“لا زالت رائحة الموت تزكم أنفي، فمشاهد الجثث المحروقة المتناثرة في كل مكان، وصراخ تلك الطفلة فوق جسد أمها الملقاة على الأرض بعد استهدافها برصاصة قناص في صدرها، وذاك الشيخ الذي يلفظ أنفاسه الأخير محتضرًا أمام عيني، كل تلك المشاهد لم تفارق ذاكرتي، مشاهد لا تقل رهبة ورعبًا عن يوم القيامة، .. تمنيت لو لم أكن عشت ذاك اليوم، ولم أظل حيًا حتى الآن، أسيرًا لتلك الكوابيس التي تؤرق منامي ليل نهار”.. بتلك الكلمات التي بللتها الدموع يستذكر أحمد في حديثه لـ “نون بوست” ذكريات فض اعتصام رابعة، ذلك اليوم الذي وصفته المنظمات الحقوقية بـ “المجزرة الأبشع في التاريخ الحديث”.
في هذا اليوم قبل 12 عامًا وبينما كان عشرات الالاف من أنصار الرئيس الراحل محمد مرسي معتصمين في ميدان رابعة العدوية، شرقي القاهرة، وعدد من ميادين مصر، يطالبون بعودة رئيسهم المنتخب الذي اختطفه وزير دفاعه وقتها عبد الفتاح السيسي في مكان غير معلوم، بعدما انقلب عليه وأزاحه عن السلطة بقرار فردي غير دستوري.
مع الساعات الأولى من صبيحة الثلاثاء 14 أغسطس/آب 2013، تحول الميدان إلى ساحة حرب مدوية، طائرات تقصف من الجو، وقناصة يصطادون المعتصمين من فوق البنايات المجاورة، وتجريف ممنهج عبر الجرافات، وفي غضون ساعات قليلة سٌوّي الميدان بالأرض، بعدما تحوّل إلى مسرح محروق، قبر كبير، لا صوت فيه سوى أنين الجرحى وأهات الثكالى وعشرات الأجساد المسجاة التي يتم تجريفها على مرأى ومسمع من الجميع، وفي الخلفية أصوات طلقات رصاص تطلقها قوات الأمن على من تبقى، إما ترهيبًا أو استهدافًا.
وفي ذكراها الثانية عشرة، بات الحديث عن المذبحة صامتًا وخجولا، إلا من بعض من عايشوها ممن هم في الخارج الآن، ففي مواجهة القبضة الأمنية المشددة، وإغلاق كافة منافذ التعبير، وإجهاض الأفق السياسي بأكمله، لم يمتلك الكثيرون رفاهية الحديث بأريحية عن واحدة من أكثر الجرائم الإنسانية في التاريخ المصري الحديث، ومع ذلك ورغم مساعي الطمس والتجهيل، وحروب السرديات والروايات، تظل رابعة الجريمة التي لا تٌنسى، ولا يحق لها ذلك، فهي السٌبّة التي لن تٌمحى من الذاكرة إلا بتقديم المتورطين فيها للعدالة ولو بعد حين.
في هذه الإطلالة نطوف بالذاكرة على جناح السرعة في جولة عاجلة نستدعي فيها بعضًا من مشاهد تلك المجزرة، ليس من باب التذكير فهي كما قيل لم ولن تٌنسى، لكن من باب التأكيد على أن ماحدث لا يجب أن يمر مرور الكرام دون محاسبة للضالعين وتقديمهم لمنصات العدالة الحقيقية غير المؤدلجة، حتى وإن عانت تلك العدالة على مدار السنوات الماضية من عرج وحول وفقدان بوصلة.
ما قبل المذبحة.. كان كل شيء جاهزًا للنحر
لا يمكن تأريخ مجزرة رابعة بداية من يوم الفض، الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، فما سبقها من تجييش وتمهيد وتحريض كان جزءً لا يقل خطورة وإجرامًا عما حدث لاحقا صبيحة الأربعاء الأسود، حيث سبق المجزرة تهيئة المشهد الإعلامي والمجتمعي المصري لقبول تلك الجريمة، بعد نجاح مخطط الشيطنة لكل المعتصمين في الميدان، وتصويرهم على أنهم إرهابيين يستهدفون أمن واستقرار الوطن، وهو ما قاد في النهاية لتقبل شريحة ليست بالقليلة من المصريين لتلك الأعداد الكبيرة من الضحايا.
