في ركنٍ ضيق داخل شقة بسيطة بأحد أزقة منطقة طوابق فيصل بحي الهرم، كان الشاب “مجد الدين المصري” منهمكًا في إعادة هيكلة تنظيمه “أجناد مصر” الذي نشأ في أعقاب انقلاب 3 يوليو ونفذ عددًا من العمليات النوعية ضد قوات الأمن، وقد وصفت مصادر أمنية مجد الدين بأنه خبير متفجرات بالغ الخطورة، ويتمتع بقدرات استثنائية في المراوغة والاختباء، ويمتلك حسًا أمنيًا مكنه من الإفلات من محاولات القبض عليه 17 مرة.
وبينما كان مجد الدين يضع اللمسات الأخيرة لعملية جديدة تستهدف شخصيات أمنية رفيعة، باغتته قوة أمنية عبر كمين محكم في 5 أبريل 2015، لتندلع مواجهة مسلحة انتهت بمقتله داخل شقته المستأجرة، وألقت القوات القبض على زوجته وأطفاله التسعة، وعثرت داخل الشقة على أسلحة وعبوات ناسفة وجهازي كمبيوتر، قالت إنه وفر لها معلومات مهمة ساعدت في تعقب بقية عناصر التنظيم.
طُويت صفحة مجد الدين بنهاية مأساوية لم ترتقِ إلى طموحاته ولا الأثر الذي حلم بتركه، ومع ذلك، لم تكن حكايته سوى فصل واحد في كتاب مفتوح لم يُغلق حتى اليوم، فكلما ظنت أجهزة الأمن أنها أخمدت الحالة الجهادية الجديدة التي وُلدت من رحم مجزرة رابعة، عادت الظاهرة لتعيد إنتاج نفسها من جديد عبر خلايا وحركات مسلحة أسسها شبان مصريون تَشكل وعيهم في لحظة انفجار سياسي واجتماعي.
في هذا التقرير، يُقدم “نون بوست” قراءة لتطور المشهد الجهادي المصري الجديد بعد أحداث القمع التي أعقبت فض اعتصامي رابعة والنهضة، حيث ظهرت جماعات مسلحة جديدة تأثرت بوضوح بأفكار أبو مصعب السوري، مع حرصها على الابتعاد عن خطاب التكفير واستهداف المدنيين.
ورغم سعيها للظهور كحركات مقاومة للاستبداد، فإن قلة مواردها وتأكل الدعم الشعبي لها إلى جانب القبضة الأمنية، أدى إلى تفكيك معظمها، ومع ذلك، تبقى هذه الموجة الجهادية تمثل تهديدًا طويل الأمد للنظام الحاكم، نظرًا لقدرتها على التكيف واستلهامها لتجارب خارجية كالتجربة السورية، مما يطرح تساؤلات حول احتمالات عودتها.
الموجة الأولى: المقاومة الشعبية
منذ انطلاق ثورة يناير 2011، لم يشهد النشاط الجهادي في مصر تصعيدًا ملحوظًا، واقتصر حضور الجهاديين المصريين على أربعة مسارات رئيسية، تمركز الأول في سيناء وركز على استهداف المصالح الإسرائيلية، بينما استغل الثاني أجواء الحرية لنشر الفكر الجهادي ونقد تيارات الإسلام السياسي بأسلوب سلمي.

أما المسار الثالث، فاختار المشاركة السياسية من خلال تأسيس أحزاب وخوض الانتخابات، في حين اختار المسار الرابع السفر إلى سوريا وليبيا مع تركيز بعض أفراده على شراء الأسلحة وتخزينها في مصر استعدادًا لحدوث تغيرات جذرية في المشهد، فقد تبنى هذا التيار قناعة راسخة بأن الحل لا يكمن في الديمقراطية وصناديق الاقتراع، بل في الجهاد وصناديق الذخيرة.

وبعد انقلاب 3 يوليو 2013، تولدت لدى كثير من الشباب الإسلامي الرافض لما حدث قناعة باستحالة وصول حكومة إسلامية إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وفي هذا السياق، سعت التيارات الجهادية التقليدية إلى التأثير على شباب الإخوان من خلال خطاب يسلط الضوء على التقاطعات الفكرية بين الجانبين، مؤكدة أن حسن البنا نفسه دعا إلى الكفاح المسلح، وأن الانحراف بدأ عندما اختارت الجماعة الانخراط في العملية الديمقراطية.
