في فبراير/شباط 2021، كانت القاهرة تتابع صورًا غير مألوفة، وزير البترول المصري يجلس في القدس إلى جوار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويتبادلان الابتسامات أمام عدسات الكاميرات. قد يبدو المشهد بروتوكوليًا عابرًا، لكن خلف هذه اللقطة كانت تتشكل معادلة جديدة لأمن الطاقة المصري، معادلةٌ ستفتح الباب أمام تدفقٍ واسع للغاز الإسرائيلي إلى السوق المصرية، والأهم أنها ستجعل مصر دولة عبور للغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، شهد قطاع الغاز في مصر تحولاتٍ حادة بين فترات ازدهار وتراجع. وقبل سنواتٍ قليلة فقط، كانت مصر ترفع شعار الاكتفاء الذاتي، وتحتفل باكتشافات الغاز في المتوسط، وعلى رأسها حقل ظُهر. لكن سلسلةً من القرارات، واتفاقاتٍ طويلة الأمد، وسياساتٍ غابت عنها الشفافية، أعادت رسم خريطة الغاز في مصر، لتتحول البلاد في عهد السيسي إلى سوقٍ شبه رهينةٍ للغاز الإسرائيلي.
صعود الغاز في مصر وبداية الأزمة
منذ مطلع التسعينيات، شرعت مصر في تنفيذ مشروعاتٍ كبرى لزيادة إنتاجها من الغاز، استجابةً لتنامي الطلب المحلي على الكهرباء، وفي إطار سياسةٍ حكومية هدفت إلى تصدير الفائض لزيادة الإيرادات. ولعبت شركات عالمية مثل “شل” و”بي بي” و”إيني” دورًا محوريًا في عمليات الاستكشاف والتنقيب في الدلتا والصحراء الغربية.
حتى بداية التسعينيات، كان إنتاج مصر من الغاز منخفضًا، بأقل من مليار قدمٍ مكعب يوميًا، لكنه شهد زيادةً كبيرة خلال أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، مع تزايد الاستكشافات، مما مكّن من تنفيذ مشاريعَ محلية، كإنشاء شبكات أنابيب الغاز إلى بعض المناطق.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في مصر (1999-2010)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز |
1999 | 16.2 | 15.8 | +0.4 |
2000 | 20.2 | 19.3 | +0.9 |
2001 | 24.3 | 23.6 | +0.7 |
2002 | 26.3 | 25.5 | +0.8 |
2003 | 29.0 | 28.6 | +0.4 |
2004 | 31.8 | 30.5 | +1.3 |
2005 | 40.9 | 30.4 | +10.5 |
2006 | 52.6 | 35.1 | +17.5 |
2007 | 53.6 | 36.9 | +16.7 |
2008 | 56.8 | 39.3 | +17.5 |
2009 | 60.3 | 40.9 | +19.4 |
2010 | 59.0 | 43.4 | +15.6 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
وبحلول أوائل الألفية، بلغت مصر مرحلة الاكتفاء الذاتي من الغاز، والأهم أنها نجحت في إنشاء مصنعين لإسالة الغاز في إدكو ودمياط، من أجل تحويل الغاز إلى شكلٍ قابل للتصدير للأسواق الآسيوية والأوروبية. كما بدأت تصدير الغاز عبر خط الغاز العربي، الذي وصل إلى الأردن في عام 2003، ولاحقًا تم تمديده إلى سوريا ولبنان على مراحل بين عامَي 2008 و2009.
ومنذ عام 2005، بلغت صادرات الغاز المصري ذروتها، وأصبحت مصدرًا رئيسيًا للعملة الصعبة في مصر. ومع ذلك، اعتمدت الحكومة على بيع فائض الغاز عبر عقودٍ طويلة الأجل، وبأسعار غالبًا ما كانت منخفضة مقارنةً بالسوق العالمية، مما قلل من استفادة مصر، وأضعف قدرة قطاع الغاز على تمويل التنقيب والاستكشاف.