بعد انطلاق الدعوات التحريضية لنزول المصريين للشوارع والميادين للمطالبة برحيل مرسي، وفتح ميدان التحرير لهم للاعتصام تحت حماية أجهزة الأمن، خرجت دعوات مضادة من أنصار الرئيس المنتخب في 21 يونيو/حزيران 2013 للاعتصام في ميدان رابعة وبعض ميادين مصر، ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية وميدان النهضة بالجيزة وميدان رمسيس بالقاهرة وميدان الشون بالمحلة الكبرى، وأمام الحرس الجمهوري.
كانت الشعارات المرفوعة حينها تتمركز حول المطالبة بعودة الرئيس المختطف في ذلك الوقت في مكان غير معلوم، وتحول الميدان إلى ما يشبه الكرنفال، أناشيد وفقرات فنية وثقافية وخطب وندوات وترفيه، مع التأكيد بين الحين والأخر على سلمية الاعتصام، وعلى الجانب الأخر كان المعتصمون في التحرير يطالبون الجيش بالاستحواذ على السلطة والانقلاب على التجربة برمتها.
أثار الاعتصام الذي شهدته العديد من الميادين واستمر لأكثر من 45 يومًا حفيظة السلطة العسكرية وقتها، فكان لا بد من تفكيك بنيته أولا قبل الهجوم، وبالفعل بدأت المجازر تتابع، البداية كانت فجر 8 يوليو/تموز 2013، حين نفذت قوات الجيش أول مجازرها بحق المعتصمين السلميين، إذ هاجمتهم بلا هوادة في أثناء صلاتهم بالقرب من مقر الحرس الجمهوري، لتوقع منهم عشرات القتلى والجرحى.
يوم الفض.. الجريمة الأبشع في تاريخ مصر الحديث
كانت تلك المجزرة هي البروفة الأولى على مذبحة الفض الكبرى في رابعة، واعتبرها البعض وقتها تمهيدًا لاستساغة الدماء المصرية وتخدير الرأي العام المحلي واستقطابه لقبول ماهو قادم، وقبيل شروق شمس الرابع عشر من أغسطس/آب، كانت آليات الجيش العسكرية ومدرعات الشرطة تنفذ خطة اقتحام الميدان من جميع مداخله، مدعومة بغطاء جوي من الطائرات الهيلوكوبتر وعشرات القناصة فوق أسطح البنايات المجاورة.
وفرض على المعتصمين كماشة غير متوقعة، وأطبق عليهم الخناق، ليتم نحرهم على مرأى ومسمع من الجميع، فأحرقت الخيام بمن فيها، واقتحم المسجد ودٌمرت المشافي الميدانية، وامتلأ المكان بالجثث، في مذبحة وصفتها منظمات حقوقية بأنها “إحدى أسوأ عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين في تاريخ مصر الحديث”
حتى الممر الآمن الذي زعمت قوات الأمن أنها دشنته لخروج المعتصمين بشكل سلمي آمن، تحول إلى فخ لاصطيادهم، فسقط فيه العشرات ما بين قتيل وجريح ومعتقل ومٌنكل به، في مشاهد مٌخزية وجريمة ضد الإنسانية وثقتها كاميرات الصحفيين والمتابعين والحقوقيين.
تباينت التقارير الصادرة عن المنظمات المحلية والدولية بشأن أعداد المعتقلين في ذلك اليوم، فالتحالف الداعم للرئيس المعزول محمد مرسي قدر العدد وقتها بـ 2600 شخص، وهو نفس العدد الذي أصدره المستشفى الميداني في رابعة، فيما بلغ في الرواية الرسمية للسلطة المصرية 288 شخص قبل أن ترفعه لاحقًا إلى 377، أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” فقدرته بنحو 817 قتيلا على الأقل، معلقة على ما حدث بأن “الاستخدام المتعمد، عديم التمييز للقوة المميتة، يشير إلى واحدة من كبرى وقائع قتل المتظاهرين في العالم في يوم واحد، في التاريخ الحديث”.
