“إحنا بنروح السعودية عشان ناخذ فلوس”، بوضوح وصراحة قالها الفنان المصري بيومي فؤاد، والذي كان يُوصف بأنه “سعودي حتى أكثر من السعوديين أنفسهم”، في إشارة إلى أن موسم الرياض كان بمثابة “بوابة رزق” للفنانين المصريين، لكن هذه البوابة، التي طالما فتحت المجال أمامهم في واحد من أكبر الأحداث الثقافية والترفيهية بالمنطقة، قرر صاحبها الآن إغلاقها.
فقبل أيام قليلة، خرج رئيس الهيئة العامة للترفيه السعودية تركي آل الشيخ، بتصريحات مفاجئة أعلن خلالها عن جنسية الفنانين المشاركين في موسم الرياض المقبل، بعد أن حقق في نسخته السابقة أكثر من 19 مليون زائر من حول العالم، وقال إنه سيعتمد بشكل أساسي على مشاركة فنانين سعوديين وخليجيين في الحفلات الغنائية والمسرحيات، مع تقديم فرص للسوريين، فضلاً عن العروض العالمية.
انشاءالله في موسم الرياض القادم اعتماد كامل تقريباً على العازفين و الموسيقيين السعوديين والخليجيين في الحفلات الغنائية … مع اعتماد شبه كامل على المسرحيات السعودية والخليجيه مع بعض التطعيم بمسرحيات سوريه وعالمية …🇸🇦❤️ pic.twitter.com/sz93xSNQmB
— TURKI ALALSHIKH (@Turki_alalshikh) August 4, 2025
ما يهم بكلام المسؤول السعودي الذي يُلقَّب بـ”المستشار” في السعودية هو ما لم يقله أو يأتي على ذكره، أي الفنانين المصريين الذين كان لهم دور بارز في فعاليات المملكة خلال السنوات الماضية، وحملوا على أكتافهم موسم الرياض منذ انطلاقه للمرة الأولى قبل 6 سنوات، والذين كان آل الشيخ والجمهور السعودي مغرمًا بهم حد الافتتان، بل ساهم في منح عدد منهم الجنسية السعودية، واستغلهم لإحياء الساحة الفنية الوليدة في المملكة.
ومع ذلك، يبدو قرار إقصاء الفنانين المصريين من موسم الرياض ثقافيًا في مظهره لكنه سرعان ما فتح الباب أمام التأويل السياسي، وأعاد تسليط الضوء على تعقيدات العلاقة بين القاهرة والرياض، فهل بدأ عصر التحول في موازين القوة الناعمة في المنطقة أم أن الخلافات السياسية الصامتة بين القاهرة والرياض بدأت تجد طريقها إلى العلن من بوابة الفن؟
نهاية شهر العسل مع الفنانين المصريين
منذ إطلاقه في عام 2019، أصبح موسم الرياض أحد أكبر مهرجانات الترفيه في المنطقة، حيث يتم تنظيم حفلات موسيقية ضخمة وعروض مسرحية وفعاليات ترفيهية ومهرجانات حشدت لها هيئة الترفيه ورئيسها فرقًا فنية عالمية تفاعلت معها الجماهير بمستويات مختلفة، وبمشاهد اعتبرها البعض خادشة للحياء، وأنها تتناقض كليًا مع إرث المجتمع السعودي المحافظ وعاداته وتقاليده.
تحت إشراف آل الشيخ الذي يُعتقل منتقدوه والمقرب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، شهد هذا المهرجان حضورًا كبيرًا للفنانين العرب، خاصة مصر ولبنان، والذين قدموا حفلات غنائية وعروضًا مسرحية أُعدت خصيصًا لفعاليات المهرجان، واستقطبت الملايين من الزائرين، ونُقلت على القنوات التلفزيونية، لكن من وقت لآخر أُثير جدل على مواقع التواصل، خاصة في مصر والسعودية بسبب المشاركة الكبيرة للفنانين المصريين.
لهذا السبب، فُسرت الصيغة التي كتب بها آل الشيخ منشوره على مواقع التواصل، وألمح فيها إلى الاستعانة بالمسرح السوري بموسم الرياض السادس، دون ذكر للمسرح المصري الأشهر في المنطقة العربية، على أنها نهاية درامية غير سعيدة لشهر العسل مع الفنانين المصريين الذين لطالما أثروا المجال الفني في الدول العربية عامة، وفي الخليج خاصة، خاصة.
