“شاب مصري يغلق سفارة بلده في مدينة لاهاي احتجاجا على موقف النظام من الحرب على غزة”، خبرٌ بدا عابرًا للوهلة الأولى قبل نحو شهر، شكّ البعض في البداية بجدوى هذا العمل، فمن يسمع صوت إنسانٍ واحد؟، لكن المفاجأة أننا سمعنا صدى صوته في أماكن كثيرة، وها نحن نرى الأثر وهو يتمدد، والجدوى صارت واضحة.
انضم للفكرة كُثر، فاحتجوا أمام سفارات مصر ودول أخرى في أكثر من 25 مدينة، منهم من أقفل أبوابها ومنهم من اكتفى بالتظاهر، “فتدحرجت كرة الثلج” كما يقول صاحب الخطوة الأولى في هذا العمل، وعلى الأرض ثمة أحداث يرى مراقبون أنها ناتجة عن هذا الحراك، منها حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن الحرب ووحشية الاحتلال بطريقة لم يسبق له أن تحدث بها، وسماح الاحتلال بإدخال بعض المساعدات والبضائع للقطاع، لم تنتهِ المجاعة، ولم تتوقف الحرب، لكن شيئا تغيّر بالفعل.
في هذا الحوار، يتحدث الشاب المصري أنس حبيب لـ”نون بوست” عن نفسه، وعن حِراكه، وعن التحرك الفردي كفكرة…
الظلم قضيةٌ شخصية
يُعرّف أنس حبيب نفسه بأنه “شاب مصري، مثل أي مصري أحمل، هم القضية الفلسطينية، ففلسطين وغزة بالنسبة لنا شيء كبير جدا، لم أدخلها لكني تربّيت على أنها أرضنا، لا تنفصل عنا، وأن الفلسطينيين منّا ونحن منهم، هم أهلنا، نحبهم ويحبوننا، وقبل هذا يوجد رابط الدين والأخوّة، لذا لا يمكن التخلي عن هذه الأرض”.
ومن أساسات هذه التربية، أن صورة كبيرة كانت معلّقة في مدخل بيته لمؤسس حركة المقاومة الإسلامية الشيخ أحمد ياسين، وعنها يقول: “كنت أراها كلما خرجت من البيت أو دخلته، أراها كلما ذهبت للمدرسة أو للنادي أو لأي مكان”.
أنس (27 عاما)، ابن مدينة “دمنهور”، اعتُقل في مصر لمدة عامين وهو في الخامسة عشر من عمره، أكمل خلالها دراسته الثانوية، وغادر مصر بعد الإفراج عنه، وكان مقتل صديقه في مظاهرة رافضة للانقلاب عام 2014 نقطة تحول في حياته، ويقيم في هولندا منذ ست سنوات.
كان لاعتقاله، ومقتل صديقه على يد قوات الأمن أثر كبير على نظرته للحياة، خاصة أنها عاش التجربتين طفلا.
يقول: “كان وقع مقتل صديقي عليّ صعبا للغاية، تولّد عندي إصرار على النضال، رغم صغر سني تملّكتني فكرة أن حقه يجب ألا يضيع، ولأني كنت طفلا، لم أكن أفهم كيف أفعل ذلك، فقررت أن أشارك في المظاهرات، دون معرفة جدواها، فالوعي السياسي عندي لم يكن مكتملا، ولم أكن أعرف طرق التغيير”.
ويضيف: “تلا ذلك الاعتقال والظلم البيّن والافتراء على طفل لم يكمل 16 سنة، وتم تلفيق تهم لي، ما جعلني أدرك مدى وحشية وإجرام الممسكين بالسلطة، ومن هنا اختلفت نظرتي للحكّام وللحياة”.
ويتابع: “بدأت أقدّر أمورًا لم أقدرها من قبل، أنظر لمشاكل الناس ولأي مظلمة بشكل شخصي وإن لم تكن تخصني، صار الظلم من أكثر ما أكره، أمقته بشدة”.
“مع العمر، وقراءة القرآن، فهمت أن ديننا ينهانا عن الظلم، فتكوّنت عندي فكرة أنني كمسلم أكره الظلم، وأحب الحق لأي شخص ولو على حسابي”، كما يوضح.
كل هذا لم يكن بعيدا عن طوفان الأقصى، يربط حبيب بين الأحداث المختلفة: “هي مرحلة مستمرة من فترة طويلة، بدأت من قبل بالاعتقال، فكان محطة ضمن محطات أخرة كالغربة، ثم جاء الطوفان فأحيا أجزاء ميتة، أحيانا جميعا”.