جريمة ضد الإنسانية.. شهادات حية
في تحقيق مطول لها، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” شهادات خمسة مصريين شهدوا يوم المجزرة بكل تفاصيله، مؤكدين جميعًا أن ما حدث كان جريمة ضد الإنسانية متعمدة ومُعدة سلفًا بشكل قصدي وبتصور كامل عن التداعيات، من بينهم الناشط الحقوقي أحمد سميح الذي تلقى دعوة لحضور اجتماع مغلق في وزارة الداخلية قبيل الفض بساعات قليلة، حيث قال: “كان لدي إحساس واضح جدًا بأن (الفض) سيكون عنيفاً”، مضيفاً أن “قوات الأمن قدّرت وقوع حوالي 3000 قتيل بين الجانبين، وهي أرقام شاركها مع الصحافيين في ذلك الوقت”.
وفي وصفه لتفاصيل هذا اليوم، قال الحقوقي المصري الذي وجهت إليه لاحقا تهمة تشغيل محطته الإذاعية على الإنترنت بشكل غير قانوني. وتم تفتيش مكتبه، وفُرضت عليه غرامة ونام في مركز شرطة محلي، ما اضطره لمغادرة البلاد: “كان الدم في كل مكان، يراق على الأرض ويلطخ السيارات” وبحلول صباح اليوم التالي، كان قد أحصى أكثر من 152 جثة في المشرحة.
أسماء البلتاجي، أحد ضحايا مجزرة رابعة: “الشهادة لا تكفّ يد الظلم عن أرواح الناس وأموالهم لكنها تسلب سيطرة الظلم على أرواح الناس”. pic.twitter.com/Yq2ISbNIJa
— نون بوست (@NoonPost) August 14, 2025
وتتذكر سارة الغمري، أحد قاطني مدينة نصر في ميط رابعة ما حدث في هذا اليوم، قائلة “يومها استيقظت مفزوعة على مكالمة هاتفية تخبرني: الاعتصام بيتفض.. ركضت باتجاه شرفة منزلي، وشاهدت عمود دخان أسود كثيفا يصل السماء بالأرض، فحملت هاتفي وحقيبة صغيرة، وهرولت بالنزول”، وتابعت أنها يومها لم تتمكن من الوصول لقلب الميدان، ولكنها ظلت في محيطه تساعد الناجين من المصابين، وتقدم من المساعدات ما تستطيع تقديمه.
تؤكد الغمري، التي كانت على اتصال مع المعتصمين بالداخل، وتعرف أخبار الميدان من الفارّين منه بصعوبة، أن “ممرات الخروج الآمن” التي ادّعتها وزارة الداخلية المصرية كانت مجرد “أكذوبة”، تضمن تشكيل سلسلة بشرية من المعتصمين تنتهي في عربات الشرطة والأمن المركزي، خاصة في الساعات الأخيرة من الفض.
وأضافت “في بداية الفض لم يكن الخروج من داخل الميدان مستحيلًا، بل شاهدت عددا من السيدات والأطفال، وحتى الشباب، يخرجون ليسعفوا مرضى، بعدما تسللوا من بين البنايات وساروا مسافات طويلة بعيدًا عن حصار قوات الأمن للمنطقة القريبة من منصة الاعتصام بالقرب من المسجد”، وتابعت “لكن في الساعات الأخيرة من الفض، كان كل مَن يخرج يُلقى القبض عليه، سواء مصابا أو سليما”.
أما الطبيب محمد رفعت، أحد أطباء المستشفى الميداني برابعة العدوية، فيقول إن “قوات الأمن عندما اقتحمت مستشفى رابعة العدوية أجبرت المعتصمين على الخروج رافعين أيديهم، وأبقت المصابين في الداخل في حالة مزرية لعدم تمكنهم من الحركة والخروج. وكان المستشفى يحتوي على مئات الجثث”.