رغم ذلك، راجت في تلك المرحلة رؤية تدعو إلى مواجهة الانقلاب بأساليب “سلمية مبدعة”، وبدأ عدد من الشباب الإسلامي في تبني هذا الخيار والتنظير له، مستلهمين نماذج دولية، أبرزها تجربة فنزويلا في مقاومة الانقلاب بالحراك الشعبي.
غير أن مجزرتي رابعة والنهضة أحدثتا صدمة عميقة في وجدان هؤلاء الشباب، ورغم وقعها العنيف، برزت مرحلة ما عُرف بـ“المقاومة الشعبية” التي اتخذت شعار “كل ما دون الرصاص فهو سلمية”.
وتجلت هذه المرحلة في محاولات حماية التظاهرات عبر استخدام المولوتوف والشماريخ، وحرق سيارات الشرطة، وقطع بعض الطرق، والتخريب الجزئي لخطوط كهرباء مدينة الإنتاج الإعلامي، إلى جانب توجيه رسائل تحذيرية لضباط الداخلية تطالبهم بعدم التعرض للمتظاهرين.
وظهرت عدة حركات، مثل اللجان النوعية، ولجان الردع، وحركة ولع، وإعدام، ومولوتوف، ومجهولون، وكتائب حلوان، وألتراس ربعاوي، وكان طلاب الجامعات يشكلون القاعدة الأساسية لهذه الحركات، إلا أنها عجزت عن إحداث أثر فعلي في الواقع، ولم تتمكن من كسر قبضة القمع الذي قوبل به الحراك السلمي.
وفي الذكرى الأولى لفض اعتصامي رابعة والنهضة، أعلنت حركة “كتائب المقاومة الشعبية” عن نفسها عبر بيان نُشر على صفحتها في فيسبوك، وبدأت نشاطها بتنفيذ عمليات شل للحركة المرورية، شملت تعطيل خط قطار دمياط القاهرة، وقطع الطريق الصحراوي الغربي قرب مركز ديروط بأسيوط، إلى جانب إغلاق طريق المحور بمدينة 6 أكتوبر. وقالت الحركة فى بيانها: “من دخل من البلطجية بيته فهو آمن، ومن التزم من كلاب العسكر مكانه فهو آمن، أما من اعتدى فلا يلومن إلا نفسه”.

في تلك الفترة، ظهرت مجموعة من الدراسات الشرعية التي سعت إلى تأصيل هذه الممارسات ومنح الشرعية لأساليب “المقاومة الشعبية”، من أبرزها كتب، زاد الثائر، ودليل السائر، وكشف الشبهات، وفقه المقاومة الشعبية الذي ألفه بعض رموز الإخوان، وقد شددت هذه المؤلفات على أن المظاهرات السلمية رغم ما قد ينجم عنها من أذى، تظل أهون من الصمت أو السلبية أمام الظلم.
ومع تصاعد وتيرة العنف من جانب الأجهزة الأمنية، وتفكك البنية القيادية لجماعة الإخوان نتيجة اعتقال معظم قياداتها، بجانب اعتقال معظم قادة العمل الإسلامي الرافضين للانقلاب، سادت حالة من التشتت داخل صفوف الشباب الغاضب والمحبط، وبدأت تتعالى الأصوات للتخلي عن هذه المسارات باعتبارها غير مجدية، الأمر الذي دفع شرائح من الشباب نحو مسارات أكثر راديكالية كرد فعل على ما اعتبروه ظلمًا ممنهجًا، لتولد بذلك موجة جديدة من الجهاديين تختلف في خطابها وتنظيمها عن الجهاديون التقليديون.

من الجدير بالانتباه أن ثورة 25 يناير 2011 كانت بالفعل إحدى المحطات التي ساهمت في بداية تفكك جماعة الإخوان، لا سيما على مستوى قاعدتها الشبابية، ثم جاء القمع الواسع بعد 3 يوليو وتصنيف الإخوان كتنظيم إرهابي ليعمق هذا التشظي، وقد بلغ التباين حدًا دفع عددًا من قيادات الإخوان لاحقًا إلى انتقاد شعار المرشد “سلميتنا أقوى من الرصاص”، مستبدلينه بعبارة أكثر دلالة على التحول، “سلميتنا أقوى بالرصاص”.
