ترجمة وتحرير: نون بوست
حتى النظريات التي تفسر تاريخ التدخلات الأمريكية في مختلف مناطق العالم بأن هدفها كان الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة، تقوض الرأي القائل بأن واشنطن يمكن أن تتحول فجأة إلى قوة خيّرة في العالم، بغض النظر عن هوية من يتولى السلطة.
من قصف طوكيو إلى القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي؛ ومن دمار درسدن إلى استخدام النابالم في جنوب شرق آسيا؛ ومن تفكيك الدولة العراقية عبر “الصدمة والرعب” إلى عدد لا يحصى من الانقلابات والهجمات والحروب، استخدمت الولايات المتحدة كل أنواع الأسلحة والأساليب لتحقيق أهدافها.
بينما دأب المحللون السياسيون والمؤرخون على دراسة الأحداث الميدانية، لم يستكشف سوى عدد قليل منهم السياسات الهيكلية الأعمق التي تُرسي آلياتٍ وأنماطًا مُعينة للشرعية. وتُعدّ عمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي جندت شخصيات عسكرية واستخباراتية وعلمية نازية سابقة للعمل في الولايات المتحدة مثالًا بارزًا.
تُعرض هذه العمليات، إذا ذُكرت، على أنها مجرد استثناءات في عالم “التجسس”، وليست سوابق هيكلية تدعم ممارسات وسياسات العديد من المؤسسات الأمريكية الاستخباراتية والعسكرية والأكاديمية والشركات.
وبالمثل، فإن تبني الولايات المتحدة للصهيونية، والتغطية الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي توفرها لإفلات “إسرائيل” من العقاب، يمكّن تل أبيب من أن تكون رأس حربة في مشروع الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم.
وكان الرئيس السابق جو بايدن، الذي وصف نفسه بالصهيوني، قد لعب دورًا محوريًا في ترسيخ هذا التوجه في السياسة الأمريكية، عندما أعلن عام 1986: “لقد حان الوقت لنتوقف عن… الاعتذار عن دعمنا لإسرائيل”.
وأضاف أن الدعم المالي الأمريكي لإسرائيل هو “أفضل استثمار بقيمة 3 مليارات دولار نقوم به. ولو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة أن تخلق إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة”.
استمر مبلغ الـ3 مليارات دولار في الارتفاع على مر السنوات. وفي ظل إدارة ترامب التي ألغت أي مظاهر للتمويه، أصبح واضحًا أكثر من أي وقت مضى أن إسرائيل تشكل قاعدة أمريكية في المنطقة.
طبقات التعتيم
بالنظر إلى ما سبق، تبدو فكرة أن يستطيع أي مرشح سياسي اختراق جميع طبقات السلطة والتمويل والتعتيم التاريخي للوصول إلى مناصب عليا في الولايات المتحدة – مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بمواقف مستقلة – أمرًا سخيفًا وغير واقعي.
يبقى نطاق الآراء المسموح بها محدودًا للغاية، ويتسع أساسًا في مجالات الحروب الثقافية، ثم يضيق مجددًا عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية. لكننا نغفل أن السياسة الخارجية دائمًا ما تكون انعكاسًا للسياسة الداخلية.
لذلك، بغض النظر عن كيفية عرض القضايا أو مدى صلابة ولاءات الأحزاب، يجد معظم المواطنين الأمريكيين أنفسهم بعيدين تمامًا عن ممارسة أي شكل من أشكال السلطة السياسية الفعلية، باستثناء المستوى المحلي، وحتى هناك قد تكون الخيارات محدودة للغاية.
مع تعرض الجمهور لعقود من الدعاية الهوليوودية وغياب أي تجربة مباشرة للاحتلال العسكري الأجنبي أو أي نوع من الحروب على الأراضي الأمريكية، يبقى معظم الأمريكيين غير مدركين لهذه المفاهيم. وتحت ضغوط الدولة والشركات التي تملي شروط التدخلات العسكرية، نادرًا ما يفهم الجمهور حقيقة ما يحدث.
وفي حين أن العديد من الناس ــ وخاصة أولئك الذين يستفيدون بدرجة أقل من الوضع الراهن ــ يفهمون الآليات الحقيقية التي تعمل بها السلطة بوضوح شديد، فإنهم لا يستطيعون فعل الكثير لتغيير الوضع.