ما بعد الفض.. قتل معنوي
لم يكتف النظام المصري وقتها بقتل ما قتله في الميدان، بل أوغل في التنكيل بمن تبقى من المشاركين في الاعتصام، كنوع من العقاب وكي الوعي لما حدث في هذا اليوم، فاعتقل الالاف منهم، وأجبر أخرين على الهروب ومغادرة الوطن ليعيشوا بقية حياتهم في المنفى، مٌطاردين لا لجريمة إلا لدفاعهم عن التجربة الديمقراطية الوحيدة التي شهدتها بلادهم.
ورغم تعهد السلطات وقتها بعدم ملاحقة السلميين من المعتصمين ممن قبل الخروج من الممر الآمن، إلا أن ما تم كان مغايرًا تمامًا لتلك التعهدات الكاذبة، إذ تعج السجون وأماكن الاحتجاز بآلاف المعتقلين بسبب مشاركتهم في تلك الاعتصامات، بعضهم محبوس إلى أجل غير مسمى دون أن توجه إليه أي تهم أو يتم إحالته إلى المحكمة.
مئات من المحبوسين حٌكم عليها بعقوبات وصلت لـ 25 عامًا، في تلك القضية المعروفة إعلاميًا بـ “فض رابعة” فيما حُكم على عشرات أخرين بالإعدام، في محاكمة افتقدت لأدنى معايير النزاهة، حيث لا محامين ولا أدلة اتهام ثابتة، فضلا عما يعانوه داخل السجون من انتهاكات تم توثيقها في تقارير حقوقية عدة.
سنوات بلا عقاب.. من هم أبرز جزاري مذبحة رابعة؟ pic.twitter.com/1NgGL5D4tu
— نون بوست (@NoonPost) August 14, 2025
وفي يوليو/تموز 2018 قضت محكمة جنايات القاهرة، بإعدام 75 شخصًا (من بينهم 31 من المتهمين غيابيًا)، وهو أكبر عدد من أحكام الإعدام التي تصدر في قضية واحدة، والسجن لفترات طويلة تتراوح بين 5 و15 عامًا لحوالي 500 متهمًا آخرين، وكان من بين المحكوم عليهم ابن الرئيس الراحل أسامة مرسي، في محاكمات وصفتها منظمات حقوقية محلية ودولية بـ”غير العادلة”.
من أطلق سراحهم بعض سنوات قضوها في غياهب السجون على خلفية تلك القضبة، لم ينعموا بحياتهم الطبيعية كغيرهم من المواطنين، حيث يواجهون قيودًا صارمة على حريتهم، إجراءات رقابية قمعية، فيضطرون إلى قضاء 12 ساعة كل ليلة داخل أقسام الشرطة في أماكن تفتقد لأدنى معايير الإنسانية، هذا بخلاف ما تعرضوا له من مشاكل وعراقيل في عملهم وحياتهم العامة.
ومن نجا من مقصلة الاعتقال أو الموت بات مٌطاردًا ليل نهار، منفيًا داخل وطنه، حاملا أكفانه داخل حقيبته، فلا يدري أي ساعة ستكون ساعته، بعضهم يضطر للهروب ولو كان عبر مغامرة قد تكلفه حياته، والأخرين يقضون سنوات عمرهم في المخابئ، بعضهم أصيب بأمراض نفسية وعصبية أفقدته عقله وسلبت منه رجاحته.
حرب السردية وطمس الحقيقة
فاقت مجزرة رابعة في وحشيتها كافة التوقعات، فقوبلت بانتقادات حقوقية دولية لاذعة، وضعت النظام المصري في مأزق أخلاقي، خارجيًا وداخليًا، ما دفعه لشن حرب شعواء لكن من نوع أخر، حرب على السردية والرواية، محاولا طمس الحقيقة بتمرير سرديات مختلفة، تخدم أجندته وتدفع عنه تهم ارتكاب جريمة ضد الإنسانية.
وجيّش النظام لتلك الحرب أدواته المختلفة، الإعلامية والفنية والثقافية والسياسية، فأنتج العديد من الأعمال الدرامية التي ألبست الأمن ثياب الضحية لا الجاني، وسوغت ارتكاب تلك المجزرة كرد فعل حتمي للدفاع عن هيبة وسيادة الدولة، وكان للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية “سينرجي”، المملوكة بشكل غير مباشر للمخابرات المصرية والمحتكرة لقدر كبير من خارطة الإنتاج اليد الطولى في تلك المهمة.