وبينما كان النظام يفرض سيطرته الكاملة، كانت القطاعات الشابة الإسلامية تعاني شعورًا متزايدًا بالهزيمة والانكسار في ظل ما شهدته من قتل واعتقالات جماعية، وملاحقات طالت مختلف التيارات الإسلامية، وقد وجد كثير من هؤلاء الشباب أنفسهم في حالة فراغ تنظيمي، بلا قيادة توجههم، ولا أفق يتيح لهم الاستمرار في العمل الاحتجاجي المنظم، مما أفرز ما يمكن تسميته بـ“الجهادية العاطفية”.

فهؤلاء الجهاديين المصريين الجدد لا ينتمون لتنظيم القاعدة أو داعش، ولا حتى الفكر الإخواني الكلاسيكي، ورغم اعتمادهم على بعض أدبيات الجهاد، فإنهم يمثلون تيارًا محليًا جديدًا، تشكل في ظل لحظة مصرية استثنائية، تداخلت فيها الهزيمة السياسية مع الإحساس بالظلم.
وهكذا، لم يقتصر المشهد على تمدد التيارات الجهادية التقليدية الرافضة للعمل السلمي والمُؤمنة بالمواجهة المسلحة كخيار وحيد، وفي حين انخرط بعض الشباب في تلك التنظيمات الجهادية التقليدية تعبيرًا عن قطيعتهم مع مسار الإسلام السياسي، اتجه آخرون إلى تأسيس حركات جهادية بأنفسهم تعبر عن رؤاهم الخاصة.
كما سعى بعض الشباب إلى الدمج بين المسارين الثوري والجهادي التقليدي، كما تجلى في تجربة حركة أجناد مصر، التي مثلت أول نقطة التقاء بين الجهاديين التقليديين والشباب الثوري، ما أضفى على الحركة طابعًا مغايرًا للتيارات الجهادية الكلاسيكية، ورغم أن مجد الدين المصري مؤسس أجناد مصر كان من قدامى المقاتلين في العراق، فإن قوام الحركة ضم شبابًا من خلفيات فكرية متنوعة.
لم يكن الجهاديون الجدد المنبثقون عن تلك المرحلة يشكلون كتلة موحدة أو متجانسة، بل اتسموا بالتعدد والاختلاف في الخلفيات والتوجهات. وعلى خلاف الجهاديين التقليديين الذين برزوا في شمال سيناء، لم يكن هدف الجهاديين المصريين الجدد إقامة إمارة أو السيطرة على الأرض، بل انصب تركيزهم الأساسي على القصاص من الجيش والشرطة، وحرصوا في خطابهم على إبراز شعور المظلومية وتصوير أنفسهم كأبطال يخوضون معركة الكفاح المسلح كخيار وحيد لمواجهة القمع.
وفي نهاية المطاف، لم تتمكن حتى الحركات الأكثر تنظيمًا كأجناد مصر من الصمود طويلًا أمام الضربات الأمنية، وآلت معظم الحركات الجهادية الجديدة التي برزت عقب مجزرتي رابعة والنهضة إلى التفكيك أو التصفية رغم تنفيذها عمليات جريئة، ويُعزى ذلك ليس فقط إلى خبرة أجهزة الأمن وتسخير النظام لكافة مؤسسات الدولة ومواردها في مواجهة هذه الموجة الجهادية.
بل كذلك إلى حداثة الجهاديين الجدد وافتقارهم للخبرة والتنظيم والموارد المالية، إذ نشأت تلك الجماعات بصورة تلقائية عفوية وبهياكل هرمية في غاية الهشاشة، كما ساهم تعاون المواطنين مع أجهزة الأمن، إلى جانب الانتشار الكاسح لشبكات المرشدين والمخبرين في إحباط نشاطهم.

وفي خضم هذا الواقع، ستبرز شخصية محورية ستلعب دورًا حاسمًا في إنقاذ ما تبقى من هؤلاء الجهاديين الجدد من مصيدة الأمن، وستمنحهم الإطار التنظيمي اللازم، إنها دون شك، شخصية أبي مصعب السوري، الرجل الذي سيكون بلا منازع أيقونة المرحلة المقبلة.
تأثير أبو مصعب السوري على بنية الجهاديين الجدد في مصر
مع فشل مسار المقاومة الشعبية، وتفكك أغلب الحركات الجهادية التي ظهرت بعد أحداث 2013، انخرط عدد متزايد من الشباب إلى البحث عن نماذج بديلة يمكن استلهامها وتكييفها مع الواقع المصري، وبرز منذ عام 2015 جيل جديد تأثر بأفكار أبو مصعب السوري الذي طرح نموذجًا تنظيميًا بدا أكثر توافقًا مع ظروف المرحلة، لا سيما في أطروحته عن العمل اللامركزي والخلايا المستقلة الصغيرة.
