ترجمة وتحرير: نون بوست
في قرية لانتونغ النائية في إندونيسيا، تُزال النباتات من قمم التلال، وتتقدم الحفارات في الأفق بخطوات ثقيلة، وتستخرج صخورًا عروقها صفراء، وفي الجوار تتراكم مواد كيميائية لزجة في خنادق بحجم حمامات السباحة الأولمبية.
يقول المحققون الإندونيسيون إن هذا العمل تقوم بها اتحادات تنقيب صينية تمتلك رأس مال كبير وعلاقات واسعة، وأغلبه غير قانوني.
تجلب هذه الاتحادات خرائطها الجيولوجية وحفاراتها وخزاناتها، وتعمل دون تصاريح ودون رقابة من الشرطة المحلية، وهو ما يُطلق عليه السكان المحليون “مافيا التعدين”، التي تسيطر على أثمن الموارد في هذه التلال: الذهب.
يقول تاجر ذهب من لانتونغ، يدعى خيرو خير الدين: “لا نعرف إلى أين يأخذونه، كل ما نعرفه أنه لا يبقى هنا”.
تشتري الصين الذهب بشراهة غير مسبوقة في إطار جهودها الاستراتيجية لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتحصين نفسها من العقوبات الأمريكية المحتملة، وبناء قدرتها على التأثير في النظام النقدي الدولي. وقد ساهم هذا التوجه في تغذية وتسهيل طفرة التنقيب غير المشروع عن الذهب في جميع أنحاء الجنوب العالمي، مسببًا دمارا بيئيا يمتد من إندونيسيا إلى غانا إلى غويانا الفرنسية، وفقًا لتحقيق أجرته صحيفة واشنطن بوست.
ويستند التحقيق حول دور الصين في ازدهار تجارة الذهب غير المشروعة إلى مراجعة صور الأقمار الصناعية، والبيانات التجارية، والسجلات العامة، وعشرات المقابلات مع باحثين في مجال الذهب، ومسؤولين في أجهزة إنفاذ القانون، ومسؤولين حكوميين في ثلاث قارات.
وفي إندونيسيا، حيث يعد التنقيب غير المشروع من أكثر أشكال التنقيب انتشارا وأقلها دراسة، حصلت صحيفة واشنطن بوست على وثائق حكومية داخلية وزارت عددًا من مناطق التنقيب النائية التي تشهد تحولًا نتيجة العمليات التي تقودها الصين.
رفض العمال الصينيون في هذه المواقع التحدث إلى واشنطن بوست، لكن شركات التنقيب الصينية في إندونيسيا أفادت في مقابلات بأن الاستثمار في قطاع الذهب في البلاد يشهد ارتفاعًا حادًا. وتعلن شركات التنقيب الصينية عن إمكانية وصول “مجاني وسهل” إلى رواسب الذهب الضخمة في إندونيسيا في مقاطع فيديو موجهة للمستثمرين على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية.
حذّر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في مايو/ أيار الماضي من أن الجريمة المنظمة تتجذر بعمق في سلاسل توريد الذهب، مما يُشكّل “تهديدًا عالميًا خطيرًا”. وفي ظلّ ارتفاع أسعار الذهب إلى ما يزيد عن 3000 دولار للأونصة بسبب الطلب الصيني المتزايد، قال المكتب إن عصابات المخدرات والإرهابيين والمرتزقة يوسعون نشاطهم في هذا القطاع، وتعمل أغلب هذه الجهات بشكل أو بآخر مع شركات التنقيب الصينية، الحاضرة في جميع مراحل السلسلة، “من المنجم إلى السوق”، ولديها أكبر قدرة على العمل في المواقع الأكثر عزلة والأقل استغلالا، وفقًا للخبراء في قطاع الذهب.
ويقول المحققون إنّ العديد من عمليات التنقيب غير المشروعة يموّلها ويديرها مباشرةً مستثمرون صينيون من القطاع الخاص، ويبدو أنهم يعملون دون رقابة أو تبعات تُذكر من السلطات الصينية. وقد أثار هذا الأمر ادعاءات في الدول الغنية بالذهب بأنّ بكين تسمح بنهب الذهب في الخارج، مما يُتيح المجال لتجارةً سريعة التطور. ويُحذّر مسؤولو الأمم المتحدة من أن هذه العمليات تُؤدّي إلى تمويل مجموعة من الأنشطة الإجرامية الأخرى.
