الحاجة لرأس حربي. وأُجريت أولى تجارب النظام عام 2015، ودخل الخدمة رسمياً في 2017.
وتشكل أنظمة سهم الطبقة العليا في الدفاع الجوي الإسرائيلي، بينما توجد في الطبقات الأدنى أنظمة مقلاع داوود التي طورتها الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، إلى جانب أنظمة باتريوت باك الأمريكية.
وفي أدنى مستويات الدفاع توجد القبة الحديدية المخصصة للتصدي لصواريخ قصيرة المدى، وسلاح الطاقة الموجه “الشعاع الحديدي”. وتُستخدم رادارات إي إل إم-2084 ثلاثية الأبعاد بشكل رئيسي في أنظمة مقلاع داوود والقبة الحديدية، وتتم إدارة هذه الأنظمة عبر بنية قيادة وتحكم تعرف باسم “اللوز الذهبي”.
ورغم هذا النظام الدفاعي المتقدم، فقد عجز عن منع ضربات على قواعد ومنشآت هامة في تل أبيب وحيفا خلال هجمات الصواريخ الباليستية الإيرانية التي بدأت في 13 يونيو/حزيران. ولا توجد بيانات موثوقة ومؤكدة حول معدلات الاعتراض الناجحة، لكن العديد من المصادر المفتوحة نشرت لقطات تشير إلى نجاحات ملحوظة خصوصاً في الاعتراضات خارج الغلاف الجوي.
مبادرة الدرع الجوي الأوروبي
مبادرة الدرع الجوي الأوروبي، التي أُطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بقيادة ألمانيا، هي مبادرة إقليمية للدفاع الجوي والصاروخي تضم حالياً 24 دولة أوروبية. وتم تصميم المبادرة لإنشاء مظلة دفاع متعددة الطبقات على الأرض عبر أوروبا، وفقاً لمبادئ التوريد المشترك والاستخدام المتكامل. وتهدف المبادرة بشكل أساسي إلى تعزيز قدرات الدفاع ضد التهديدات الصاروخية الباليستية، وصواريخ كروز، والصواريخ الفرط صوتية القادمة من روسيا، والمساهمة في شبكة الناتو المتكاملة للدفاع الجوي والصاروخي (آيماد).
وتضم مبادرة الدرع الجوي الأوروبي أربع طبقات تشمل أنظمة استشعار وأسلحة بمديات قصيرة ومتوسطة وطويلة وطويلة جداً. ومن بين أنظمة التسليح؛ سكاي رينجر 30 التي تستهدف في المدى القصير الأهداف الصغيرة، خصوصاً الطائرات المسيّرة، ونظام آيريس-تي إس إل إم الذي يدافع في المدى المتوسط ضد الطائرات المسيّرة وصواريخ كروز، ونظام ميم 104 باتريوت للدفاع الجوي طويل المدى، بينما يوفر نظام سهم 3 الحماية ضد الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي وعلى مدى يتجاوز 100 كيلومتر. ويدعم نظام آيريس-تي إس إل إم رادار تي آر إم إل-4، بينما يدعم نظام باتريوت باك-3 إمي إس إيه رادار إل تي إيه إم دي، ويُساند نظام سهم 3 رادارات جرين باين إيه إل/إم-2080. وتضمن هذه البنية متعددة الطبقات تغطية شاملة لمسارات الطيران وأنواع الأهداف المختلفة.
وانضمت تركيا إلى مبادرة الدرع الجوي الأوروبي في فبراير/شباط 2024، مضيفة عمقاً جغرافياً ومساهمة إستراتيجية لقدرات المبادرة. وبانضمام تركيا، توسعت نطاق المبادرة وعمقها، كما زادت القدرة على التعاون التكنولوجي وتطوير المبادئ المشتركة. كما يعزز هذا الانضمام الشبكة العسكرية الأستراتيجية لتركيا داخل حلف الناتو، ويمكّنها من تقديم مساهمات في بنية الدفاع الصناعي الأوروبي من خلال الأنظمة الدفاعية المتكاملة.
القبة الذهبية
وأُعلن عن مشروع القبة الذهبية (Golden Dome) في 20 مايو/أيار 2025 من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو مشروع متعدد الطبقات للدفاع الجوي يهدف إلى حماية الولايات المتحدة من التهديدات الصاروخية المتقدمة، وخاصة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والصواريخ الفرط صوتية، وصواريخ كروز. ويستخدم المشروع أجهزة استشعار وصواريخ اعتراضية أرضية وفضائية للكشف المبكر عن التهديدات وتدميرها. يستلهم النظام إلى حد كبير من إستراتيجية الحصى اللامع (Brilliant Pebbles)، التي كانت جزءًا من مبادرة الدفاع الإستراتيجي المعروفة بـ”حرب النجوم” والتي أطلقها الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات.