وجد هؤلاء الشباب في تنظيرات السوري إطارًا مرنًا لإعادة بناء تنظيماتهم بعيدًا عن البنى الهرمية السابقة، وقد استلهموا من التجارب التي عرضها السوري، واستفادوا من التوصيات التي ضمنها في كتبه ومحاضراته، وكان كتابه حرب المستضعفين بمثابة دليل عملي للتأقلم مع الواقع الأمني والسياسي في مصر.
غلاف كتاب حرب المستضعفين، إصدار لدار إشبيلية المصرية المتخصصة في طباعة كتب أبو مصعب السوري
وهكذا، غدا أبو مصعب السوري المرجعية الأبرز لهذا التيار الجهادي الجديد، ومن خلال أفكاره، تبلور جيل جديد من المنظرين الحركيين الذين استلهموا منه أسس العمل السري وبناء الخلايا المستقلة، وقد ساهم هؤلاء في تطوير حركات جديدة مستندة إلى تصوراته، ما أضفى طابعًا أكثر مرونة وتخفيًا على بنية الحركات الجهادية الجديدة التي ستنشأ منذ 2015.
وقد كشفت الحوارات التي أجراها الجهاديون المصريون الجدد عن تأثر ملحوظ بأفكار أبي مصعب السوري، فمثلًا أقر صلاح الدين يوسف المتحدث باسم حركة لواء الثورة – أكثر الحركات المسلحة تطورًا – في مقابلة مع صفحة “ق للإعلام” بأن الحركة تستلهم فكرها من أربعة منظرين، حسن البنا، وسيد قطب، وعبد الله عزام، وأبو مصعب السوري. كما أن حركة حسم، التي تُعد من أبرز تنظيمات الموجة الجهادية الثالثة، كانت تنشر بالفعل مقالات واقتباسات من كتابات أبي مصعب السوري.
في الواقع، لاقى فكر أبي مصعب السوري رواجًا واسعًا بين أوساط الشباب المصري خلال تلك الفترة، إلى حد ظهور دار نشر مصرية متخصصة في طباعة مؤلفاته، وهي “دار إشبيلية”، وقد لاحظت الجهات الأمنية خلال التحقيقات أن العديد من الشباب الذين اعتقلتهم كانوا يحتفظون بكتب ومحاضرات أبو مصعب.
وبسبب هذا التأثير المتزايد، أصدرت الأجهزة الأمنية توجيهات إلى مؤسسة الأزهر بالتحذير من أطروحات السوري، ومع ذلك، اتسمت ردود الأزهر بضعف علمي واضح، واحتوت على الكثير من الادعاءات غير الدقيقة حول أبي مصعب وأفكاره، بل إن بعض المزاعم التي نُسبت إليه لم ترد في أي من مؤلفاته وسبق له أن رفضها صراحة، ويبدو أن تلك الردود الأزهرية جاءت في إطار استجابة أمنية أكثر منها معالجة علمية أو نقد موضوعي.

الموجة الثانية: العقاب الثوري
شكلت تنظيرات أبو مصعب السوري مرجعية أساسية للحركات الجهادية المصرية الجديدة، ويبرز تأثيره بوضوح عند تحليل البيانات العسكرية والخطابات الإعلامية التي صدرت عن الحركات المنبثقة عن الموجة الجهادية الثانية، حيث يظهر تطابق ملحوظ مع أطروحات السوري، خاصة في بنية التنظيم وفي تكتيكات العمل.
وعلى عكس معظم الحركات المسلحة التي ظهرت في السنوات السابقة، والتي اتسمت ببنية هرمية تقليدية كما في حالة حركة “أجناد مصر” التي نفذت نحو 47 عملية بين عامي 2013 و2015، فقد مثل إعلان حركة “العقاب الثوري” عن نفسها في 25 يناير 2015 عبر مقطع مصور على مواقع التواصل الاجتماعي نقطة تحول بارزة في مسار التيار الجهادي المصري الجديد.
وظهر في فيديو حركة العقاب عنصران ملثمان يحملان أسلحة نارية ويرتديان قفازات سوداء، حيث تلا أحدهما بيان الحركة الأول معلنًا انطلاقها، وفي البيان قال أحدهما: “لقد سئمنا شعارات تكررت مرارًا وتكرارًا عن سلمية الثورة ضد سلطة مسلحة لا تفهم إلا لغة الرصاص، ولم نجد في العالم أجمع ثورات نجحت إلا إذا امتلكت القوة التي تحميها”.