بالتوازي مع ذلك تبنى الإعلام الداعم للسلطة خطابات ممنهجة تحسن من صورة المؤسسة الأمنية بذراعيها، الجيش والشرطة، وتٌظهرها في صورة حارس العرين الأمين، الذي يتمتع بقدر كبير من ضبط النفس، والذي التزم بكل معايير الإنسانية مع المعتصمين، وأن كل ما بدر منه من قتل وتنكيل كان ردًا على ما تعرضت له عناصر الأمن من استهداف على أيدي المسلحين داخل الاعتصام.
واتخذ النظام من تلك المذبحة مسوغًا لشيطنة المعارضة بالكلية، وتحميلها مسؤولية الفشل على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مصورًا أن ما تواجهه الدولة من أزمات إنما هو نتاج مؤامرة من قبل قوى الشر المنضوية تحت لواء جماعة الإخوان والمتعاطفين معها.
العدالة المٌنتحرة على أعتاب الاستقطاب
رغم تعدد المناشدات، داخليًا وخارجيًا، من أجل فتح تحقيقات شفافة وموسعة في تلك المذبحة التي راح ضحيتها ما يقرب من 400 إنسان بحسب الإحصاء الرسمي، إلا أنه حتى كتابة تلك السطور وعلى مدار 12 عامًا لم يصدر تحقيق واحد مستقل، بل على العكس احتكر الضحية كل الأحكام والعقوبات، فيما ينعم المجرم بحياته، منتشيًا بالمكافآت التي حصل عليها نتيجة مشاركته في تلك الجريمة.
في 2014 شكل الرئيس المؤقت عدلي منصور “اللجنة القومية لتقصي الحقائق” والتي ذكرت أن عدد القتلى كان 632 شخصًا (منهم 8 من قوات الأمن)، لكنها ألقت بالمسؤولية الأساسية على المعتصمين بدعوى أنهم كانوا مسلحين أو يستخدمون العنف، معتبرة أن قوات الأمن التزمت “أقصى درجات ضبط النفس” وأن الخسائر البشرية كانت “أقل من المتوقع” بالنظر لحجم الاعتصام، لينتهي الأمر حيث لا رجعة، فالجلاد برئ فيما وُضع الضحية على مقصلة الاستهداف.
وفي المقابل خلصت منظمة “هيومن رايتس ووتش” وفق تقريرها المعنون بـ “حسب الخطة” إلى أن ما جرى كان أكبر عملية قتل جماعي لمتظاهرين في يوم واحد في التاريخ الحديث لمصر، وأنه يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، مقدرة أن أكثر من 800 شخص قُتلوا على الأقل في رابعة وحدها، مع احتمال أن يكون العدد الحقيقي أكبر بكثير، ومؤكدة على أن المذبحة كانت مخططًا لها مسبقًا على أعلى المستويات في الحكومة والجيش، وأنه لم يتم منح المتظاهرين ممرًا آمنًا حقيقيًا للخروج.
واتفق معها في تلك النتيجة “منظمة العفو الدولية ” التي أشارت إلى استخدام “القوة المميتة المفرطة” بشكل ممنهج، كذلك الأمم المتحدة، عبر مفوضية حقوق الإنسان، والتي طالبت بفتح تحقيق دولي مستقل، مؤكدة أن المؤشرات تدل على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، غير أن كل ذلك لم يٌحرك ساكنًا لدى السلطة الحاكمة في مصر والتي أغلقت هذا الملف بصورة نهائية، على الأقل حتى اليوم.
التوثيق كـ “معركة وعي”
في مواجهة حروب السردية التي تخوضها السلطة لطمس ملامح الجريمة وتبديل الأماكن بين المجرم والضحية، كان للناجين من تلك المذبحة والمدافعين عن الحقوق رأي أخر، حيث عمدوا إلى توثيق ما جرى شكلا ومضمونًا، وإعداد ملفات كاملة عن تفاصيل هذا اليوم وما سبقه وما تلاه، حفاظا على الذاكرة الجمعية من جانب، واستعدادًا لتوظيفه مستقبلا حين تٌتح الظروف في ملاحقة الضالعين قضائيًا.