ومع نشر آل الشيخ صورة تجمعه بالفنان السوري أيمن زيدان، الذي قال إنه “سيشارك في مسرحية سورية قريبًا على مسارح موسم الرياض”، بدا جليًا أن قراره يحمل خذلانًا للفنانين المصريين الذين استجابوا لدعوته وشاركوا في موسم الرياض 2023، في ظل الأحداث الدامية التي كانت تشهدها غزة نتيجة للمجازر الإسرائيلية، وتحملوا انتقادات قاسية من الرأي العام المصري والعربي بسبب مشاركتهم في فعاليات ترفيهية أثارت العديد من التساؤلات حول التناقضات الواضحة بين أولوية الترفيه الفاخر في المملكة والأزمة الإنسانية الطاحنة في غزة.
النجم السوري الكبير ايمن زيدان في مسرحيه سوريه بإذن الله قريباً على مسارح موسم الرياض🇸🇦👍🔥❤️ pic.twitter.com/eKSUcptE7W
— TURKI ALALSHIKH (@Turki_alalshikh) August 9, 2025
كان الفنانون الذين تم استبعادهم قد قدّموا دعمًا كبيرًا لآل الشيخ في وقت حساس، إذ أسهموا في إنقاذ موسم الرياض في نسخته الرابعة من فشل محقق، في وقت كانت غزة تحت ويلات القصف الإسرائيلي. بذلك، يبدو أن آل الشيخ قد استغل هؤلاء الفنانين، إلى جانب زملائهم، لإحياء موسم الرياض وإكسابه زخمًا جماهيريًا، ثم قرر فجأة استبدالهم بالفنانين السوريين هذا العام.
منذ ذلك الحين، احتدم الجدل حول التصريحات الأخيرة للمروِّج الرئيسي لموسم الرياض، والتي تأتي بعد أيام قليلة من تصريحاته المثيرة للجدل التي سخر فيها من وزير النقل والصناعة المصري كامل الوزير عقب مقارنته بين تكلفة إنشاء الطرق في مصر والسعودية.
لكن بعد تصريحات آل الشيخ الأخيرة تحديدًا، تفجرت موجة من التعليقات على صعيد الفنانين والجمهور، من ضمنهم وزير الإعلام المصري الأسبق أنس الفقي، والذي قال إن هذا التصريح يفتح بابًا لعدة تفسيرات، فقد يكون ضاق بالنقد الموجه لاعتماده على فنانين مصريين، أو رأى أن مشاركة النجوم باتت مكررة بلا جديد، أو أن رؤية هيئة الترفيه تغيرت لتحويل موسم الرياض من منصة لتعاطي الفنون واستهلاكها إلى محفل.
وحسم الإعلامي المصري الأصل السعودي الجنسية عمرو أديب الجدل بردِّه على منشور الفقي الذي لم يمض كثير من الوقت حتى قرر حذفه، لكن أديب المقرب من النظام المصري اختار – وفق وصف البعض – أن يكون ملكيًّا أكتر من الملك، وقرر أن يتبنّى موقفًا أكثر حماسة من صاحب الشأن نفسه، متقمصًا دور المدافع عن آل الشيخ في سياق غير مناسب.
اللافت أنه انتقى منشورًا شديد الحياد، وحوّله إلى منبر للهجوم على الجميع في مصر،دعمًا لتركي آل الشيخ وهيئة الترفيه، ورأى وجاهة بقرار المستشار السعودي، وتفانى في تبريره بمنشور طويل عن المكايدة السياسية المباشرة والتعبير عن صبر السعودية الذي نفد من تعرض هذا المشروع الفني والمسؤولين عنه لحملة مغرضة وهجومية تقف خلفها شركة بعينها لم يسمها، في إشارة إلى شركة “المتحدة” المملوكة للمخابرات العامة المصرية.
تابعت بوست الاستاذ انس الفقى ومحاولته المضنيه لتفسير قرار معالى المستشار تركى ال الشيخ بالاقتصار على المحتوى الخليجى ودول عربيه اخري بعيدا عن الانتاجات المصريه . ويجب ان اوضح للاستاذ انس انه لم يصب الحقيقه او ربعها فى اي تفسير من تفسيراته او انه يعلم الحقيقه ولا يريد ان يضعها… pic.twitter.com/el7yhf9FF7
— Amr Adib (@Amradib) August 6, 2025
وعن مصري سابق آخر هو الفنان محمد هنيدي الذي يحمل الجنسية السعودية أيضًا، وكان من المشاركين في أول مسرحية مصرية تُعرض في المواسم الترفيهية، فقد كان كلامه ليس بمعرض التبرير، ولا حتى التدخل، واكتفى فقط بشكر ما قدمته السعودية ومستشارها آل الشيخ له ولزملائه وللفن المصري.