حركة العقاب الثوري – عملية قطع الألسنة
ويمكن بسهولة رصد التشابه بين العبارات الواردة في بيانات حركة “العقاب الثوري” ومقولات أبي مصعب السوري الشهيرة، ما يعكس تأثير أفكاره على خطابها. ومنذ أواخر يناير 2015، شرعت حركة العقاب الثوري في تنفيذ سلسلة من الكمائن والهجمات المنسقة ضد قوات الأمن، مستهدفة أفرادًا محددين يُزعم تورطهم في قمع الاحتجاجات. وقد شهد نشاط الحركة تصاعدًا ملحوظًا منذ نشأتها قبل أن يبدأ في التراجع تدريجيًا مع مطلع عام 2016.
واعتمدت العقاب الثوري في هجماتها على استخدام أسلحة نارية خفيفة وعبوات ناسفة بدائية الصنع، وتمكنت خلال عام واحد من تنفيذ 157 عملية في 18 محافظة، كان نصفها في محافظة الفيوم، كما حرصت على تعزيز حضورها الإعلامي عبر إطلاق مدونة لنشر بيانات تبني العمليات، إلى جانب إصدار أنشودة بعنوان “عندما يأتي الحساب”.
ورغم أن حركة العقاب الثوري لم تُحقق تحولًا استراتيجيًا في مسار العمل الجهادي المصري، فإنها شكلت محطة فاصلة في تطور الحركات المسلحة الجديدة، فقد مهدت الطريق لظهور حركات انطلقت من نفس الأسس التنظيمية، فمنذ نشأة العقاب، لم يظهر ما يُعرف بالأمير المؤسس أو هيكل هرمي معلن لكل الحركات الجديدة.

على الجانب الآخر، أصبح شمال سيناء معقلًا رئيسيًا للجماعات الجهادية التقليدية، وفي مقدمتها تنظيم ولاية سيناء، الذي واصل شن هجمات متكررة استهدفت الكمائن الأمنية والمقار الرسمية وشبكات الطرق، وكان تفجير الطائرة الروسية في عام 2015 من أبرز تلك العمليات.
وقد تزامن ذلك مع تأثر الجهاديين المصريين الجدد بالمشهد الإقليمي، خاصة بعد صعود داعش في العراق وسوريا، فرغم التوتر والعداء بين الإخوان وداعش، فإن هذا لم يمنع بعض شباب الإخوان من الانضمام إلى “ولاية سيناء”.
ومن أبرز هذه الحالات عمر الديب، نجل القيادي الإخواني البارز إبراهيم الديب، الذي ظهر في إصدار مرئي لتنظيم داعش بعنوان حماة الشريعة، موثقًا مشاركته في عمليات بسيناء قبل مقتله في 10 سبتمبر 2017 خلال اشتباك مسلح مع قوات الأمن في منطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة.
كما برزت في تلك الفترة جماعات جهادية تتبنى أفكارًا قريبة من تنظيم القاعدة، مثل مجموعات الوادي، ككتائب ردع الطغاة، وجند الإسلام، وأنصار الإسلام، وكتائب الفرقان، بالإضافة إلى كتائب أنصار الشريعة في أرض الكنانة التي أسسها سيد عطا، وقد نفذت الأخيرة نحو 24 عملية، وكان آخر تحركاتها محاولة الهروب من مجمع سجون طرة في سبتمبر 2020، بقيادة سيد عطا وثلاثة من رفاقه، قبل أن تنتهي المحاولة بمقتلهم جميعًا.
الموجة الثالثة: حسم ولواء الثورة
في صباح 16 يوليو 2016، تعرض الرائد محمود عبد الحميد ومجندان برفقته لهجوم مسلح أثناء توجههم إلى مركز شرطة طامية بمحافظة الفيوم، ما أدى إلى مقتلهم، وبعد ساعات، خرج أول بيان لحركة “سواعد مصر – حسم”، أعلنت فيه مسؤوليتها عن العملية، كاشفة عن ميلاد مرحلة جديدة من المواجهة، ومؤكدة أنها لن تضع السلاح حتى سقوط الحكم العسكري.
وأكد خالد سيف الدين المتحدث باسم حركة حسم أن الحركة كيان مستقل يضم مختلف التيارات السياسية الشبابية، ولا يتبع أي حزب أو فصيل سياسي، معتبرًا أن ربطها بجماعة الإخوان هو محاولة من النظام لتشويها وعزلها عن الشعب، وهو ما ترفضه الحركة.