بداية الفكرة
على مدار عامين تقريبا، شارك حبيب في المظاهرات والفعاليات المُناصرة لغزة، اعتقلته الشرطة مرّتين، وقصدت بيته مرّتين أيضا، وشعر بالعجز كثيرا، إلى أن أغلق السفارة.
عن الظروف السابقة لفكرة إغلاق السفارة، يوضح: ” في هولندا، حيث أعيش، كل الفتن موجودة، حتى المُتع الحلال، ألعب كرة القدم، وأهتم بالتمارين في النادي، وكأي صانع محتوى، كنت قبل الإبادة أصور وأنشر وأُجري المقابلات، أما بعدها فإن أردت نشر صورة لمنظر طبيعي مثلا أسأل نفس: ما الفائدة من نشرها بينما القتل مستمر؟ ماذا بعد؟ ما يزال الناس يموتون، والعالم يتآمر عليهم، والنظام المصري مشارك في ذلك، ومن هنا نتج ألم نفسي كبير جدا لا يمكن أن أحيا به، لا متعة، ولا معنى ولا طعم لأي شيء، وكل هذه الأفكار تُصعّب الحياة وتجعلها مستحيلة”.
ويبين: “مررت بأوقات لم أستطع خلالها كتابة شيء عن الإبادة، وأُصبت بالإحباط، كنت أتخطى المشاهد القادمة من غزة لعدم قدرتي على رؤيتها، جربت عمل كل شيء ولكن لا تغيير يحصل، أتساءل ماذا أفعل وأنا بعيد بمسافات طويلة عن فلسطين، لو تذهب روحي في سبيل الله لا مشكلة، المهم أن أفعل شيئا مفيدا على الأرض”.
ويؤكد: “هذه أفكار لو لم تراود الفرد كمسلم وكإنسان فثمة خلل”.
جاء كل هذا مع مشاهد التجويع والضغط على الغزيين للقبول بأي اتفاق، وهو ما لم يتحمله حبيب، فاتخذ قرارا بضرورة فعل شيء دون انتظار مبادرة أو مشاركة من أحد، واختار أن يحتج عند السفارة المصرية في هولندا دون تصوّر واضح لشكل الاحتجاج، لذا لم يشرح أي تفاصيل في منشوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي حين كتب عن نيّته التوجّه للسفارة.
اتصل بشقيقه ليخبره، فنبهه لاحتمال اعتقاله، لكنه لم يتردد، وتقابلا في اليوم التالي أمام السفارة في لاهاي، وهناك سأله أخوه: “ماذا ستفعل؟”، كانت الإجابة: “لا أعرف، أحضرت معي دقيقا وبيضا ولم أقرر بعد كيف سأستخدمهما”.
اقترح عليه أخوه أن يربط نفسه بباب السفارة احتجاجا، فلمعت شرارة فكرة أخرى عنده، سأل نفسه: “لمَ أربط نفسي؟ ولمَ لا أغلق أنا عليهم؟، سأفعل بهم ما يفعلوه بأهل غزة”، فاشترى الأقفال فورا، وشرع بالتنفيذ.
بينما ينقل ما يفعله ببث مباشر على “فيس بوك”، أغلق بابي السفارة بالأقفال، وسرعان ما تطور المشهد مع وصول أشخاص قصدوها لإتمام بعض المعاملات، منهم من اعترض ودافع عن موقف النظام المصري من الحرب، فدارات بينه وبينهم حوارات قائمة على الربط بين هذا الغلق وحصار غزة، بأسلوب ساخر وفيه قدر كبير من الاستهزاء.
الشاب الذي كان يدعو الله: “يا رب وجّهني”، ويقسم أنه لم يكن قد وضع خطة عندما بدأ، تفاجأ بالنتائج.
يقول: “اكتمل المشهد بهذا الشكل بتوفيق من الله بصورة عجيبة، لم أكن أفهم ما يحصل، من حيث شكل الحوارات الدائرة أمام بوابة السفارة، وسرعة ردود الفعل من طرفي، وسلاسة الكلام على لساني، هو توفيق إلهي، ربما لأن الله يعرف الحسرة والقهر في نفسي، وبأنني في حال لا يسمح باستمرار حياتي ولا مواصلة عملي”.
