قال سفير تركيا في السودان فاتح يلدز في 9 أغسطس/ آب الحالي إنه ناقش مع عضو مجلس السيادة نوارة أبو محمد مساهمة بلاده في الجهود التي تبذلها حكومة الخرطوم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وأوضح أن تركيا تعمل حاليًا من ميناء بورتسودان، حيث تُركز بشكل خاص على تطوير الموانئ البحرية ومشاريع إعادة الإعمار، مؤكدًا التزام أنقرة بتعزيز التعاون مع السودان من خلال جلب رجال الأعمال ورؤوس الأموال للاستثمار في مجال التنمية الصناعية والاستثمارية بما يخدم المجتمعات السودانية.
وأبدى فاتح يلدز في 25 مارس/ آذار السابق، خلال لقاء مع مدير هيئة الموانئ البحرية جيلاني محمد جيلاني، رغبة بلاده في شراكات استثمارية مع الموانئ السودانية، وبناء توأمة بين ميناء مرسين التركي وميناء بورتسودان، إلى جانب نقل تجارب وخبرات رجال الأعمال الأتراك.
يقع ميناء بورتسودان في مدينة تحمل ذات الاسم، اتخذتها الحكومة مقرًا مؤقتًا لإدارة شؤون البلاد بعد الدمار الواسع الذي لحق بالعاصمة الخرطوم، جراء النزاع الذي اتخذته مليشيا الدعم السريع وسيلة لتدمير البنية التحتية الحيوية فيها، بما في ذلك محطات المياه والكهرباء ومصفاة تكرير النفط.
ويحتاج ميناء بورتسودان، الذي يضم موانئ فرعية منها الجنوبي للحاويات، والشمالي المستخدم لاستيراد السلع، وبشائر المخصص لتصدير نفط جنوب السودان، إلى تأهيل شامل لتمكينه من استقبال السفن الضخمة وإرضاء العمال الذين يعترضون على محاولات تحديث الميناء خشية فقدان وظائفهم.
وضع حد لطموح أبو ظبي
ولم تُبدِ تركيا سابقًا رغبة في الاستثمار في ميناء بورتسودان، إذ توجهت أنظارها إلى جزيرة سواكن التي تضم ميناءً مخصصًا لنقل المسافرين وتصدير الماشية، حيث وقعت اتفاقًا لإعادة ترميم المدينة التاريخية التي كانت مركزًا لنقل الحجاج خلال الحقبة العثمانية.
وبالفعل، شرعت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” في إعادة ترميم العديد من المباني في الجزيرة، من بينها مبنى الجمارك الذي شهد قبل أيام حفلًا نظمته مبادرة شعبية للتعبير عن شكر أنقرة، حضره السفير فاتح يلدز ومسؤولون في وزارتي الخارجية والإعلام.
شاهد | متحدثا باللغة العربية.. السفير التركي في السودان فاتح يلدز يتحدث عن عمق الصداقة التركية السودانية وذلك خلال حفل خاص أقامه سودانيون تحت عنوان “شكرًا تركيا شكرًا أردوغان” في مدينة سواكن.
🇹🇷 🇸🇩 pic.twitter.com/gxII92jhvn
— وكالة أنباء تركيا (@tragency1) August 10, 2025
ومقابل ذلك، ظلت الإمارات تسعى إلى الحصول على تواجد طويل الأمد في موانئ السودان على البحر الأحمر، حيث تقدمت بعرض عبر شركة موانئ دبي لتشغيل ميناء بورتسودان رفضته الحكومة، وعادت الشركة بعرض جديد في 2017 إلى هيئة الموانئ البحرية السودانية يتضمن إدارة ميناء بورتسودان لمدة 50 عامًا، قُوبل بالرفض أيضًا.
وبعد عزل الرئيس عمر البشير في 2019، توسع نفوذ قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، حيث تولى عدة مناصب رفيعة أبرزها نائب رئيس مجلس السيادة، مما جعله يطمح في إنشاء قاعدة عسكرية في ولاية البحر الأحمر، ربما بإيعاز من الإمارات، لكن مساعيه باءت بالفشل.
وأزاء هذا الفشل، تقدمت الإمارات في يونيو/ حزيران 2022 بعرض ضخم اضطرت السلطات العسكرية إلى قبوله نظرًا إلى الضائقة المالية التي كانت تعاني منها آنذاك، ويتمثل العرض في استثمار بمبلغ 6 مليارات دولار لإنشاء ميناء جديد يقع على بُعد نحو 200 كيلومتر إلى الشمال من بورتسودان، يشمل منطقة تجارية وصناعية حرة، ومطارًا دوليًا صغيرًا، وتطوير مشروع زراعي في شمال السودان.
وأعلنت الحكومة، بعد تورط الإمارات في تمويل وتسليح مليشيا الدعم السريع، إلغاء ترتيبات إنشاء الميناء الجديد، قبل أن تقطع الخرطوم علاقاتها مع أبو ظبي بعد تعثر العديد من المساعي لإنهاء التوتر بين البلدين، بما في ذلك مبادرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
نقاط قوة
يبلغ حجم التبادل التجاري السنوي بين أنقرة والخرطوم قرابة 500 مليون دولار، فيما تبلغ الاستثمارات التركية في السودان حوالي 650 مليون دولار، حيث تعمل في البلاد أكثر من 200 شركة تركية في مجالات الإنشاءات والخدمات والعقارات.