وتنوعت أدوات التوثيق ما بين توثيق حقوقي دولي عبر المنظمات المعنية مثل “هيومن رايتس ووتش” و “منظمة العفو الدولية” من خلال إصدار تقارير موسعة تستند إلى مقابلات مع شهود عيان، وتحليل صور وفيديوهات، ووثائق طبية، كذلك تسجيل الشهادات الحية للناجين وأسر الضحايا حيث سجلوا رواياتهم بالصوت والصورة عبر منصات إعلامية بديلة أو عبر حملات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل “رابعة لن ننساك” و”شاهد على المجزرة”
هذا بخلاف التوثيق الصحفي، حيث جمع صحفيون مستقلون داخل مصر وخارجها موادًا أرشيفية من كاميرات المشاركين، والهواتف المحمولة، والقنوات الفضائية التي كانت تبث مباشرًا، ومؤخرًا تم إنتاج أفلام وثائقية لهذا الغرض مثل وثائقي الجزيرة عن رابعة والذي يعرض تسلسلاً زمنياً للفض وتستخدم صورًا غير منشورة سابقًا.
كما استخدمت الرموز البصرية كأدوات توثيق معتبرة، فأصبحت إشارة رابعة (أربع أصابع مرفوعة مع انحناءة بسيطة للإبهام) رمزًا عالميًا مرتبطًا بالمجزرة، في الأعلام، والملابس، والجداريات، وحتى في الأعمال الفنية الرقمية، كذلك التوثيق عبر الأعمال الفنية من رسوم وجداريات وإقامة المعارض خاصة في الخارج، إضافة إلى عشرات الأفلام الروائية القصيرة والقصائد والأشعار والأغاني التي حولت مجزرة الفض إلى أيقونة عالمية تعبر عن الإنسانية المٌهدرة على أعتاب الأنظمة الديكتاتورية.
ورغم مواجهة تلك الجهود للعديد من المعوقات والتحديات مثل التضييق الأمني على الباحثين والصحفيين، واعتقال بعض من حاولوا التوثيق ميدانيًا، وحذف أو حجب بعض المحتوى الرقمي على فيسبوك ويوتيوب بدعوى “انتهاك السياسات”، بجانب صعوبة الوصول إلى مواقع الحدث بعد الفض مباشرة، وفقدان الكثير من الأدلة المادية، إلا أن ما تحقق حتى اليوم من توثيق للمذبحة مؤهل تمامًا كوسيلة لحفظ الذاكرة الجمعية للحدث، وحمايتها من مخططات الطمس والتضليل
سُبّة على جبين الإنسانية لن تسقط بالتقادم
لا يمكن التعامل مع ما حدث في فض رابعة كجريمة تقليدية عادية تٌمحى بالأيام والشهور والسنين، إذ كانت حالة استثنائية وصدمة مدوية أصابت العقل الجمعي المصري بهزات نفسية غير مسبوقة، أعادت تشكيل جدران وعيه وأضلاع إدراكه بصورة أفقدته الكثير من التوازن، وعبثت بمرتكزاته الأساسية.
فمثل تلك الصدمات لا يٌرجى شفائها سريعًا، وهكذا جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، مهما تفنن وأبدع الجلاد في كي الوعي عبر سرديات مضللة وروايات تتخذ من نسف الحقيقة بوصلتها الرئيسية، فشهود المذبحة لا زالوا على قيد الحياة، يورثونها أبنائهم جيلا بعد جيل، والجريمة موثقة بالصوت والصورة، ورمزية المكان والزمان حاضرة وبقوة.
وتناسى النظام المصري أنه حين شرع في تدشين شرعيته المشكوك فيها بالدم والحرق، وعلى جماجم وأشلاء الالاف، كرسالة تهديد وترهيب مبكرة لحسم معركة البقاء مبكرًا، لم يضع في حسبانه تلك السُبّة التي ستظل في جبينه ما بقي على قيد الحياة، وسيظل المتورطون فيها على رادارت الملاحقة والحساب حتى إشعار أخر، مهما طال الزمن أو قصر.