وقد قدر البيت الأبيض التكلفة الإجمالية المتوقعة للمشروع بحوالي 175 مليار دولار. وأعلن ترامب أن النظام يهدف إلى أن يصبح عمليًا بحلول يناير/كانون الثاني 2029. ومن جانبه وصف وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيت النظام بأنه “استثمار لأجيال في أمن أمريكا”.
وتم تصميم القبة الذهبية للعمل بشكل متكامل مع أنظمة رادار متطورة مثل (إل آر دي آر) وتهدف مكونات المشروع الفضائية إلى توفير ردع فعال ضد الأسلحة الفرط صوتية وأسلحة القصف المداري التي تطورها قوى كبرى مثل الصين وروسيا. إلا أن هناك مخاوف من أن يؤدي هذا إلى إحداث اختلال في التوازن الإستراتيجي وتحفيز سباق تسلح جديد. ورغم وجود احتمالات للتطوير المشترك ومشاركة التكنولوجيا مع حلفاء مثل كندا، فإن التكلفة العالية للنظام وتعقيداته الفنية تجلب معها تحديات سياسية ولوجستية كبيرة في التنفيذ.
الخاتمة
أصبح الدفاع الجوي والصاروخي من الأولويات الإستراتيجية القصوى للدول في ظل بيئة أمنية معقدة ومتغيرة باستمرار. إلا أن هذا الاحتياج يمثل تحدياً كبيراً من الناحيتين التقنية والتكلفة المالية. إذ يتراوح الطيف الواسع والديناميكي للتهديدات بين الصواريخ الباليستية، والطائرات المسيّرة الانتحارية (الكاميكازي)، وصواريخ كروز، والأنظمة الفرط صوتية، مما يستلزم تطوير حلول متخصصة ومتنوعة من حيث أجهزة الاستشعار، والأسلحة، وأنظمة القيادة والتحكم تناسب خصائص كل تهديد من حيث الارتفاع، والسرعة، والقدرة على المناورة. وهذا يجعل الدفاع الجوي نظاماً مكلفاً ومعقداً للغاية من الناحيتين التقنية والمالية. ومن ثم، فإن إقامة منظومة دفاع جوي “غير قابلة للاختراق” بصورة مطلقة أمر غير ممكن تقنياً، حتى أكثر الأنظمة تطوراً عرضة أحياناً لاختراقات وفشل في الاعتراضات، كما ظهر جلياً في صعوبات الدفاع الإسرائيلي أمام الصواريخ الإيرانية، رغم الدعم التكنولوجي غير المحدود الذي تتلقاه من الولايات المتحدة.
مع ذلك، لا تلغي هذه التحديات أهمية الدفاع الجوي، بل على العكس، فهو ضروري لتحقيق الردع الإستراتيجي، وإدارة الأزمات، والحفاظ على القوة في أوقات الحرب. ولا يمكن لأي دولة حديثة أن تسيطر بفعالية على أجوائها بمجرد الاعتماد على الطائرات المقاتلة والرادارات فقط، بل تحتاج إلى منظومة متكاملة من الإنذار المبكر، والقيادة والسيطرة، والتدخل المتكامل. وفي هذا الإطار، تمثل بنية “القبة الفولاذية” التي تطورها تركيا مثالاً ليس فقط على نظام دفاعي، بل أيضاً على مستوى التطور التكنولوجي الوطني وأهمية الاستقلالية الاستراتيجية للدولة.
وتقدم القبة الفولاذية، بفضل منظومة صواريخ “حصار”، ونظام “سيبر” طويل المدى، ونظام المدفعية “كوركوت”، والرادارات الحديثة، وبنية القيادة والسيطرة “حاكم”، حلاً متعدد الطبقات، مرناً، ومتكاملاً للتصدي لأنواع التهديدات المختلفة. وتم تطوير هذا النظام بكفاءة وطنية ومحلية، مما يقلل اعتماد تركيا على الخارج، ويسهل التكامل مع أنظمة الحلفاء. كما أن النظام لا يخدم الأغراض العسكرية فحسب، بل يمتد لحماية البنى التحتية الحيوية مثل شبكات الطاقة، والمدن، والقواعد العسكرية، وهو يعكس أيضاً نضج وقدرة الصناعة الدفاعية التركية.
أخيراً، الدفاع الجوي ليس مجرد قدرة قتالية، بل هو رسالة إستراتيجية بحد ذاته. لا سيما مع الوضع الجغرافي لتركيا والتهديدات المحيطة بها، فإن امتلاك هذه القدرة يعد ركيزة أساسية للأمن الوطني. ومن هذه الناحية، تمتلك القبة الفولاذية المرونة والقاعدة التكنولوجية اللازمة لمواجهة تهديدات اليوم والتكيف مع بيئة الحروب المستقبلية. لذلك، يمثل هذا النظام قفزة نوعية في صناعة الدفاع التركية، وعامل ردع استراتيجي هام على مستوى التخطيط العسكري.
المصدر: كريتر درغي