شهادة حق..
من خمس سنين، مع بداية هيئة الترفيه في المملكة العربية السعودية، كنا أول مسرحية مصرية تُعرض في المواسم الترفيهية. بعدها اتعملت عشرات المسرحيات والاف الحفلات، وكل فعالية كان بيشتغل فيها مئات الأشخاص.كان فيه تقدير حقيقي للفن المصري من أصغر عامل لأكبر نجم في المسرحيات.…
— Mohamed Henedy 👶 (@OfficialHenedy) August 6, 2025
وفضلاً عن هؤلاء، تنوعت ردود المصريين بشكل لافت، بين من شمت في الفنانين الذين باعوا أنفسهم للرياض، وبين آخرين اعتبروا كلام آل الشيخ هجومًا يستدعي ردًا مماثلًا، وفريق ثالث انتقد العجز المصري والتواكل على الرياض لتقديم ما لديها رغم امتلاكها المبدعين والمسارح والبنية التحتية والمعرفة والخبرة والجمهور.
وبينما أعرب بعض المصريين عن شكوكهم في قدرة موسم الرياض على النجاح بغياب المشاركة المصرية، وتحدّوا هيئة الترفيه بالاستغناء عن الألحان والأغاني باللهجة المصرية معتبرين الأمر شبه مستحيل، رأى آخرون أن هذه التطورات تعكس توترًا في العلاقات بين مصر والسعودية.
وما زالت أصداء هذا القرار تثير حتمًا جدلاً واسعًا في الشارع المصري، حيث يعتبر الفن المصري أكثر الفنون تأثيرًا في العالم العربي، ولا شك أن فقدانه مكانًا في مثل هذا الحدث الكبير سيثير الكثير من الانتقادات الشعبية والإعلامية، وقد يضع مزيدًا من الضغط على العلاقات بين الرياض والقاهرة.
وجاءت المفاجأة الأكبر في تعليق السيسي، ولو بشكل غير مباشر، على هذه التطورات، عبر خطاب تصالحي وجامع وجَّهه للعرب أمام طلاب الأكاديمية العسكرية، قائلاً: “إحنا أشقاء وهنفضل أشقاء وأمننا وأمنهم واحد”، في إشارة إلى أن الأزمة بين القاهرة والرياض بلغت مستوى يستدعي تدخل القيادات العليا.
صفعة ناعمة لـ”لقمة عيش” المصريين
يعتبر موسم الرياض بمثابة منصة رئيسية للفنانين العرب لعرض أعمالهم وكسب عقود وفرص عمل في السوق السعودي الوليد، وتتضاعف المكاسب والاستفادة المادية بالنسبة للفنانين المصريين ولكثيرين من العاملين في القطاع الفني في مصر. هذه المكاسب كانت كفيلة بجعل انتقاد آل الشيخ أو موسمه أمرًا نادرًا، ومن تجرأ على ذلك كان يواجه التهميش وحرمانه من فرص العمل، أو كما يُقال بالعامية “قطع عيشه”.
ويأتي هذا القرار ليسلط الضوء من جديد على دور المسؤول السعودي في التحكم بمصير الفنانين عبر استخدام سياسة “العصا والجزرة” التي استخدمها في معاقبة الفنان محمد سلاَّم الذي رفض المشاركة بمسرحية في موسم الرياض بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2023، مبررًا ذلك بالتعاطف مع ما يجري في قطاع غزة، فكانت النتيجة أن توقف الرجل عن العمل تقريبًا.
وفضلاً عن موسم الرياض، تفرض السعودية نفوذها على مؤسسات إنتاج ونشر فنية، وتضخ في الأعمال المصرية أموالًا يصفها المصريون بـ”الرز” أو “أموال لا تأكلها النيران”، فهي تمتلك قنوات للشراء والبث، وشركات للإنتاج والتوزيع، إضافة إلى منصات تعرض المحتوى على مدار الساعة.