بعد أكثر من شهر على اغتيال الرائد محمود عبد الحميد، شهدت مصر هجومًا جديدًا في مدينة السادات بمحافظة المنوفية، حيث أطلق خمسة مسلحين النار على كمين العجيزي فجرًا قبل أن يلوذوا بالفرار، وخلال ساعات، أعلنت حركة “لواء الثورة” مسؤوليتها عن الهجوم، مشيرة إلى أنه جاء تزامنًا مع ذكرى فض اعتصام رابعة.

شكل الإعلان عن ميلاد حركتي حسم ولواء الثورة نقطة تحول في مسار عمل الجهاديين المصريين، عاكسًا نقلة نوعية في البناء التنظيمي والقدرة العملياتية، فقد نفذ عناصر الحركتين عمليات نوعية في قلب المدن الكبرى، أبرزها اغتيال العميد عادل رجائي، أبرز الضباط المسؤولين عن تدمير الأنفاق مع غزة.
تقترب حركتا حسم ولواء الثورة في توجهاتهما الفكرية من الإخوان المسلمين مع مزيج يجمع بين تيارات متعددة، وتُعد هاتان الحركتان من أكثر التنظيمات المسلحة تطورًا من حيث البنية، إذ أنشأتا هياكل تضمنت وحدات للرصد، والدعم اللوجستي، والتنفيذ، ونفذتا عمليات تحاكي إلى حد كبير أسلوب أجناد مصر، ومع ذلك، فقد استفادتا من تنظيرات أبو مصعب السوري، خاصة في تجنب إنشاء بنية هرمية تقليدية.
ولم تقتصر خريطة العمل المسلح على هذين الكيانين، بل ظهرت في أطراف المدن تشكيلات أصغر شاركت في التجنيد وتنفيذ العمليات، بما يعكس ملامح مرحلة جديدة اتسمت باللامركزية التي نادى بها أبو مصعب السوري.
ومن اللافت في تجربة الجهاديين المصريين الجدد ما عكسته إصداراتهم من تطور على مستوى التدريب والإعداد، لا سيما في الإصدار المرئي قاتلوهم لحركة حسم، حيث ظهرت مشاهد من معسكرات تدريب في الصحراء.
كما أصدرت حركة “لواء الثورة” عملين إعلاميين بعنوان نذر الهلاك وفرسان الجنة، حملا رسائل واضحة على مستوى المحتوى الإعلامي ودلالات التدريب والتنظيم، وقد تضمن الإصدار الأول توثيقًا لعملية اغتيال العميد عادل رجائي قائد الفرقة التاسعة المدرعة.
أما الإصدار الثاني فرسان الجنة، فقد تضمن لقطات من معسكرات تدريبية أقيمت في منطقة صحراوية غير معلومة، ظهر فيها عدد محدود من العناصر لا يتجاوز 15 مقاتلًا، وهم يتلقون تدريبات على المهارات القتالية الأساسية مستخدمين بنادق رشاشة.
سمات الجهاديين المصريين الجدد
افتقرت غالبية الحركات الجهادية المصرية التي برزت عقب مجزرة رابعة إلى رؤية استراتيجية واضحة للتغيير، إذ تحركت معظم خلاياها بشكل منفصل، ودون تنسيق موحد أو تقدير في الإمكانات بينهم وبين النظام، كما ساهم تآكل الحاضنة الشعبية في إضعاف هذه التنظيمات.
في الواقع، استندت رؤية وعمل الجهاديين المصريين الجدد إلى منطق الثأر والقصاص، وصوروا عملياتهم المسلحة كرد فعل على القمع الذي يمارسه النظام، وكوسيلة للضغط من أجل وقف المحاكمات والإفراج عن المعتقلين، ويبرز هذا التوجه بوضوح في اختيار حركة العقاب الثوري لأنشودتها “عندما يأتي الحساب”، التي تعكس مركزية فكرة القصاص في دافعها للتحرك، بجانب شعارها الرئيسي “لن ننسى – لن نسامح – قسما لنقتص”.
وفي إطار هذا المنطق، حرص هؤلاء الجهاديون الجدد على تجنب استهداف المدنيين، ومؤكدين في بياناتهم عدم امتلاكهم طموحات خارجية أو ارتباطات إقليمية، كما عبرو عن ورفضهم استهداف المسيحيين أو دور عبادتهم، وكذلك تجنبوا الصدام مع الطرق الصوفية في تمايز واضح عن نهج داعش.
