شكّل سقوط نظام الأسد لحظة مفصلية في التاريخ السوري، خلّف وراءه موجات من التغيير الجذري والفوضى المؤسسية، ومن بين أبرز أعمدة النظام التي تأثرت بعمق كانت السلطة القضائية، بما في ذلك محاكم الإرث وآليات فض النزاعات المتعلقة بالملكية والحقوق الشخصية، وقد جاءت هذه الفوضى القضائية امتدادًا طبيعيًا لما كرّسه النظام السابق من ممارسات سلطوية شملت التلاعب بالقوانين، ومصادرة الممتلكات، وتقييد العدالة لصالح النخب الحاكمة.
ومع تفاقم موجات الهجرة والنزوح الجماعي في السابق، وفقدان كثير من وثائق الملكية، ازداد المشهد تعقيدًا، لتغدو قضايا الإرث في سوريا بعد سقوط النظام من أكثر الملفات القانونية والاجتماعية حساسية وتشابكًا. ومع بدء عودة السكان تدريجيًا إلى مناطقهم، عادت هذه القضايا لتتصدر المشهد بقوة، ما يستدعي مقاربة متأنية للجذور السياسية والقانونية التي أفرزتها، والسعي إلى صياغة حلول عملية قابلة للتنفيذ تكفل تحقيق العدالة وصون الحقوق في مرحلة إعادة الإعمار.
القوانين الاستثنائية.. إرث من الظلم القانوني
عمد نظام الأسد خلال عقود إلى إعادة تشكيل البنية القانونية بما يخدم مصالحه، مما أدى إلى تعقيد كبير في قضايا التوريث وتوزيع التركات، فقد أسهمت السياسات التشريعية الاستثنائية التي تبناها النظام في زعزعة الأسس القانونية المنظمة للملكية الفردية وحقوق الورثة، من خلال إصدار قوانين مجحفة.
كان أبرزها قانون التطوير والاستثمار العقاري رقم 15 لعام 2008 الذي سهّل نزع ملكية الأراضي والعقارات بحجة مشاريع التطوير العمراني، وقانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 الذي أتاح للمحاكم مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة استنادًا إلى تهم فضفاضة تتعلق بالإرهاب، والقانون رقم 10 لعام 2018 الذي منح السلطات صلاحيات واسعة لمصادرة ممتلكات المهجّرين والمغيّبين قسرًا تحت ذرائع أمنية.
وقد شكّلت هذه التشريعات مجتمعة عقبة رئيسية أمام استعادة الحقوق العقارية لأصحابها الشرعيين، وأحدثت تأثيرات قانونية واجتماعية عميقة على نظام الملكية والإرث في البلاد.
في ظل هذه السياسات، اضطر كثير من السوريين إلى نقل ملكياتهم العقارية بطرق غير رسمية، عبر توكيلات غير موثقة أو وسطاء، الأمر الذي فتح المجال أمام ممارسات احتيال واستيلاء على ممتلكات الغائبين، حتى من قبل أقربائهم، وعند عودتهم بعد سنوات من الغياب، فوجئ العديد منهم بفقدان حقوقهم العقارية. وقد أسهمت هذه الممارسات في زيادة تعقيد النزاعات العقارية أمام الجهات القضائية، التي تجد صعوبة بالغة في البت فيها بسبب انعدام الوثائق والسجلات الرسمية اللازمة.
في سؤال “نون بوست” للمحامي بسام الفوال عن أثر النزوح والتهجير على معاملات الإرث، أجاب بأن هذه الظروف لم تؤثر بشكل كبير على إجراءات حصر الإرث من الناحية القانونية، حيث كان بالإمكان إنجاز المعاملة في أي محافظة، إلا أن الإشكاليات كانت تظهر عندما يكون أحد الورثة مطلوبًا للنظام، الأمر الذي يؤدي إلى توقف المعاملة،في مثل هذه الحالات، يضطر الورثة إلى رفع دعوى “إزالة شيوع”، وتُسجَّل حصة الوريث المطلوب باسم صندوق المحكمة إلى حين البتّ في وضعه القانوني، وغالبًا ما كان بقية الورثة يسعون إلى تثبيت حقوقهم بشكل منفصل لضمان عدم ضياع أنصبتهم.
وفي سياق متصل، أشار الفوال إلى أن تعدد حالات الاستشهاد داخل العائلة الواحدة شكل تحديًا قانونيًا وشرعيًا إضافيًا، خاصة في ظل غياب الوثائق الرسمية أو صعوبة الوصول إلى شهود. فمن الناحية الشرعية، يتطلب الأمر إثبات وفاة كل فرد على حدة، إلا أن تعقيدات الواقع دفعت بعض العائلات إلى الاكتفاء بإثبات وفاة أحد أفرادها فقط، مما يؤدي إلى اعتباره وريثًا للآخرين، ويترتب على ذلك إعادة توزيع غير دقيقة للتركة، لا تعكس الحقيقة الكاملة لأنصبة الورثة.