وقد رفض المسؤولون الصينيون هذه الادعاءات، ومنهم السفير الصيني في غانا تونغ ديفا، الذي قال في يونيو/ حزيران إن إلقاء اللوم على بكين في انتشار التنقيب غير القانوني عن الذهب يُعدّ “ظلمًا كبيرًا”.
ولم تُجب وزارة الخارجية الصينية وغرفة التجارة الصينية لمستوردي ومصدري المعادن والمواد الكيميائية عن أسئلة مُفصّلة من صحيفة “واشنطن بوست”. وقالت السفارة الصينية في واشنطن إنها “ليست على علم” بادعاءات الدول الغنية بالذهب بشأن دور الصين، ورفضت التعليق.
وقال ديفيد سود، محلل المعادن الذي كتب تقارير عن الذهب لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: “لقد أصبحت الشبكات الصينية متورطة بشكل كبير في تجارة الذهب غير المشروعة”. وأضاف: “يذهب جزء كبير من الذهب الذي تستخرجه هذه الشبكات أو تحصل عليه بطرق أخرى إلى الصين عبر سلاسل توريد شديدة الغموض”. ويقول مسؤولون ومحللون إن ذلك يتم عادةً دون دفع ضرائب أو غرامات في مناطق التنقيب.
ووفقا لديفيد سود ومحققين آخرين، فإن اتحادات التنقيب الصينية تعمل بشكل مختلف عن المنقبين التقليديين وشركات التعدين القانونية، بما في ذلك الشركات الصينية.
وبينما يستخدم المنقبون الحرفيون القليل من الآلات، أو لا يستخدمونها على الإطلاق، فإن المنقبين الصينيين غير الشرعيين يستخدمون الكسارات والحفارات وغيرها من الأدوات لاستخراج المعادن على نطاق يضاهي المناجم الصناعية. لكن على عكس المناجم الصناعية، يقول المحللون إن العصابات تعمل دون مراعاة للوائح البيئية والصحية وقواعد السلامة، مما يؤدي إلى الإضرار بالغابات والأنهار بمعدلات لم يسبق لها مثيل في العديد من المناطق.
تدفع الشركات الصينية أيضًا نحو التحول من استخدام الزئبق إلى استخدام السيانيد في معالجة الذهب، وهي عملية أكثر فعالية ولكنها أيضًا أكثر خطورة عند استخدامها دون ضوابط صارمة، وفقًا لخبراء التعدين.
قال براد بروكس-روبين، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية الذي عمل على سلاسل توريد المعادن في إدارة بايدن: “لقد أصبح هذا النظام أكثر تعقيدًا وتنظيمًا بكثير”. وأضاف: “لقد أغفلت السياسة الغربية ما حدث إلى حد كبير”.
وفي إشارة إلى أن هذه القضية بدأت تتحول الآن إلى قضية سياسية، صنفت إدارة ترامب في مارس/ آذار الذهب ضمن المعادن الحيوية للولايات المتحدة لأول مرة، كجزء من أمر تنفيذي يهدف إلى “تقليل الاعتماد على الدول الأجنبية”.
وفي جلسة استماع عُقدت بعد بضعة أيام، وصف رئيس اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية في مجلس النواب المعنية بأفريقيا، النائب كريس سميث (جمهوري عن ولاية نيوجيرسي)، الصين ومصالحها التعدينية بأنها “أكبر المستفيدين” من تجارة الذهب غير المشروعة.
رفضت بكين مناشدات الجهات التنظيمية في الدول الغنية بالذهب للمساعدة في وقف نشاط شبكات التعدين التي تديرها الصين، واختارت عدم المشاركة في الجهود متعددة الأطراف لمكافحة التجارة غير المشروعة، وفقًا لما ذكره مسؤولون ونشطاء في مقابلات مع واشنطن بوست.