كل هذا كان في أغلبه قائمًا على الفن المصري وفناني مصر، لذا سينعكس استبعاد مئات الفنانين المصريين الذين لديهم تأثير كبير في العالم العربي سلبًا على القطاع الفني الفني، وقد يؤثر على حجم التبادل الثقافي الذي كان قائمًا بين البلدين على مدار السنوات الماضية، ويُفضي إلى التأثير على الاستثمارات الثقافية المشتركة في المستقبل، وتقليص أو تدهور الفرص الاقتصادية والفنية التي يمكن أن تجنيها الشركات والفنانين المصريين من المشاركة في حدث ضخم ساهم في تعزيز التبادل الثقافي والتجاري بين السعودية ومصر، لكن الخوف الأكبر هو أن تقطع السعودية إمداداتها في قطاعات أخرى غير الفن كالسياحة مثلاً، أو الاستثمار وغير ذلك.
وليس خافيًا أن الرياض – رفقة أبوظبي- ضخت خلال العقد الأخير، ولا سيما بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا محمد مرسي قبل 12 عامًا، مليارات الدولارات في مصر لدوافع سياسية واستراتيجية واقتصادية. هذه الخطوة فُهمت على نطاق واسع باعتبارها دعمًا للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، مهما كانت المبررات المطروحة.
وقد أصبحت مصر، بمرور الوقت، أكبر متلقٍّ للمساعدات السعودية لتخفيف وطأة أزمتها الاقتصادية الحادة، الأمر الذي أثار قلقًا لدى بعض المسؤولين السعوديين بشأن جدوى الاقتصاد المصري المثقل بمشكلات هيكلية عميقة، خصوصًا في ظل ارتفاع غير مسبوق في حجم الدين الخارجي ونقص واضح في تدفق الاستثمارات الأجنبية.
لذلك، فسّر كثيرون هذه الخطوة السعودية تجاه الفنانين المصريين باعتبارهم ممثلين عن السيسي وأجهزته الاستخباراتية، فرأوا فيها رسالة من بين رسائل عديدة مفادها أن السعودية لم تعد ترى في نظام السيسي حليفًا استراتيجيًا، أو أن مصر في عهده دولة ذات ثقل وتأثير، بل على العكس، يبدو أن الرياض ترى السيسي عبئاً ثقيلاً وفمًا لا يشبع، دون أن يقدّم مقابل هذه الطلبات أي منفعة سياسية أو اقتصادية تُذكر.
أكثر من مجرد مسألة فنية
لا يمكن النظر إلى قرار آل الشيخ بمنأى عن علاقته المحكومة بتقلبات سياسية وثقافية وإعلامية مع مصر، فمنذ توليه رئاسة هيئة الترفيه، شهدت علاقته تحولات متلاحقة تراوحت بين التعاون الوثيق أحيانًا والتوترات الشخصية والرياضية في أوقات أخرى، وأثبتت هذه العلاقة أنها لم تكن مجرد تعاون ثقافي وترفيهي، بل تقلبت بين الدبلوماسية الرسمية والتحولات الشخصية، مؤثرةً بذلك في العلاقات بين البلدين على مستويات عدة.
على الرغم من البداية الودّية والمثمرة التي بدت مثالاً على تعزيز العلاقات بين الرياض والقاهرة، لا سيما في مجالات الرياضة والثقافة، إلا أن علاقة آل الشيخ بالجمهور المصري شهدت توترًا كبيرًا بعد محاولته مؤخرًا الترويج لفيلم يسيء إلى صورة المصريين في الخارج بسبب تجسيد الفنان المصري أحمد حلمي شخصية نصاب يستغل الحجاج في السعودية، قبل تراجع هيئة الترفيه السعودية عن المشروع بسبب موجة الانتقادات التي وُجهت له.
ورغم أن آل الشيخ برّر قراره على أساس تحفيز الإنتاج الثقافي المحلي، وزيادة الاعتماد على المواهب المحلية والخليجية، وتعزيز دور الفن السعودي والخليجي في العالم العربي، فإن خلفيات القرار تطرح تساؤلات جديدة حول الرسائل التي يحملها، وأثرها المتوقع على العلاقات بين مصر والسعودية.
أولاً، يمكن النظر إلى القرار على أنه يحمل في طياته رسالة تتعلق بالتنافس الإقليمي بين السعودية ومصر، وخاصة موقف السعودية من مصر ومن دور الفنانين المصريين في المشهد الثقافي العربي، فطوال السنوات الماضية، كان الفن المصري يحتل مكانة بارزة في الساحة الثقافية العربية، مع تأثيره الكبير في صناعة الترفيه في الشرق الأوسط.
وقد يسعى آل الشيخ – من خلال استبعاد مصر من هذه الفعاليات – إلى تعزيز السيادة الثقافية السعودية على الساحة العربية، حتى على على حساب علاقاتها التاريخية مع مصر، والتأكيد على مساعي المملكة لتطوير الصناعة الثقافية المحلية وتعزيز الهوية السعودية والخليجية، خاصة في ظل التوجهات السعودية لتطوير صناعة الترفيه بشكل مستقل عن الهيمنة المصرية التي لطالما كانت السمة الغالبة في المجالات الفنية في العالم العربي.
من هذا المنطلق، يُحتمل أن يكون هذا القرار جزءًا من استراتيجية سعودية لتعزيز مكانتها كقوة ثقافية في المنطقة، فبتوجيه اهتمام أكبر إلى الفنانين السعوديين والخليجيين في فعاليات موسم الرياض، قد يسعى آل الشيخ إلى تقديم الترفيه السعودي والخليجي كبديل قوي وفعّال للسيطرة الثقافية التقليدية لبعض الدول العربية.
وإذا أخذنا في الاعتبار حجم الفنانين المصريين الذين كانوا جزءًا أساسيًا من فعاليات موسم الرياض في النسخ السابقة، فإن قرار الاستغناء عنهم قد يُنظر إليه على أنه إهانة غير مباشرة لمصر، ويُسهم في إضعاف الروابط بين البلدين التي لم تكن لم تقتصر على التعاون السياسي والاقتصادي فقط، بل كان القطاع الثقافي والفني أحد أعمدتها الأساسية.
من ناحية أخرى، تتزامن إطلالة آل الشيخ هذه المرة مع تصاعد الأزمات الإقليمية، خاصة في غزة، حيث أصبح واضحًا أن السعودية كانت تسعى لإظهار أنها تبذل مجهودًا دبلوماسيًا في التعامل مع القضية الفلسطينية، كما حصل مؤخرًا بجهودها التي أسفرت عن عقد مؤتمر دولي تشاركت فيه مع فرنسا لدعوة العالم للاعتراف بدولة فلسطين.
وبينما تبذل الرياض جهودًا في هذا الاتجاه، يرى البعض أن تركيز هذه الجهود على الأنشطة الترفيهية في الوقت الذي تشهد فيه غزة أزمات إنسانية خطيرة، هو تقليص للإنسانية لصالح السياسة، ويستند هذا الانتقاد إلى حقيقة أن الرياض يمكنها أن تلعب دورًا أكبر في تقديم الدعم المالي والسياسي لإغاثة غزة، بدلاً من تعزيز أنشطة سياحية وترفيهية قد تبدو بعيدة عن واقع الفلسطينيين.
قد يكون قرار استبعاد الفنانين المصريين جزءًا من رسالة سياسية غير مباشرة تجاه مصر، التي تُظهر مواقف دبلوماسية معقدة في ملف غزة، حيث تسعى للقيام بدور الوساطة بين الأطراف المختلفة، في حين أن السعودية لها رؤية تتعارض مع الرؤية المصرية، وقد ترغب في تقوية موقفها الإقليمي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
السعودية، من خلال تركي آل الشيخ، قد ترغب في توجيه رسالة رمزية مفادها أن المملكة لا تدعم بالكامل المواقف المصرية التي تُظهر تعاونًا مع بعض الأطراف الإسرائيلية تحت ضغوط سياسية معينة، في وقت ترغب فيه الرياض في لعب دور أكبر في القضية الفلسطينية، وهي تقترب من مسار تطبيع تسعى لتهيئة الأجواء له وتبريره، عبر إظهار تقديم مكاسب للفلسطينيين كما تدّعي.
بعيدًا عن البُعد السياسي، هناك أبعاد إنسانية مرتبطة أيضًا بهذا القرار، خاصة في ظل الحرب المستمرة في غزة والأوضاع السياسية المتأزمة في المنطقة، ففي الوقت الذي يشهد فيه القطاع مأساة إنسانية، كان يمكن أن تُستخدم فعاليات موسم الرياض كفرصة لدعم الفن المصري والفلسطيني، وللتأكيد على التضامن العربي في مواجهة الحروب، وباستبعاد الفنانين المصريين، يثير هذا القرار انتقادات واسعة حول أولويات المملكة في هذا الوقت العصيب.