تتمتع تركيا بسمعة طيبة في السودان، نظرًا إلى عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد التي تعيش في خضم أزمة سياسية متطاولة، جعلت العديد من الدول، بما في ذلك الإمارات، تسعى إلى تأمين مصالحها عبر الوقوف مع أحد أطراف الأزمة التي بلغت ذروتها باندلاع الحرب الحالية في 15 أبريل/ نيسان 2023.
وتفضل أنقرة العلاقات الرسمية مع الدولة السودانية، حتى إنها تُنسق مع وزارة الصحة في استمرار تقديم الدعم إلى المستشفى التركي في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور الخاضعة لسيطرة المليشيا.
وقال المحلل الاقتصادي هيثم فتحي إن تركيا تملك تجارب ممتازة في تحديث الموانئ البحرية في عدة دول، مما يعزز التوقعات بتكرار النجاح في إعادة تأهيل ميناء بورتسودان.
وأوضح لـ”نون بوست” بأن تحديث الموانئ السودانية يعد أولوية قصوى في مرحلة إعادة الإعمار لاستقبال واردات البناء، كما تستطيع الحكومة ضمن توجهاتها الجديدة الخاصة بدعم القطاع الخاص فتح المجال أمام تدفق الاستثمارات التركية.
وأفاد فتحي بوجود تحديات قد تعرقل رغبة تركيا في تحديث ميناء بورتسودان، منها تعقيد الوضع السياسي والتمويل والدعم المالي الدولي، فيما يضيف الخبير الاقتصادي الطيب أبو عاقلة تحديًا إضافيًا يتمثل في عدم فصل الاستحواذ على الموانئ عن الصراع الإقليمي على النفوذ، مؤكدًا قدرة البلدين على تجاوز هذه التحديات.
ويوضح أبو عاقلة لـ”نون بوست” أن تركيا تمتلك خبرة طويلة في إدارة وتشغيل الموانئ، سواء من خلال شركاتها الحكومية أو القطاع الخاص، كما أنها تملك سجلًا إيجابيًا في تنفيذ مشاريع البنية التحتية في إفريقيا وآسيا.
ويضيف: “التعاون التركي–السوداني في هذا المجال قد يؤدي إلى نقل التكنولوجيا، وتدريب الكوادر المحلية، ورفع كفاءة التشغيل، وهو ما سينعكس على زيادة حجم التبادل التجاري، وتقليص فترات انتظار السفن، وجذب مزيد من خطوط الشحن الدولية”.
ماذا يحدث تاليًا؟
يحتاج السودان حاليًا، بعد أن دمّر النزاع البنية التحتية الحيوية في الخرطوم، إلى استقطاب الاستثمارات، لذلك لا يُتوقع أن يرفض رغبة تركيا في تحديث ميناء بورتسودان، الذي تكمن أهميته في وقوعه في منتصف المسافة تقريبًا بين آسيا وشرق أوروبا، ما يجعله مؤهلًا ليصبح مركزًا لصيانة وتأهيل السفن.
إذًا، كل المعطيات تشير إلى أن السودان يتجه نحو شراكة استراتيجية أعمق مع تركيا لتطوير ميناء بورتسودان، الذي يحتاج إلى تحديث الأرصفة، وتوسيع مناطق التخزين، وإدخال أنظمة تشغيل آلية، وبناء مرافق جديدة قادرة على استقبال السفن العملاقة.
ويبدو أن رغبة أنقرة في الاستحواذ على الموانئ تبتعد عن محاولات تعزيز نفوذها في الإقليم، إذ يمنحها السيطرة على ميناء بورتسودان، خاصة إن شمل الاتفاق إدارته على غرار اتفاق جزيرة سواكن، أن تكون لاعبًا مؤثرًا في واحد من أهم الممرات البحرية العالمية.
ولا شك أن قدرة تركيا على احتواء ردود الفعل الإقليمية، خاصة من السعودية، حول إيجادها موطئ قدم في ساحل السودان الذي يمتد إلى 800 كيلومتر – نحو 1370 ميلًا بريًا – سيحدد مستقبل ميناء بورتسودان، الذي ستكون الخرطوم أكبر مستفيد من تحديثه في ظل الوضع الراهن.
ورغم أن احتمال حدوث عراقيل قائم، إلا أن أنقرة تستطيع تخطيها، لا سيما وأن شرق السودان ظل بعيدًا عن الصراع، فيما تعرضت مدينة بورتسودان لهجمات بطائرات مسيرة قبل أشهر، بعدها أجرى الجيش تحديثًا على أنظمة الدفاع الجوي، مما يمنع تكرارها.
في النهاية، لن يوافق السودان على استحواذ الإمارات على أي ميناء في أراضيه، خاصة وأنها لا تفكر في تعزيز التجارة، وإنما تضع الأمر ضمن أدوات السياسة الخارجية للسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي، وهذا لن يحدث في السودان بعد دعمها المتواصل للمليشيا، مما يعني أن أبواب البحر أُغلقت في وجهها تمامًا.
ولا تملك الإمارات فعل شيء لعرقلة تحديث الميناء، بعد أن نفذت معظم كروت الضغط التي تملكها على السودان، بما في ذلك منع الطائرات السودانية من الهبوط في مطاراتها، بينما ستضطر إلى وقف تمويل وتسليح الدعم السريع أو الحد منه حال اكتمال مساعي تصنيف المليشيا جماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة.