تحت ضغطٍ عالمي وأخلاقي متصاعد، أعلنت الحكومة الألمانية مؤخرًا تعليق تزويد تل أبيب بأي أسلحة يمكن استخدامها في العمليات داخل قطاع غزة، وذلك بعد أيام من إقرار حكومة الاحتلال خطة لاحتلال القطاع بالكامل. خطوة وصفتها بعض الصحف الإسرائيلية بـ”الزلزال”، لما تحمله من دلالة على تحوّل واضح في موقف برلين تجاه حليفها التقليدي، بعد أن كانت من أكثر العواصم الأوروبية تمسكًا بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
يُنظر إلى هذا القرار بوصفه محاولة ألمانية لإيجاد توازن جديد بين التزاماتها التاريخية تجاه “إسرائيل”، وبين مقتضيات القانون الدولي الإنساني، وضغوط الرأي العام والمؤسسات القضائية داخل ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل القرار الألماني ونطاقه وحدوده القانونية، ونرصد الرد الإسرائيلي الرسمي وحجم الغضب الذي أثاره، كما نعرض بالأرقام حجم الصادرات العسكرية الألمانية إلى “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، لنبحث في النهاية كيف يمكن أن ينعكس هذا القرار على قدرات جيش الاحتلال في الميدان.
ما الذي حدث؟
في 8 أغسطس/آب 2025، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن بلاده قررت وقف تصدير أي أسلحة يمكن استخدامها في قطاع غزة “حتى إشعار آخر”، في خطوة جاءت ردًّا على قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي باحتلال قطاع غزة بالكامل.
وأوضح ميرتس أن ألمانيا ما زالت تعترف بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس”، لكنها تعتبر أن إطلاق سراح الأسرى والدخول في مفاوضات جدية لوقف إطلاق النار يمثلان أولوية قصوى.
وأضاف أن برلين ترى في “نزع سلاح حركة حماس وعدم منحها أي دور في مستقبل غزة” شرطًا أساسيًا، لكن التصعيد العسكري الأخير من جانب إسرائيل يجعل تحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة. وأكد أن ألمانيا، رغم كونها أكبر مصدر أوروبي للأسلحة إلى “إسرائيل”، تشعر بقلق بالغ إزاء المعاناة المستمرة للمدنيين في غزة.
مشددًا على أن “الهجوم المخطط له يضع على عاتق الحكومة الإسرائيلية مسؤولية أكبر لتلبية احتياجات السكان”. كما دعا ميرتس تل أبيب إلى الامتناع عن أي خطوات إضافية نحو ضم الضفة الغربية.
تفاصيل القرار
ماهيّة التعليق؟
يوقف قرار برلين الصادر مؤخرًا منح أي تراخيص جديدة لتصدير الأسلحة، إضافة إلى تعليق التسليمات الجارية، لكل ما يمكن أن يُستخدم مباشرة في العمليات داخل قطاع غزة. ويتضمن ذلك -وفق البيان الحكومي-الأسلحة الخفيفة والذخائر، وأنظمة التهديف والاتصال العسكرية، وقطع الغيار الحيوية، وبعض المكوّنات الإلكترونية ذات الاستخدام العسكري الواضح. فيما يهدف القرار إلى منع وصول أي معدات قد تُحدث “أثرًا قتاليًا مباشرًا” في ساحة غزة.
ما هو الإطار القانوني؟
استند القرار إلى مزيج من قانون مراقبة أسلحة الحرب الألماني وقانون التجارة الخارجية إضافة إلى الموقف المشترك للاتحاد الأوروبي 2008/944 الخاص بمعايير تصدير السلاح (خاصة معيار احترام القانون الدولي الإنساني ومبدأ منع تفاقم النزاعات). عمليًا، يعني ذلك أن أي طلب ترخيص يُفحص الآن بمبدأ “الافتراض بالرفض” إذا وُجد احتمال معتبر لاستخدامه في غزة.
ما الذي لا يشمله التعليق؟
– المعدات ذات الاستخدام الإنساني/الإنقاذي البحت (مثل تجهيزات الحماية المدنية والإجلاء الطبي).
– بعض الاستخدامات المزدوجة التي يمكن ضمان عدم تحويلها عسكريًا، بشرط وجود قيود وشهادات مستخدم نهائي صارمة.
– عقود الصيانة الروتينية التي لا تضيف قدرة قتالية جديدة ولا تُسهِّل استخدامًا مباشرًا في غزة وحتى هذه سيتم مراجعتها كل على حدى حسب الحالة.
كما فرّق القرار بين أنواع العقود والتراخيص؛ فالتراخيص التي مُنحت ولم تُنفذ بعد ستُجمّد فورًا، أما الشحنات التي سُلّمت بالفعل فلن يشملها القرار. وبالنسبة للعقود الجارية حاليًا، فستخضع لمراجعة سريعة وقد تُوقف إذا تبيّن احتمال استخدامها في غزة، مع منح الشركات حق الاعتراض أمام الهيئة الاتحادية للرقابة على الاقتصاد والتصدير (BAFA).
أما فيما يخص نطاق المراجعة الزمنية، فلم يتم تحديدها سلفًا، لكن ستجري مراجعتها بشكل منتظم كل شهر وكل ثلاثة أشهر، لمتابعة تطورات الأوضاع في غزة، ومدى الالتزام بالقانون الدولي، وتأثير القرار على الإمدادات الدفاعية لألمانيا وأوروبا.