وفي محاولة لتصحيح هذا الإرث من السياسات الجائرة، أصدرت الحكومة الانتقالية في مايو/أيار 2025 المرسوم رقم 16 القاضي برفع الحجز الاحتياطي الذي فُرض خلال السنوات الماضية على ممتلكات عشرات الآلاف من السوريين بسبب مواقفهم السياسية أو مشاركتهم في الحراك الثوري. وقد نُفّذ القرار فعليًا عبر وزارة المالية، ما أتاح استعادة الحقوق المجمدة لكثير من العائلات، وأعاد الأمل بإنهاء واحدة من أبرز أدوات العقاب الجماعي التي استخدمها النظام السابق في قضايا الملكية والإرث.
تجميد السجل العقاري
مع دخول البلاد مرحلة ما بعد انهيار النظام، أصدرت وزارة العدل في الحكومة الانتقالية في كانون الأول/ديسمبر 2024 قرارًا بتجميد العمل في السجل العقاري، شمل تعليق تسجيل عقود البيع والشراء، وتجميد تحديثات الملكية في مختلف المحافظات، وذلك بغية إعادة تنظيم الملكيات المرتبطة بالنظام السابق والتثبت من شرعيتها.
وقد جاءت هذه الإجراءات كجزء من جهود الحكومة الانتقالية والتي تهدف إلى حماية حقوق المالكين الأصليين ومنع محاولات التزوير أو الاستغلال خلال فترة الفراغ القانوني التي أعقبت سقوط النظام، وشملت الخطوات مراجعة دقيقة للسجلات العقارية الرسمية، مع فتح باب التظلمات القانونية أمام المتضررين للطعن في صحة العقود والتصرفات التي تمت سابقًا.
كما تشير مصادر متعددة إلى نية الحكومة تعديل أو إلغاء قوانين عهد النظام السابق التي قيدت حقوق المواطنين، بهدف وضع إطار قانوني أكثر عدلاً وشفافية يدعم العدالة الانتقالية في ملف الملكية العقارية.
الأثر القانوني
قيّد قرار التجميد قدرة الأفراد على إثبات ملكياتهم أو نقلها قانونيًا، حتى في الحالات ذات التوثيق السليم. كما عطّل القرار مهل الطعن في قضايا الملكية العالقة، مما جعل آلاف القضايا القضائية متوقفة، وساهم في تعقيدات قانونية، خصوصًا في المناطق التي شهدت موجات نزوح أو تغيّب طويل للمالكين الأصليين.
وزاد الأمر تعقيدًا أن إتمام معاملات الإرث، بما في ذلك فرز الحصص وتثبيت الملكيات بين الورثة، كان يتطلب الحصول على “براءة ذمة مالية” من الدوائر المختصة، وهي الوثيقة التي توقّف إصدارها طوال فترة التجميد، ما أدى إلى تراكم كبير في ملفات الإرث وعدم قدرة الورثة على استلام أو تسجيل حصصهم رسميًا.
ورغم الإعلان عن إعادة تفعيل عمليات نقل الملكية العقارية رسميًا منذ 21 حزيران/يونيو، لا تزال قضايا الإرث وتقسيم الممتلكات تواجه تعقيدات كبيرة على أرض الواقع، إذ إن آلاف العائلات التي علّقت معاملات الإرث خلال سنوات النزاع، وجدت نفسها اليوم أمام دوائر عقارية مثقلة بالطلبات مع نقص في الكوادر، ما تسبب بتأخير كبير في إنجاز المعاملات.
بالإضافة إلى ذلك، برزت قضية حرمان النساء من الميراث كمظهر متجدد لإشكالية قديمة في المجتمع السوري، والتي كانت مغيّبة خلال سنوات النزاع بسبب فقدان السيطرة على الممتلكات وغياب إمكانية المطالبة بالحقوق. ومع بدء استعادة بعض الأفراد لأملاكهم تدريجيًا، وجدت كثير من النساء أنفسهن في مواجهة تحديات قانونية واجتماعية جسيمة عند محاولة نيل حقوقهن في التركة، ما ألقى بظلاله الثقيلة على ملف الإرث، وأضاف إليه بعدًا إضافيًا من التعقيد.
تمثّل قصة سارة مثالًا حيًا على قضية التلاعب والحرمان بحق النساء. فقد اضطرت، بعد تهجيرها القسري من دمشق إلى خارج البلاد، إلى تفويض شقيقها بإدارة أملاكها العقارية، لتتفاجأ عند عودتها بعد سنوات بأن شقيقها قد باع منزل العائلة دون علمها، مستغلًا الوكالة الممنوحة له بطريقة غير قانونية. وعلى الرغم من محاولاتها استعادة حقها عبر القضاء، إلا أن العقبات القانونية، واستخدام وثائق مزورة، لا تزال تشكّل عائقًا أمام استعادة حقها.