ففي عام 2017، أصدرت حركتا حسم ولواء الثورة بيانين منفصلين نفتا فيهما مسؤوليتهما عن تفجيري كنيستي طنطا والإسكندرية، مؤكدتين أن عملياتهما تقتصر على استهداف قوات الجيش والشرطة فقط.
كما تعكس البيانات الصادرة عن حركتي حسم ولواء الثورة محاولات لتوسيع نطاق خطابها الإعلامي إلى ما يتجاوز الداخل المصري، حيث تضمنت بعض البيانات عناوين باللغة الإنجليزية من قبيل “ To foreigners in Egypt بيان للأجانب في مصر”، في محاولة للتأثير على الرأي العام الدولي، رغم ذلك صنفت الولايات المتحدة وبريطانيا الحركتين على قوائم الإرهاب.
وعلى خلاف تنظيمي القاعدة وداعش، تجنب الجهاديون المصريون الجدد استخدام خطاب التكفير ضد الجيش والشرطة، مبررين قتالهم استنادًا إلى علة البغي لا الكفر، كما ابتعدوا عن المفاهيم الجهادية التقليدية مثل حاكمية الشريعة والولاء والبراء والكفر بالطاغوت، لكنهم صنفوا الجيش المصري بأوصاف حادة مثل الخائن، العميل، العسكر المأجورين، مرتزقة كامب ديفيد، مليشيات السيسي، النظام الفاشي.
في الوقت ذاته، وجه الجهاديون الجدد انتقادات لاذعة لتنظيم داعش، معتبرينه غاليًا في فكره وممارساته، حيث وصف صلاح الدين يوسف المتحدث باسم لواء الثورة داعش بأنه ورمًا سرطانيًا، فيما رأى خالد سيف الدين المتحدث باسم حسم أن منهج داعش منحرف وبعيد عن تعاليم الإسلام.
تجلى هذا الموقف في إصدار معظم الجهاديين الجدد بيانات تدين الهجوم على مسجد الروضة بمدينة بئر العبد في شمال سيناء، والذي أسفر عن مقتل 310 من المصلين، في عملية يُعتقد على نطاق واسع أن ولاية سيناء التابعة لداعش تقف خلفها.
ورغم أن غالبية التنظيمات الجهادية المصرية الجديدة التي ظهرت بعد مذبحة رابعة لم تُظهر توجهًا لاستهداف المصالح الأجنبية داخل البلاد أو خارجها، فإن محاولة تفجير سفارة ميانمار في القاهرة شكل استثناءً لافتًا.
ففي 30 سبتمبر 2017، فجر مقاتلو حسم عبوة ناسفة قرب مبنى سفارة ميانمار الواقعة بحي الزمالك، وذلك ردًا على ما اعتبروه جرائم تمارسها حكومة ميانمار بحق مسلمي الروهينغا، وأكدت الحركة في بيانها أن العملية تندرج ضمن رؤيتها لمقاومة الظلم والاستبداد أينما كان في الداخل والخارج.
وأعقب الهجوم رسائل أخرى صادرة عن الحركة، وجهت فيها تحذيرات لحكومات أجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول غربية، مؤكدة استمرارها في العمل المسلح ضد النظام المصري، وداعية تلك الحكومات لممارسة ضغوط لإيقاف ما وصفته بالقمع الممنهج. كذلك تأثرت حركة حسم بمجريات الأحداث في سوريا، حيث أصدرت في مطلع أغسطس 2016 بيانًا أعلنت فيه تضامنها مع المجاهدين هناك، ولا سيما في مدينة حلب.
العنف المؤجل: تراجع أم إعادة تشكل؟
لا تظنوا صمتَنا يعني بأن الكل خائف .. إنه يبقى هدوءًا سابقًا قبل العواصف
- أحد أبيات النشيد الرسمي لحركة العقاب
لم تنجح عمليات الجهاديين المصريين الجدد في ردع الأجهزة الأمنية، إذ واجههم النظام بسياسات أمنية صارمة، ونجح خلال الأعوام 2017 و2018 و2019 في تفكيك عدد من الخلايا والحركات المسلحة وتدمير هياكلها التنظيمية، بجانب القبض على هشام عشماوي أمير تنظيم المرابطين وإعدامه في عام 2020.
أما تنظيم داعش، فقد تعرض لضربات موجعة من الجيش والأجهزة الأمنية، أدت إلى تفكيك خلاياه وتراجع نشاطه بشكل شبه كامل في سيناء وباقي أنحاء البلاد خلال السنوات الأخيرة.