في هذا الإطار، بدأ مسؤولون وشركات من مصر وإ”سرائيل” مفاوضاتٍ حول صفقة غاز، والتي انتهت عام 2005 بتوقيع عقدٍ يقضي بتصدير 1.7 مليار مترٍ مكعب سنويًا من الغاز المصري إلى “إسرائيل”، عبر شركةٍ يملكها رجل الأعمال حسين سالم، وقد وصف الوزير الإسرائيلي بن إليعازر يوم التوقيع بأنه حدثٌ تاريخي.
فقد امتد العقد لعشرين عامًا، وحددت أسعاره بين 70 سنتًا و1.5 دولار لكل مليون وحدةٍ حرارية، في حين بلغت تكلفة الكمية نفسها 2.65 دولار، مما أثار حينها جدلًا واسعًا داخل مصر، واندلعت احتجاجاتٌ رافضةٌ للاتفاقية، وتأسست “الحملة الشعبية لوقف تصدير الغاز المصري” وشعارها (لا لنكسة الغاز)، وخاضت معركةً قضائية ضد الحكومة، بهدف إلغاء الاتفاق، وإلزامها بوقف التصدير.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في “إسرائيل” (2005-2010)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز (مليار م³) |
2005 | 1.6 | 1.6 | 0.0 |
2006 | 2.2 | 2.2 | 0.0 |
2007 | 2.6 | 2.6 | 0.0 |
2008 | 3.3 | 3.6 | -0.3 |
2009 | 2.5 | 4.0 | -1.5 |
2010 | 3.1 | 5.1 | -2.0 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
ومع ذلك، مضت الاتفاقية في مسارها، وبدأ ضخ الغاز عبر خط عسقلان–العريش في فبراير/شباط 2008، وكانت مصر حتى عام 2010 توفّر لـ”إسرائيل” نحو 40% من احتياجاتها من الغاز. لكن الإشكالية لم تقتصر على سعر الغاز، بل تعود بالأساس إلى أن قرارات تصدير الغاز استندت إلى توقعاتٍ مفرطةٍ في التفاؤل بقدرة الإنتاج المحلي على تلبية الطلب الداخلي والخارجي معًا، وهي توقعاتٌ لم تتحقق على أرض الواقع، ما أسفر لاحقًا عن نقصٍ حاد في إمدادات الغاز الداخلية.
أثر المتغيرات السياسية في مصر على اتفاقية الغاز
بعد ثلاث سنوات من بدء تصدير الغاز المصري إلى “إسرائيل”، أُطيح بحسني مبارك عام 2011، وأصبحت اتفاقية الغاز حديث الشارع المصري، إذ اعتبرها كثيرون إرثًا فاسدًا من النظام السابق. وزاد من حدة الاستياء أن البلاد كانت تواجه أزماتٍ خانقة في توفير الغاز للمنازل والمصانع، في الوقت الذي استمرت فيه شحنات الغاز بالتدفق إلى “إسرائيل”، ما عمّق شعور المصريين بالاستياء، وتعرّض خط الغاز للتفجير 15 مرة خلال عامٍ ونصف.
ومع تصاعد الغضب الشعبي ضد صفقة الغاز، فرَّ حسين سالم، مهندس الصفقة، إلى إسبانيا، فيما أُلقي القبض على سامح فهمي، وزير البترول المصري. وفي يونيو/حزيران 2012، حكمت المحكمة بسجن فهمي وسالم 15 عامًا، معتبرةً أن صفقة الغاز تسببت بخسائر للدولة بلغت نحو 715 مليون دولار. ومع ذلك، وبعد ثلاث سنوات من الطعن وإعادة المحاكمة، تم تبرئتهما من تهم الفساد.