مع التشديد على أن أيّ قرار بتخفيف الحظر سيكون مرتبطًا بتغيّر الظروف، مثل إلغاء خطة الاحتلال الكامل، وتقديم ضمانات إنسانية يمكن التحقق منها، ووضع آليات واضحة لمتابعة استخدام الأسلحة.
كيف جاء الرد الإسرائيلي؟
أثار قرار برلين تعليق تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل” موجة انتقادات حادة في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية. فقد وصفت صحيفة يديعوت أحرونوت الخطوة بأنها “طعنة في الظهر” من شريك استراتيجي طالما وقفت ألمانيا إلى جانبه سياسيًا وعسكريًا.
ورأى مسؤولون في حكومة الاحتلال أن القرار يمثل سابقة خطيرة، لكون ألمانيا واحدة من أكبر مزوّدي الجيش الإسرائيلي بالسلاح داخل الاتحاد الأوروبي.
وعلى الصعيد الرسمي، عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن “خيبة أمله” من الموقف الألماني، وذلك خلال مكالمة هاتفية مع المستشار فريدريش ميرتس، بحسب بيان صادر عن مكتبه. كما حاول نتنياهو التخفيف من وقع القرار بالتأكيد على أن “هدف إسرائيل ليس السيطرة على غزة، بل تحريرها من حماس وتمكين إقامة حكومة سلمية هناك”، على حد وصفه.
ماذا يعني قرار الحظر؟
يمثل قرار ألمانيا تعليق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل تحولًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين منذ عقود، إذ ينقل برلين من موقع الدعم غير المشروط إلى فرض قيود مرتبطة بسلوك “إسرائيل” الميداني.
كما يضع هذا الموقف ضغوطًا مباشرة على سلاسل الإمداد العسكري الإسرائيلية، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا أو المكوّنات الألمانية، مثل أنظمة الاتصالات المتطورة والمعدات المدرعة.
على المستوى الرمزي، يوجّه الحظر رسالة واضحة لحلفاء إسرائيل في أوروبا بأن استمرار العمليات العسكرية في غزة على النهج الحالي لم يعد مقبولًا سياسيًا أو قانونيًا، ما قد يدفع دولًا أخرى لاتخاذ مواقف مماثلة، ويهيئ لمراجعة أوسع للعلاقات الدفاعية الأوروبية مع تل أبيب.
شرطة برلين تعتدي على متظاهرين خرجوا رفضًا لتجويع غزة ودعمًا لأهلها، مستخدمة ضدهم وسائل قمعية مهينة. pic.twitter.com/d9cAylqVKv
— نون بوست (@NoonPost) July 25, 2025
ويُنظر إلى هذه الخطوة أيضًا كإجراء جريء من المستشار فريدريش ميرتس، الذي كان قد صرّح بعد فوزه بالانتخابات في فبراير/شباط بأنه سيدعو نتنياهو لزيارة ألمانيا، في تحدٍ لمذكرة الاعتقال الصادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية، وفق ما نقلته وكالة رويترز.
ما حجم الصادرات العسكرية الألمانية لإسرائيل؟
تحتل ألمانيا المرتبة الثانية عالميًا بين مصدري الأسلحة إلى إسرائيل، بحصة بلغت نحو 30% من وارداتها بين عامي 2019 و2023، وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. وتشمل الصادرات الألمانية في الغالب غواصات وسفن حربية، ومحركات للمركبات البرية والبحرية والطائرات، إضافة إلى طوربيدات للغواصات.
في عام 2022، وقّعت إسرائيل صفقة ضخمة بقيمة 3.3 مليارات دولار مع برلين لشراء ثلاث غواصات ديزل متطورة من طراز داكار، المقرر تسليمها عام 2031، لتحل محل غواصات دولفين الألمانية التي تشغلها البحرية الإسرائيلية حاليًا.
عام 2023 شهد قفزة غير مسبوقة في مبيعات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، إذ بلغت 361 مليون دولار -أي عشرة أضعاف قيمة الصادرات في 2022- وكانت غالبية التراخيص الممنوحة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وشملت هذه الصادرات 3000 سلاح مضاد للدبابات محمول، و500 ألف طلقة ذخيرة للأسلحة النارية الآلية أو شبه الآلية، إضافة إلى مركبات برية وتقنيات لتطوير وتجميع وصيانة الأسلحة.
كما سلّمت ألمانيا محركات ديزل لدبابات ميركافا-4 التي تُستخدم في الغزو البري لغزة، وهي الدبابات التي ارتبط اسمها بهجمات واسعة على المدنيين والبنية التحتية في القطاع.
ووفق صحيفة فايننشيال تايمز، أنشأت برلين في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 “مجموعة عمل” تضم وزارتي الخارجية والاقتصاد ومكتب مراقبة الصادرات، بهدف تسريع الموافقات على طلبات السلاح الإسرائيلية.
بقدر ما يحمل موقف برلين الجديد أبعادًا عملية قد تؤثر على قدرات جيش الاحتلال في مجالات محددة، فإنه يحمل أيضًا رسالة سياسية قوية إلى تل أبيب يفيد بأن استمرار العمليات في غزة على نهجها الحالي لم يعد مقبولًا في العواصم الأوروبية الكبرى.
وبينما سيظل تأثير القرار على المدى البعيد مرتبطًا بمدى اتساعه وانضمام دول أخرى إليه، فإنه بلا شك يفتح فصلًا جديدًا في علاقة برلين بتل أبيب، فصلًا تحكمه حسابات السياسة والقانون الدولي أكثر من منطلقات التضامن التاريخي.