ووفقًا لمراجعة أجرتها صحيفة واشنطن بوست للبيانات الحكومية وسجلات المحاكم والتقارير الإخبارية، فقد رفعت السلطات في 15 دولة غنية بالذهب على الأقل دعاوى قضائية ضد مواطنين وشركات صينية بسبب التنقيب غير القانوني عن الذهب منذ بداية عام 2024.
-
في غانا، أكبر دولة مصدرة للذهب في أفريقيا، يقول المسؤولون إن الاتحادات الصينية دمرت مساحات شاسعة من غرب وجنوب البلاد، وتنتقل الآن إلى الشمال. وقال النائب الغاني تياه ماهاما، واصفًا الحزب الشيوعي الصيني بأنه “متواطئ” في التدمير: “الحكومة الصينية لا تفعل شيئًا حيال ذلك”. وقد تم اعتقال مئات المواطنين الصينيين في الأشهر الأخيرة، وقال وزير الأراضي والموارد الطبيعية إيمانويل أرماه كوفي بواه في مقابلة إن غانا حاولت طلب مساعدة السلطات الصينية، ولكن دون جدوى. وأكد بواه أن المنقبين عن الذهب المُرحَّلين يتمكنون عادةً من العودة إلى البلاد، مضيفًا: “لقد كان الأمر صعبًا”.
-
وفي إندونيسيا، ثاني أكبر منتج للذهب في آسيا بعد الصين، يقول مسؤولو وزارة الطاقة والموارد المعدنية إنهم يتلقون تقارير شبه يومية عن مناجم ذهب غير قانونية في مختلف أنحاء الأرخبيل، وأن أكبرها مرتبط بمواطنين صينيين، استناداً إلى تحقيقات أولية. وفي قضية بارزة العام الماضي، طلبت السلطات الإندونيسية من السفارة الصينية المساعدة في تحديد هوية مواطنيها والمساعدة في التحقيق، وقال مسؤول إندونيسي – طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخوّل بالكشف عن تفاصيل التحقيق – ” إنهم لم يكونوا متعاونين”، وأضاف أن المشتبه بهم الصينيين فروا من إندونيسيا.
-
وفي غويانا الفرنسية، وهي إقليم تابع لفرنسا في أمريكا الجنوبية، يشكل المستثمرون الصينيون “سلسلة لوجستية أساسية” في سوق الذهب غير القانوني الذي تنفق القوات المسلحة الفرنسية عشرات ملايين الدولارات سنوياً لمكافحته، حسب ما ذكره تقرير صادر عام 2023 عن “مؤسسة البحوث الاستراتيجية”، وهي مركز أبحاث دفاعي تشارك الحكومة الفرنسية في تمويله. وقال التقرير إن “انخراط الفاعلين الصينيين جزء من سياق عالمي لانتزاع الموارد ونهبها، شجّعته أو سهّلته الحكومة الصينية”.
احتياطيات غامضة
تُعد الصين من بين أكبر مشتري الذهب في العالم منذ أكثر من عقد، وفقاً لبيانات مجلس الذهب العالمي. لكن المحللين يقولون إن حجم الذهب الذي تمتلكه الصين – ومصدره – ما يزال غامضا.
ينخرط الحزب الشيوعي الصيني بشكل كبير في حصول البلاد على الذهب، سواء عبر بنك الشعب الصيني، أو الوسطاء، أو من خلال سياسات صناعية شجعت على شراء الذهب بالتجزئة وحفزت التعدين في الخارج، وفقاً لما يقوله الخبراء.
في عام 2017، قال سونغ شين، الذي كان حينها رئيسًا لجمعية الذهب الصينية، إن مبادرة الحزام والطريق، وهو برنامج البنية التحتية العالمي الذي تبلغ قيمته تريليون دولار، هي “طريق ذهبي أيضًا”.
ومن عام 2000 حتى 2024، وقّع المقرضون التابعون للدولة الصينية 85 التزامًا تمويليًا لمشاريع استخراج ومعالجة الذهب في دول الجنوب العالمي، وفق بيانات قدمتها مؤسسة “آيد داتا” التابعة لجامعة ويليام آند ماري في ولاية فيرجينيا لصحيفة واشنطن بوست.