وبفعل تلك الحملات المكثفة وتعدد موارد النظام المدعوم إقليميًا ودوليًا، تراجعت قدرة التنظيمات والخلايا المسلحة على الاستمرار، حيث تمكنت الأجهزة الأمنية من كشف وتفكيك معسكرات تدريب في أسوان والبحر الأحمر وشمال سيناء، وتشير البيانات الرسمية إلى أن النظام تمكن خلال خمس سنوات فقط (2013–2018) من تفكيك 992 خلية مسلحة نشأت عقب فض اعتصام رابعة.
ومع حلول عام 2020، انخفض نشاط الجهاديين الجدد بشكل ملحوظ، غير أن هذا الانحسار لا يعني زوال الظاهرة، إذ تبقى إمكانية إعادة التشكل قائمة، خاصة في ظل تجاهل الأسباب التي أفضت إلى صعود الجهاديين الجدد، إذ إن البيئة التي خرج منها هؤلاء لم تشهد تغييرات جوهرية.
وجدير بالذكر أن الأجهزة الأمنية المصرية لازلت حتى اللحظة تواجه تهديدات الخلايا المرتبطة بالجهاديين الجدد، ففي أواخر يوليو الماضي، أعلنت وزارة الداخلية عن تفكيك إحدى الخلايا التابعة لحركة حسم، في مؤشر على استمرار النشاط السري لهذه الحركة رغم الضربات الأمنية المتلاحقة.
في الواقع، تميزت كل موجة من موجات الجهاديين المصريين الجدد بتطور واضح في أساليبهم مقارنة بسابقتها، ورغم ما تواجهه هذه الخلايا حاليًا من أزمات حادة، كضعف التمويل وغياب الملاذات الآمنة للتدريب والإيواء، فإن هذه التحديات لن تؤدِ إلى زوالهم.
فقد أظهروا قدرة على التكيف والبقاء، مستندين إلى هيكلهم التنظيمي اللامركزي المستلهم من أفكار أبي مصعب السوري، وهو ما أتاح لهم الحفاظ على نشاطهم لفترات ممتدة رغم الضربات الأمنية المتعاقبة.
صحيح أن الجهاديين المصريين الجدد لا يشكلون حاليًا تهديدًا وجوديًا لنظام السيسي، إلا أنهم يمثلون خطرًا بعيد المدى قد يفوق في تداعياته ما أحدثه تنظيم ولاية سيناء، فاختفاؤهم عن المشهد لا يعني تخليهم عن خيار الكفاح المسلح، بل يعكس مرحلة إعادة تموضع وبناء خلايا أكثر تماسكًا، استعدادًا لانطلاقة جديدة أشد فتكًا وأكثر تنسيقًا وفي انتظار توفر ظروف تسمح باستئناف المواجهة مع النظام.
ورغم التراجع الظاهري في نشاط الجهاديين المصريين الجدد، إلا أن واقعة مقتل رجل الأعمال الإسرائيلي “زيف كيبر” في الاسكندرية أعادت تسليط الضوء على احتمالية عودة هذا التيار بصيغ جديدة وأكثر مرونة، فالحادثة التي وُصفت بأنها منفذة بدقة تفتح باب التأويل حول وجود خلايا صغيرة تتحرك بمنطق الضربات الرمزية.
ومع النجاحات التي حققتها التجربة الجهادية في سوريا، يُرجح أن يستلهم الجهاديون المصريون الجدد دروسًا منها لتجاوز أزمتهم الحالية، ومن المرجح في هذا السياق أن تستمر ولادة خلايا جديدة تعتمد على الخبرات المتراكمة.
في المجمل، نحن أمام جيل جديد من الشباب الإسلامي تَبلور وعيه في سياق ما بعد 30 يونيو 2013، وهذا الجيل يتسم بابتعاده عن أطروحات الإسلاميين والجهاديين التقليدية لصالح مقاربات أكثر واقعية وتكيفًا مع المتغيرات.
لقد أفرزت التجربة وتراكم الإخفاقات جيلًا أكثر نقدًا، تشكل وعيه على وقع تحولات كبرى، كثير منها كان مأساويًا، ومع تقدم معظم القيادات الإسلامية المصرية في السن، يبرز هذا الجيل بوصفه حالة استثنائية، مرشحة للعب دور محوري في إعادة تشكيل التيار الإسلامي المصري في السنوات القادمة.