في هذا السياق، يشير المحامي بسام الفوال إلى أن كثيرًا من النساء، وخاصة في بعض المحافظات والمناطق الريفية، لا يُمنحن حقوقهن الكاملة في الميراث، بل يُحرمن منها كليًا أحيانًا، ما يضطرهن إلى اللجوء إلى القضاء لرفع دعاوى تثبيت الحق. ويضيف:
“في بعض العائلات، لا يُعترف للأنثى بأي حق، لا سيما عند الجهل القانوني أو الخلط بين الشرع والقانون، فهناك نوع من العقارات في سوريا يُسمى العقار الأميري، وهو يمنح المرأة حصة مساوية للرجل بحسب القانون، خلافًا لما هو مقرر في الشريعة الإسلامية التي تعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وبعض العائلات كانت ترفض منح المرأة حصتها في العقار الأميري بحجة أنه يخالف الشرع، في حين أن القانون صريح في هذا الباب ويعطيها الحق الكامل”.
القضاء البديل: لجان أهلية تسدّ الفراغ
مع انهيار النظام وتجميد عمل القضاء لفترة طويلة، وجد الناس أنفسهم أمام فراغ قانوني كبير في فض النزاعات، من هنا نشأت في العديد من أحياء دمشق ومحافظات أخرى مثل درعا وحلب لجان غير رسمية وعفوية، شكلتها المبادرات المحلية لسد هذا الفراغ.
وقد عملت هذه اللجان على حل النزاعات العقارية والمالية والاجتماعية، ومنها قضايا الإرث والزواج والطلاق، عبر تقديم حلول وسطية وسريعة تعتمد على العرف المحلي، وذلك لتفادي اللجوء إلى المحاكم التي تعاني من شلل أو عدم استقرار. وتعتمد اللجان بشكل رئيسي على شهادات الشهود وضمانات من وجهاء الحي أو المختار، ورغم أن قراراتها ليست ملزمة قانونيًا، إلا أن بعضها يُستخدم كأدلة أمام القضاء الرسمي عند الحاجة.
وفي سياق رصد آليات فض النزاعات المتعلقة بالإرث بعد سقوط النظام، أوضح الأستاذ حميد اللحام، رئيس لجنة الصلح في مدينة داريا لـ”نون بوست” أن تشكيل اللجان الصلاحية في معظم المحافظات السورية كان من أبرز المنجزات التي تلت التحرير، حيث لعبت دورًا مهمًا في حل الخلافات الاجتماعية والعقارية. وأشار اللحام إلى أن النزاعات بين الورثة تُعد من أعقد القضايا، خاصةً عندما يستحوذ أحدهم على أموال التركة.
وأكد أن اللجنة تبدأ محاولاتها بالطرق الودية والنصيحة، وقد نجحت في حل بعض النزاعات، غير أن حالات أخرى تستدعي اللجوء إلى القضاء. وأضاف أن هناك قضايا يتم حلها عبر تفويض جميع الورثة للجنة الصلح بقسمة التركة وفق الأحكام الشرعية، مع أخذ بصماتهم على صك الصلح، وهو ما يجعل القرار ملزمًا لجميع الأطراف ويعتمد عليه القضاء في تنفيذ الحكم.
وإلى جانب هذه اللجان، لجأ عدد من العائلات إلى أسلوب التراضي العائلي لحل نزاعات الإرث بشكل ودي، من خلال الاتفاقات الشفهية أو التفاهمات العرفية بعيدًا عن أي توثيق رسمي، بهدف الحفاظ على الروابط الأسرية وتجنب الإجراءات القانونية المعقدة، ومع ذلك، تواجه هذه الحلول تحديات كبيرة، منها ضعف الحياد في بعض الحالات، وغياب الخبرة القانونية المتخصصة، بالإضافة إلى تعرضها أحيانًا لضغوط، خاصة في النزاعات المتعلقة بالإرث وملكية العقارات.
ختامًا، يكشف ملف الإرث في سوريا بعد سقوط النظام عن تداخل معقد بين التحديات القانونية والاجتماعية، حيث تتوارث المرحلة الراهنة آثار السياسات الجائرة لنظام الأسد إلى جانب الأعراف والممارسات غير المنصفة، ولا سيما بحق النساء، وبين مساعي الحكومة الانتقالية لإعادة تنظيم الملكية، وجهود اللجان الأهلية في فض النزاعات، يظل ضمان العدالة وحماية الحقوق مرهونًا بقدرة المرحلة المقبلة على تأسيس إطار قانوني شفاف يعزز سلطة القضاء، ويحفظ المصلحة العامة فوق أي اعتبارات شخصية أو فئوية.