وقال زينغ شانيو، وهو مستثمر صيني في مجال تعدين الذهب ومقره إندونيسيا، إنه أصبح من الأسهل الآن على منقبي الذهب الصينيين العثور على عمل خارج الصين مقارنةً بوطنهم. وينحدر العديد من هؤلاء الذين يهاجرون إلى الخارج من مقاطعة قوانغشي الجنوبية، ذات التاريخ العريق في مجال التنقيب، لكن رجال أعمال من مناطق أخرى في الصين، مثل مقاطعة تشجيانغ، يسافرون إلى الخارج أيضًا. وأضاف زينغ: “الجميع يعملون في التنقيب”.
لكن هذا ليس كافيًا بالنسبة للمنظرين الاستراتيجيين الصينيين.
صرح ليو بينغ، المسؤول البارز في الحزب الشيوعي الصيني، في مارس/ آذار خلال الاجتماع السنوي لأعلى هيئة استشارية سياسية في الصين: “لا تزال احتياطيات الصين من الذهب غير كافية، ويجب زيادتها”. وقال تشانغ تشيغانغ، وهو مسؤول آخر في الحزب، إن الذهب “أداة حاسمة” للأمن القومي للبلاد.
وفيما لا تُبدي الكثير من الدول شفافية كاملة بشأن احتياطياتها من الذهب، إلا أن هناك تباينا كبيرا للغاية بين ما تُصرح به السلطات الصينية حول حجم مخزوناتها من الذهب وبين والتقييمات المستقلة الصادرة عن المجموعات التجارية والبنوك.
في وثيقة بحثية صدرت في سبتمبر/ أيلول 2024، ذكرت غولدمان ساكس أن تقديراتها لمشتريات البنك المركزي الصيني من الذهب كانت في بعض الأشهر أعلى بما يصل إلى 60 طنًا مما أعلنه البنك. وأكد محلل الذهب جان نيوينهويس من “موني ميتالز” بأن بنك الشعب الصيني اشترى سرًا 570 طنًا من الذهب على مدار عام 2024، ليصبح لديه الآن أكثر من ضعف ما يصرّح بامتلاكه.
وقال نيوينهويس لصحيفة واشنطن بوست إن حجم مشتريات الصين يُغيّر سوق الذهب، مضيفًا: “السبب هو أنهم يرون الذهب بديلاً حقيقيًا للدولار”.
لم يستجب بنك الشعب الصيني لطلبات التعليق. وفي بيان، قالت الإدارة العامة للجمارك الصينية إنها تتبع “الاتفاقيات الدولية” في جمع المعلومات ونشرها، وأضافت: “بيانات استيراد وتصدير الذهب في الصين مفتوحة وشفافة”.
قال تشاو تشينغمينغ، الأستاذ المساعد في كلية التمويل بجامعة الاقتصاد والأعمال الدولية في بكين، إنّه نظرًا للقيمة الاستراتيجية للذهب، فمن الطبيعي أن تكون احتياطيات الصين منه “سرية”، مضيفًا: “لا تكشف أي دولة علنًا عمّا إذا كانت احتياطياتها من الذهب مكتسبة محليًا أم دوليًا، أو عن كمية الذهب المستمدة من كل مصدر”.
ويقول الباحثون إن المشكلة تكمن في أن هذا الغموض المتزايد يُخفي كميات كبيرة من الذهب الذي تم استخراجه بشكل غير قانوني.
وتشير التقديرات المتحفظة إلى أن قيمة قطاع الذهب غير القانوني تتجاوز 30 مليار دولار أو ما يعادل 400 طن سنويًا. ووجدت دراسة أصدرتها منظمة “سويس إيد” غير الربحية في 2024 أن تهريب الذهب من أفريقيا قد تضاعف بين عامي 2012 و2022.