كيف علّق النشطاء على إقدام البطل “أنس حبيب” على إغلاق السفارة المصرية في هولندا، احتجاجًا على إغلاق معبر رفح في وجه المجوّعين في غزة؟ pic.twitter.com/5KYjh6i7Pd
— نون بوست (@NoonPost) July 22, 2025
في تلك اللحظات، جرت على لسانه عبارة “مقفول من عندهم”، وهي “كلمات مناسبة تماما للموقف، إذ تعتمد على الحجة التي يتذرع بها النظام المصري لتبرير موقفه من غزة، رغم أن معبر رفح البري لم يكن مُحتلا في الأشهر الأولى من الحرب، ومع ذلك لم تكن المساعدات تدخل بسهولة، وكانت الذريعة وقتها الخوف من قصفها، وهذا دليل ضعف، فمصر تملك وسائل ضغط كثيرة يمكن استخدامها لنصرة غزة”، وفق رأيه.
كانت هذه العبارة، وغيرها مثل: “شفتو الحصار بيزعل ازاي؟”، جزءا من أسلوب ساخر اتبعه منذ بدأ حراكه، عن أسلوبه، يوضح: “نحن المصريين نصف أنفسنا بأننا (شعب ابن نكتة)، غالبا نلجأ للسخرية لشرح الأمور، فأحيانا تكون أكثر قدرة من الجدية على توصيل المعاني”.
لماذا السفارة المصرية؟
وجدت فكرة هذا الحراك ردًّا مُكررا على ألسنة كثير من مؤيدي النظام المصري، قالوا: إن “العدو في تل أبيب، والاحتجاج يكون أمام سفاراته”، وحتى ضيفنا كان يظنّ ذلك سابقا، لكن تفكيره تغيّر مؤخرا، وتأكد من صحة طريقه عندما بدأ أثر تحرّكه بالظهور.
يقول: “كنت أظن دوما أن الطريقة الأنسب للاحتجاج والأكثر قدرة على تحقيق النتائج هي التظاهر أمام سفارات الكيان وحرق أعلامه، وشاركت في فعاليات كثيرة لأجل غزة على مدار عامين، ولكن لما غيرنا طريقتنا رأينا المساعدات تدخل القطاع”.
ويضيف: “ومع ذلك، ولكي أقطع هذه الموجة من الاعتراض على فكرة إغلاق السفارة المصرية، توجهت للسفارة الإسرائيلية، لكن مكانها غير واضح، مختبئة في مبنى بلا علم مرفوع عليها”.
حبيب الذي بدأ احتجاجه بمحاولة إبراء الذمة من التهاون في نصرة غزة، تفاجأ بحجم التفاعل بدرجة لم يتوقعها مطلقا، ووجد أعداد كبيرة جدا من الراغبين بعمل شيء حقيقي.
توسّعت الاحتجاجات، وامتدت لتشمل وقفات أمام سفارات مصرية وعربية في دول أخرى، مع إغلاق أبواب بعضها بالأقفال.
سمح الاحتلال بإدخال مساعدات وبضائع لقطاع غزة عبر المعابر البرية أو بإنزالات جوية، ومن المعلوم أن الإنزالات الجوية تتسبب في قتل الناس، وتكون بكميات بسيطة جدا، وما دخل عبر المعابر قليل جدا، لكن على الأقل دخل القطاع شيء بعد طول حصار.
وخلال تلك الفترة، ظهر السيسي في خطابين تحدّث خلالهما بنبرة جديدة ومختلفة كُليًّا عن خطاباته السابقة، وأكّد في حديثه على ضرورة فتح معبر رفح وإدخال المساعدات للقطاع.
عملٌ مُجدي وقانوني
وعن التحرك الفردي كفكرة، يرى أنه مجاله واسع، ومُتاح قانونيا في كثير من الدول، بالإضافة إلى جدواه الكبيرة، موضحا: “نظرتي لجدوى الحراك الفردي اختلفت تماما، كنت سابقا أتساءل هل ما أفعله ماذا سيُغيّر شيئا؟، وجدت أنه فعلا يُغير بإرادة الله”.
يتحدث حبيب رابطا الواقع بالدين كما في أغلب كلامه، يقول: “إن قصة نبي الله إبراهيم يمكن أن تحمل إرشادات للنجاح في هذا النوع من العمل، أولا الخوف من الله فقط، ثم الأخذ بالأسباب الدنيوية، والذكاء في التخطيط والتعامل مع المحيط وإثبات الحجّة”.
ويضيف عن البُعد القانوني للحراك الفردي: “قد يعود هذا العمل على فاعله بتبعات قانونية كبيرة أو صغيرة، لكن طالب الحق يدفع الثمن سواء كان غرامة أو اعتقال أو الموت في سبيل الفكرة”.