وفي أبريل/نيسان 2012، ألغت القاهرة اتفاقية تصدير الغاز إلى “إسرائيل”، معلنةً أن القرار جاء لدواعٍ اقتصادية، لا سياسية. ووفقًا لهيئة الغاز الطبيعي الإسرائيلية (NGA)، فقد شهدت “إسرائيل” عام 2012 أزمةً حادة في إمدادات الغاز، ففي حين ارتفعت واردات الغاز من مصر من 1.51 مليار مترٍ مكعب عام 2009، ثم إلى 2.10 مليار مترٍ مكعب عام 2010، تراجعت إلى 0.69 مليار مترٍ مكعب عام 2011، قبل أن تهبط إلى 0.06 مليار مترٍ مكعب في 2012.
وفي حين شهدت مصر بين عامَي 2011 و2013 عجزًا متزايدًا عن تلبية احتياجات الكهرباء والمصانع في البلاد، وتراجعت أعمال الاستكشاف نتيجة انسحاب الاستثمارات، وتراكم مديونية الشركات الأجنبية، كانت مصر في الوقت نفسه مُلزَمةً بعقود تصدير غاز موقعةٍ سابقًا، ما قيّد قدرتها على توجيه الإنتاج للسوق المحلي. وفي المقابل، كانت “إسرائيل” قد اكتشفت حقول الغاز البحرية (تمار عام 2009، وليفياثان 2010)، ما قلّل اعتمادها على الغاز المصري.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في “إسرائيل” (2011-2018)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز (مليار م³) |
2011 | 4.0 | 4.7 | -0.7 |
2012 | 2.4 | 2.4 | 0.0 |
2013 | 6.1 | 6.6 | -0.5 |
2014 | 7.1 | 7.2 | -0.1 |
2015 | 7.9 | 8.0 | -0.1 |
2016 | 8.8 | 9.2 | -0.4 |
2017 | 9.3 | 9.8 | -0.5 |
2018 | 9.9 | 10.6 | -0.7 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
وخلال حكم محمد مرسي، طُرحت فكرة التعاون مع “إسرائيل” وقبرص في مجال الغاز، لكن التنفيذ كان مستحيلًا، ليس فقط بسبب رفضه الشخصي، بل لحالة الاستياء الشعبي من أي تعاونٍ مع تل أبيب، خاصةً في مجال الغاز. وحتى قبل الانقلاب عليه في صيف 2013، كانت السياسة الخارجية المصرية تجاه “إسرائيل” تعكس المزاج العام، ولم يكن من المرجح السماح بعبور شحنات الغاز الإسرائيلي عبر قناة السويس، رغم التزامات معاهدة السلام.
وبعد شهرٍ واحد من الإطاحة بمرسي، شرع النظام الجديد في تحسين العلاقات مع “إسرائيل”، حيث أصبح أمن النظام هو المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية، من خلال تعزيز التعاون مع القوى القادرة على دعمه اقتصاديًا وسياسيًا. وفي أغسطس/آب 2013، أعلنت شركة “ديليك” الإسرائيلية بدء محادثاتٍ مع القاهرة لضخ الغاز الإسرائيلي إلى مصر عبر خط عسقلان–العريش.
ومع وصول نظام عبد الفتاح السيسي، المدعوم من الجيش، إلى السلطة، أصبح الموقف المصري أكثر مرونةً تجاه فكرة استيراد الغاز الإسرائيلي، وشهد التعاون بين الجانبين في محادثات الغاز تحوّلًا ملحوظًا، غير أن مطالبة “إسرائيل” مصر بدفع تعويضاتٍ ضخمة عن وقف التصدير عام 2012، ظلت عقبةً أمام أي اتفاقٍ جديد.
ثم في عام 2015، شكّل اكتشاف حقل “ظُهر” في البحر المتوسط نقطةَ تحوّلٍ لمصر، إذ وفّر لها قدرةً إنتاجية تصل إلى 3 مليارات قدمٍ مكعب يوميًا، مقابل استهلاكٍ محلي بلغ 5 مليارات، ما أنعش آمال الاكتفاء الذاتي. لكن المديونية، والتزامات التصدير، حدّت من الأثر الفوري لهذا الاكتشاف.