وقال بيت تشيريكو، المدير المساعد لمركز “فلورنس بيسكوم لعلوم الأرض” التابع لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، الذي يقدّم للحكومة الأمريكية تقييمات علمية لاستخراج الموارد: “قد تكون المناجم غير المرخّصة أصغر من المناجم القانونية على مستوى كل منجم بمفرده، لكن إذا جُمعت على مستوى بلد واحد – أو في عدة بلدان – فإنها تشكل كمية هائلة جدًا”.
بمجرد صهره، يصبح من المستحيل التمييز بين الذهب المستخرج بشكل غير قانوني والذهب المستخرج بطريقة قانونية، وله نفس القيمة بالنسبة لأكبر مشترٍ في العالم.
وقال تشيريكو: “إذا كان لديك مصلحة استراتيجية في الذهب، فلن تكتفي بالاعتماد على قطاع التعدين الصناعي فقط. سوف تحاول جمع الذهب من أي مكان يمكن أن تجده فيه”.
“التعدين الشعبي”
نظر لالو أديمايات (40 عاما) من نافذة سيارة تويوتا رباعية الدفع ملطخة بالطين وهي تهتز أثناء مرورها على المنحدرات المليئة بمواقع الحفر في قريته شرقي إندونيسيا. خرج من السيارة في ظل هبوب رياح عاتية، لفت نظر عدد من سكان المنطقة الذين أطلوا من فتحات الخيام. أومأ لهم برأسه ببرود ثم أدار وجهه بعيدًا.
تمتم قائلاً إنه من غير الآمن البقاء طويلاً في المكان.
يقول لالو، الناشط المجتمعي، إن مستثمري تعدين الذهب الصينيين بدأوا في 2022 بالوصول إلى جزيرة لومبوك الواقعة على بعد ساعة بالقارب من جزيرة بالي السياحية. وفي قريته سيكوتونغ، كان السكان المحليون في السابق يستخرجون كميات صغيرة من الذهب، ويتسلقون التلال على الدراجات النارية، ويستخدمون أدوات يدوية لحفر الخامات المختلطة بالذهب وبيعها للتجار.
وقد سمحت السلطات الإندونيسية بذلك شرط بقاء النشاط على نطاق صغير، حيث منحت تصاريح للمواطنين لما يُسمى محليا “تامبانغ راكيات”، أي “التعدين الشعبي”.
لكن عندما وصل المستثمرون الصينيون، جاءوا بالحفارات والكسارات والمضخات التي أذهلت عمال المناجم المحليين، حسبما يذكر لالو. بنى الصينيون منشآت معالجة خاصة بهم على قمم التلال، وثبتوا أنظمة لرش الخامات بالسيانيد، وهو مادة كيميائية لم يستخدمها عمال المناجم المحليون من قبل. كما جلبوا مطاحن صينية عالية الحجم تدور بلفات تصل إلى 160 مرة في الدقيقة. يقول لالو إن المستثمرين الصينيين بدأوا بنقل كميات من الذهب في يوم واحد، كان استخراجها يستغرق شهورًا أو حتى سنوات بالنسبة للسكان المحليين، ويضيف: “شعرنا بالهزيمة”.
بعد عدة صدامات، تصاعدت الأعمال العدائية في أغسطس/ آب 2024 عندما أشعل القرويون النار في سكن للعمال الصينيين. وعندما وصلت السلطات الإندونيسية، وجدت واحدا من أكبر مناجم الذهب غير القانونية التي يتم اكتشافها في البلاد، على مساحة تعادل 184 ملعب كرة قدم أمريكية، ينتج ذهبًا بقيمة سوقية تقدّر بـ 5.5 مليون دولار شهريًا.
وقال ديان باتريا (58 عاما)، والذي قام بزيارة للموقع في أكتوبر/ تشرين الأول: “لم أتوقع ذلك أبدًا”.
وقال ديان، وهو موظف يعمل في لجنة مكافحة الفساد الإندونيسية، إنه شاهد شبكات صينية غير قانونية تنتشر في جميع أنحاء إندونيسيا، تقدم رشاوى على مستوى محلي ووطني، وسط توسع للاستثمارات الصينية. وفي المقاطعات الشرقية النائية من البلاد، حيث تتركز رواسب المعادن، كان الذهب هو الجائزة الأبرز.