ويتابع: “يمكن أن نكون أذكياء في هذا الجانب، فلو المُحتَج في أوروبا، فلينظر إن كان العمل يؤثر على جنسيته وإقامته، إن لم يكن يؤثر فليشرع به، وأغلب الاحتجاجات السياسية مثل إلقاء طلاء على السفارة، أو الكتابة على جدرانها لا تؤثر على شيء”.
ويواصل: “المساحات القانونية في الغرب تسمح بتحرك فردي ضاغط ومؤثر، فمثلا في حال إغلاق السفارة وإلقاء الطلاء على جدرانهاـ فإن أقصى عقوبة مُحتملة الحبس ليلة واحدة، أو دفع غرامة، والغرامة يمكن جمعها عبر روابط التبرع بسهولة”.
“أنس حبيب” يعود ليغلق السفارة الأردنية في هولندا، بعد أن أغلق السفارة المصرية سابقًا، احتجاجًا على مشاركة البلدين في الحصار على غزة والمساهمة في تجويع أهلها. pic.twitter.com/m2zWSWuGHA
— نون بوست (@NoonPost) July 23, 2025
لكن الأمر يختلف عربيا، فنتيجة الاحتجاجات قد تصل للاعتقال الطويل والتعذيب وربما القتل، ومثال ذلك مصير الشباب الذين اقتحموا “قسم المعصرة” واحتجزوا ضباطا، فقد أكّد حبيب مقتل اثنين منهم.
لذا يرى حبيب أن “الحل يكمن في تحرك ثوري يحرك كرة ثلج لا يستطيع النظام وقواه الأمنية مواجهتها”.
الثمن المدفوع لا يتوقف عند الجانب القانوني وتبعاته، يمتد لحياة الإنسان كلها، مثل تأثير الانشغال بها على العمل والعلاقات الاجتماعية ووقت الأسرة، وهذا ما حدث مع حبيب، لكنه مؤمن أنها “ضريبة الحق”، وأن “أي ثمن لا يساوي شيئا أمام ما يدفعه أهل غزة”.
منذ بدء الإبادة، تعددت التحركات الفردية، لكن أيًا منها لم يتوسع كما حصل مع حبيب، فما السر في ذلك؟، يقول: “لا يمكن القول إن إغلاق السفارة المصرية لو حدث في بداية الحرب كان سيعطي نفس النتائج الحالية، فهذه التحركات حلقات ضمن سلسلة، ما فعله شخص يكمله آخر، ومما يساعد على انتشار فعل ما، ما سبقه من أفعال أحرار آخرين، وبالطبع التوفيق الإلهي”.
ويؤكد أن رؤية الأثر تشكّل حافزا كبيرا جدا لمواصلة حراكه، حتى لو كان الأثر مجرد التسلية عن أهل غزة والتنفيس عنهم قليلا فهذا كافٍ للاستمرار.
يكرر أنس بين حين وآخر أنه تحرّك بداية “معذرةً إلى ربكم” كما ورد في القرآن، ويوضح: “هذا ديننا الذي أمرنا أن نغرس الفسيلة ولو يوم القيامة، المهم أن نستمر بالعمل، اعمل ما تستطيع، حسب علمك وإمكانياتك وخبراتك ومعرفتك التي وهبك الله إياها وواجب الوقت وعلمك، أدِّ واجبك، ومن يأتي بعدك يكمل”.
ويبين: “لو تبنّينا هذا المبدأ ما كان هذا حالنا، فبالعمل به لن يسكت أحد، سيعمل الكل وستكون النتائج مذهلة وستؤدي لتغيير المشهد كاملا”.
أخيرا، إلى متى سيستمر أنس؟، يجيب: “أنا وهبت نفسي لهذه القضية، لا أستطيع أن أعيش بشكل طبيعي مع خيانة النظام المصري لغزة والتآمر عليها، وخيانته لمصر، فقد باعها، وبدد مواردها، ودفع أموالنا للاحتلال باتفاقه معه على الغاز، عدا عما يفعله بالمصريين، ومن ذلك قضية المُعتقلين، لذا فهذا العمل لن يتوقف، على الأقل حتى تتحرر مصر، فلو تحررت يصبح تحرر الدول الأخرى مسألة وقت، لأن مصر (رُمّانة الميزان) وبتاريخها ومقدراتها وعدد أفراد شعبها، فمميزات بلدنا كثيرة حتى وإن بدت ضعيفة اليوم، ستعلو قيمتها مرة أخرى فور خلاصها من النظام”.