هل تطفو الخلافات على السطح؟
يمكن القول إن قرارًا بهذا الحجم لا يصدر عن رجل واحد في السعودية، حتى لو كان تركي آل الشيخ نفسه، فهو شأنه شأن أي مسؤول سعودي، لا يملك ترف كتابة كلمة من تلقاء نفسه، وهذا يعني أن قرار استبعاد طاقم فني كامل معروف وزنه وتأثيره في المنطقة ربما جاء بتوجيهات ممن هو أكبر وأعلى في السعودية، وبالتحديد القيادة في الرياض، فلماذا قد يكون حكام السعودية غاضبين من مصر؟
على الصعيد الفني ؛ وقع معالي رئيس مجلس الإدارة @Turki_alalshikh مذكرة تفاهم لإقامة عدد من الحفلات الغنائية لأبرز نجوم الفن المصري بجانب إنتاج مسرحيات فنية بأسلوب تقني لعمالقة الأغنية المصرية الأصيلة مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب.#هيئة_الترفيه pic.twitter.com/VM7Ynwl1VF
— الهيئة العامة للترفيه (@GEA_SA) February 8, 2019
علنيًا، لا يبدو أن هناك توترًا بين قيادتي السعودية ومصر، لكن دفء العلاقات غائب. ورغم استمرار التعاون في ملفات مشتركة مثل السودان وأمن البحر الأحمر، فإن ما يجري خلف الكواليس يكشف عن خلافات أعمق، خصوصًا مع طموح الرياض لتوسيع نفوذها الإقليمي، وهو ما يظهر جليًا في مشاريعها الثقافية والترفيهية الكبرى مثل موسم الرياض.
ويعكس القرار الأخير بوضوح السياسي القائم بين السعودية ومصر في المرحلة الراهنة، حيث تختلف مواقف البلدين في ملفات عدة، أبرزها الموقف من نظام أحمد الشرع؛ فالسعودية رحبت بسوريا الجديدة وسعت لإعادتها إلى الساحة الدولية، بينما قابلتها مصر ببرود وانتقاد.
كما يظهر الخلاف في ملف إيران، إذ اتجهت القاهرة مؤخرًا نحو التقارب مع طهران بعد قطيعة دامت نحو نصف قرن، في خطوة رأى فيها مراقبون مناورة سياسية من السيسي تجاه دول إقليمية، وفي مقدمتها الرياض التي تتحفظ على مثل هذا الانفتاح.
وبعيدًا عن السياسة المتعلقة بسوريا وإيران، فإن الكلام يطول، لكن سنمر سريعًا على نقاط الاختلاف الحالية لكثرتها، والتي منها المماطلة في تسليم جزيرتي تيران وصنافير طمعًا في مزيد من الدعم، ورفض السعودية سياسة الابتزاز التي يتعامل بها السيسي، ورفضها كذلك منافسة الجيش المصري لها في الاستثمار، واشتراط تقليص دوره في الاقتصاد، فضلاً عن تنامي علاقات السيسي مع جارتها الخليجية الإمارات وزيادة نفوذها في مصر.
كل هذه المواقف أسهمت في توتر العلاقات، إلى حد أن الصحفي السعودي قينان الغامدي المقرب من دوائر الحكم في السعودية وجّه انتقادات علنية للسيسي بسبب فشله الاقتصادي، وتنبأ بسقوطه بشكل واضح بحلول 30 يونيو/ حزيران 2026، ومثل هذا التصرف لا يمكن أن يصدر من كاتب محسوب على السلطة السعودية من دون إذن أو علم من ولي العهد نفسه.
والحقيقة أن هذه النقاط الخلافية وغيرها تحولت مع الوقت إلى أسباب مباشرة لفتور العلاقات بين القاهرة والرياض، ومع غياب الجهود الجادة لحلها تصاعد التوتر، ويُحتمل أن يساهم القرار الثقافي الأخير في تعميق الفجوة بين البلدين، خاصة إذا تزايدت الضغوط الإعلامية والسياسية التي قد تؤثر على إدارة العلاقات في المرحلة المقبلة.
ويبقى قرار تركي آل الشيخ اختبارًا حقيقيًا للعلاقات السعودية المصرية وسط تقلبات سياسية وتوترات إقليمية متصاعدة. وفي ظل الأزمات التي تعصف بالمنطقة، فإن أي خلاف بين أكبر قوة عربية من حيث العدد والعدة، وأكبر اقتصاد عربي، لن يكون أمرًا عابرًا، بل قد يفاقم الانقسام في الساحة العربية الممزقة أصلًا، ويدفع ثمنه الكثيرون.