يقول ديان من مكتبه في جاكرتا: “إنهم يسرقوننا، وبشكل علني”.
في العقود السابقة، عندما كانت شركات أمريكية مثل “نيومونت” تهيمن على تعدين الذهب في إندونيسيا، كان بالإمكان أن تعتمد السلطات جزئيًا على اللوائح الأمريكية والدولية لمكافحة الفساد، مثل اتفاقية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الرشوة، للحد من استفحال الفساد. أما الشبكات الصينية فلا تواجه إلا القليل من العوائق في الانخراط في الفساد خارج الصين، كما يقول ديان.
عززت إندونيسيا جهودها للكشف عن شبكات التعدين غير القانونية وملاحقتها قضائيا، حيث أنشأت في وقت سابق من هذه السنة فرعًا لتطبيق القانون داخل وزارة المعادن، وزادت من الإجراءات ضد شبكات تهريب السيانيد. ومع ذلك، يقول ديان إن الرشوة تؤدي إلى عدم ملاحقة المخالفين قضائيا حتى عند العثور على أدلة دامغة على تورطهم في الفساد.
وأفادت السلطات الإندونيسية بوجود عمليات تعدين ذهب غير قانونية كبيرة تديرها شبكات صينية في أربع مقاطعات على الأقل خلال العام الماضي، إلا أن أيًا منها لم يسفر عن إدانات قضائية.
في إحدى التحقيقات بمنطقة كاليمانتان، الجزء الاندونيسي من جزيرة بورنيو، اكتشفت السلطات منجمًا امتد لأكثر من ميل، ووظف ما يصل إلى 80 شخصًا. تمت إحالة مواطنين صينيين إلى المحكمة، لكن تمت تبرئتهم بشكل مفاجئ، وهو قرار قالت اللجنة القضائية الإندونيسية لاحقا إنه قد شابته انتهاكات أخلاقية وسوء سلوك من قبل القضاة.
وفي يونيو/ حزيران، خضع أحد المتهمين الصينيين الذين لا يزالون في إندونيسيا لإعادة المحاكمة وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وغرامة قدرها 1.8 مليون دولار. وقالت هاروكي أغوستينا، مديرة التخفيف من آثار تغير المناخ في وزارة البيئة الإندونيسية، إنها ترى أن العقوبة كانت غير كافية بالنظر إلى الضرر الذي سببه المنجم للبيئة، خصوصًا فيما يتعلق بالاستخدام غير المنظم للسيانيد. وأضافت في مقابلة: “أقل بكثير من اللازم”.
وتشير وثائق داخلية للحكومة الإندونيسية حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن المنجم غير القانوني في سيكوتونغ بجزيرة لومبوك امتد إلى منطقة غابات محمية، وأن العمليات كانت تُدار بواسطة ثلاث شركات – اثنتان يقودهما مواطنون صينيون وواحدة بإدارة إندونيسية – ولم تمتلك أي منها التصاريح المطلوبة. بالإضافة إلى ذلك، تقول الوثائق إن هناك عشرات المناجم غير القانونية الأخرى في لومبوك والجزر المجاورة التي تعلم الحكومة بوجودها.
وقال مسؤول رفيع في وزارة الطاقة والمعادن إن التحقيق في سيكوتونغ، الذي تم تسليمه إلى الشرطة العام الماضي، قد تعثر، مضيفًا أن الوزارة لم تطلع على الأسباب. ولم ترد الشرطة على طلبات التعليق.
وعندما زار صحفيون من “واشنطن بوست” سيكوتونغ في مايو/ أيار، كانت النقاط التي أقامتها الشرطة العام الماضي قد أُزيلت. كانت الشاحنات المحملة بخام الذهب تسير على حواف المنحدرات، وبدا أن المناجم لا تزال تعمل. يقول لالو وهو يرفع هاتفه لتصوير فيديو: “لا يوجد أي مساءلة”.
النهب الصيني
في يناير/ كانون الثاني، تظاهر المئات في جمهورية الكونغو الديمقراطية احتجاجًا على ما وصفوه بـ “نهب” الذهب في البلاد على يد مشغلين صينيين.