لكن في الأوقات الحرجة، مثل حرب فيتنام أو الإبادة الجماعية الحالية في غزّة، تبدأ شرائح أوسع من الجماهير التي تشعر بالصدمة من الدعم الذي تقدمه لتلك الحروب من خلال أموال الضرائب، في تكوين صورة أكثر وضوحًا عما يجري، وعن الأطراف المستفيدة من كل ذلك.
هذا هو السياق الذي تعمل فيه السياسات الغربية على تحويل القضايا الأساسية المتعلقة بالاقتصاد والقانون والأخلاق والعدالة إلى “حروب ثقافية” بشعة، مما يفسح المجال للقمع الشديد، والحد من الحقوق الدستورية والمدنية.
ولا يمكن التقليل من دور وسائل الإعلام الكبرى والأوساط الأكاديمية في هذا السياق. ففي عالم عادل، كان يمكن محاسبة العديد من المديرين التنفيذيين للشركات والمحررين ورؤساء الجامعات على التواطؤ في الإبادة الجماعية.
اعترافات معقدة بالذنب
اليوم، مع اعتراف عشرات الدول والمؤسسات الكبرى بالذنب تحت وطأة صور الفلسطينيين الجرحى والمجوعين، أصبح الغضب الذي يشعر به المزيد من الناس حول العالم ملموسًا بوضوح.
يجدر بنا أن نتذكر ما حدث منذ بداية الحرب من صمت مطبق وتجاهل لاغتيال الصحفيين، واختطاف وتعذيب وقتل الأطباء والعاملين في قطاع الصحة، ومحو عائلات وأحياء بأكملها، والتدمير الشامل لجامعات ومؤسسات غزة الثقافية، وغيرها من الفظائع التي يحميها الفيتو الأمريكي والدعاية والتمويل العسكري.
ويجب أن نتذكر، أولًا وقبل كل شيء، أن كل هذا حدث دون أدنى قدر من المعارضة، بسبب تواطؤ وجبن شخصيات نافذة، كان بمقدورها، على الأقل نظريًا، اتخاذ موقف حقيقي وفعّال.
هل كان من الممكن كبح جماح السياسيين وتعديل السياسات، ولو جزئيًا، لو قام الإعلام بواجبه، وأصدر رؤساء الجامعات الإدانات، وتظاهر المهنيون في قطاع الصحة دفاعًا عن زملائهم في غزة؟
الحقيقة أنه في عالم يفتقر إلى التمثيل السياسي الحقيقي، قام السياسيون بدورهم على أكمل وجه خدمة لسادتهم في الشركات والمؤسسات الحاكمة.
في ظل هذه الظروف، أصبح العمل المباشر الخيار الأمثل لأولئك المستعدين لتعريض سلامتهم وحرّيتهم وسبل عيشهم للخطر من أجل وقف الإبادة الجماعية. نرى ذلك من خلال التحركات العفوية، والحركات المخطَّط لها جيدًا، بدءا من منع مواطنين يونانيين للسياح الإسرائيليين من النزول في إحدى الجزر اليونانية، إلى إغلاق النشطاء السفارات المصرية في أكثر من دولة، إلى حركة “فلسطين أكشن” في المملكة المتحدة وتصنيفها مؤخرًا كـ”جماعة إرهابية”.
في الولايات المتحدة، اقتحم نشطاء مؤخرًا مكاتب صحيفة نيويورك تايمز، التي لطالما واجهت انتقادات بسبب المحتوى الداعم لإسرائيل، وكتبوا على نوافذها عبارة: “نيويورك تايمز تكذب، وغزة تموت”.
ومع قرب بدء العام الدراسي الجديد، يُتوقع أن نشهد مزيدًا من إجراءات الأمن والمراقبة وممارسات عقابية مبتكرة. ولا يسعنا إلا أن نأمل أن تستمر حركات الاحتجاج في مختلف القطاعات في اكتساب الزخم، مستلهمة من شجاعة المقاول الأمني السابق أنتوني أغيلار، الذي كشف عن الفظائع التي ترتكبها مؤسسة غزة الإنسانية.
في الوقت نفسه، يجب أن نعمل على محاسبة المزيد من مجرمي الحرب الإسرائيليين، وأن تقابل خطط إعادة رسم جغرافيا المنطقة بمقاومة شرسة، وأن يسقط الإفلات من العقاب ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي في مزبلة التاريخ. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يلعب المواطنون في “بطن الوحش” – الولايات المتحدة – دورًا أكثر أهمية وجرأة.
المصدر: ميدل إيست آي