وعند سؤاله عن هذه المظاهرات، قال قوه جيا كون، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: “تطلب الحكومة الصينية دائمًا من المواطنين والشركات الصينية في الخارج الإلتزام الصارم بالقوانين واللوائح المحلية”.
لكن المسؤولين في الدول الغنية بالذهب يقولون إن بكين لم تبذل سوى القليل من الجهود لتطبيق هذا المبدأ عمليًا.
ووفقًا لمحققين دوليين ومسؤولين في غانا وإندونيسيا، لم تتعاون السلطات الصينية مع الجهود الرامية إلى منع المواطنين الصينيين المسؤولين عن تعدين الذهب غير القانوني من مواصلة أنشطتهم. كما قامت السلطات الصينية بحجب بيانات كان من الممكن أن تساعد في قياس وتتبع تدفقات الذهب غير القانونية، وهي غائبة بشكل ملحوظ عن المناقشات متعددة الأطراف، حسب الباحثين.
على سبيل المثال، في مايو/ أيار، خلال مؤتمر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2025 حول سلاسل توريد المعادن في باريس – الذي يُعتبر على نطاق واسع أهم منتدى سنوي حول هذا الموضوع – تحدث وفد صيني صغير عن التعدين الصناعي، لكنه لم يشارك في المناقشات المتعلقة بتدفقات الذهب غير القانونية، وفقًا لما ذكره الحاضرون.
وفي هذه المناقشات، قال غيوم دو برييه، باحث في خدمة معلومات السلام الدولي، وهي مؤسسة بلجيكية تركز على التعدين في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية: “الصين هي القضية الكبيرة الغائبة عن النقاش. نتحدث عنهم، لكنهم غير موجودين”.
مقاومة بلا جدوى
يقول السكان المحليون إن التعدين التقليدي في قرية لانتونغ بدأ قبل عقود، لكن التعدين واسع النطاق بدأ قبل ثلاث سنوات فقط، عندما شرع رجل صيني في منتصف العمر يعرفه القرويون باسم “السيد شي” في إبرام صفقات مع أصحاب الأراضي الصغار للتنقيب في أراضيهم. وأفاد القرويون أنه وعد بتعويضات لم تُمنح حتى الآن، وأن محاولات الاحتجاج لم تُحدث تأثيرًا يُذكر.
ويقول السكان المحليون إن مياه الصرف من الحفر الواسعة على قمم الجبال تدمر المحاصيل، وأصبحت الماشية أسفل برك السيانيد تموت كل أسبوع تقريبا.
وقال سابودين، أحد سكان القرية: “كل ما ترونه هنا، ذلك التل، والتل الآخر… كل الأرض المكشوفة التي ترونها هي صينية”.
يقف سابودين (49 عاما) على شفا جرف حاد مرتديًا قميصًا بأكمام طويلة على جسده النحيل، قائلا إن إنه يعمل في التعدين مستخدمًا المطرقة والمعول. أحيانًا يحفر في مناطق سبق أن حفرها المشغلون الصينيون ثم تخلوا عنها، لكنه لم يقم أبدًا بالتعدين لصالح الصينيين.
وأوضح قائلا: “إنهم يعملون بشكل غير قانوني، ولا أريد أن أتورط في كل ذلك”.
ويضيف أنه أحيانًا، وهو ينظر إلى الغابات التي كان يمر بها في صغره، يشعر بالدهشة من حجم عمليات التنقيب الصينية. أشار إلى مبنى ذو أسطح من الزنك على الجرف المقابل، وهو سكن للعمال الذين يحرسون المنجم غير القانوني، قائلا إنه حتى بعد حلول الليل، لا تنطفئ الأضواء في تلك المباني، وأن الكسارات تواصل الدوران، والحفارات تواصل التقدم ببطء.
وقال سابودين إن السكان المحليين لا يستطيعون إدارة عملية مثل هذه. وأضاف: “الصينيون فقط هم من يستطيعون فعل ذلك”.
المصدر: واشنطن بوست