بحلول عام 2016، تراجع الإنتاج مجددًا مع استمرار نمو الطلب المحلي، فلجأت مصر إلى استيراد الغاز المسال عبر وحداتٍ عائمة في موانئ العين السخنة وأبو قير، وبدأت قنواتُ تفاوضٍ غير رسمية مع “إسرائيل”، عبر شركات القطاع الخاص.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في مصر (2011-2018)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز |
2011 | 59.1 | 47.8 | +11.3 |
2012 | 58.6 | 50.6 | +8.0 |
2013 | 54.0 | 49.5 | +4.5 |
2014 | 47.0 | 46.2 | +0.8 |
2015 | 42.6 | 46.0 | -3.4 |
2016 | 40.3 | 49.4 | -9.1 |
2017 | 48.8 | 55.9 | -7.1 |
2018 | 58.6 | 59.6 | -1.0 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
2018: الاتفاق الأول مع “إسرائيل”
بعد توقف مصر عن تصدير الغاز لـ”إسرائيل” عام 2012، لجأت الأخيرة إلى التحكيم الدولي للمطالبة بتعويضات، وحصلت عام 2015 على أحكامٍ قضائية دولية بتعويضاتٍ ضد مصر بلغت نحو 1.8 مليار دولار، ما شكّل عبئًا ماليًا ثقيلًا على القاهرة، التي خسرت أيضًا جولةَ الاستئناف. وبعدها، دخل الطرفان في مفاوضاتٍ انتهت بالاتفاق على خفض المبلغ إلى 500 مليون دولار، تُسدّدها مصر على مدى ثماني سنوات.
لكن هذا التخفيض كان مشروطًا بموافقة مصر على إبرام صفقةٍ لاستيراد الغاز الإسرائيلي، باعتبارها تعويضًا لـ”إسرائيل” عن الخسائر التي قالت إنها تكبّدتها جراء توقف ضخ الغاز المصري سابقًا.
وبالفعل، أبرمت شركتا “دولفينوس” المصرية و”ديليك دريلينغ” الإسرائيلية، بالشراكة مع “نوبل إنرجي” الأميركية، اتفاقًا جديدًا في فبراير/شباط 2018، بقيمة 15 مليار دولار، يقضي بتوريد 64 مليار مترٍ مكعب من الغاز الإسرائيلي عبر خط العريش–عسقلان على مدى عشر سنوات، مع مراجعة الأسعار كل خمس سنوات. ويأتي هذا الاتفاق بعد أن أصدر السيسي عام 2017 قانونًا يسمح للشركات الخاصة باستيراد الغاز من إسرائيل.
بدأ التوريد الفعلي للغاز الإسرائيلي إلى مصر في عام 2019، وهو العام الذي ارتفع فيه إنتاج مصر من الغاز، وحققت فائضًا في إنتاجها. ومع ذلك، اشترت مصر الغاز الإسرائيلي بنحو 6 دولارات لكل مليون وحدةٍ حرارية بريطانية، أضافت إليها تكلفة تسييلٍ تتراوح بين 2–3 دولارات، ثم أعادت تصديره بأسعارٍ تراوحت بين 13–15 دولارًا، محققةً أرباحًا، بينما ضمنت “إسرائيل” سوقًا ثابتة لغازها، وأصبحت مصر، بكل اختصار، “دولة عبور للغاز الإسرائيلي”.
تجدر الإشارة إلى أن “إسرائيل” حتى الآن لا تستطيع تصدير غازها إلا عبر مصر، إذ تفتقر إلى أنابيب تصدير ومحطات إسالة خاصة بها. وإذا أرادت التصدير، فلا بد أن يتم ذلك عبر الأراضي المصرية، من خلال خط الغاز العربي، أو من خلال محطات الغاز المسال المصرية في إدكو ودمياط، والتي تمكن “إسرائيل” من تسييل فائض غازها وتصديره عالميًا.
لطالما اعتبرت “إسرائيل” نفسها “جزيرة طاقة” منعزلة عن شبكة خطوط الأنابيب الإقليمية، فيما يرى النظام المصري أن قصور “إسرائيل” في تطوير مرافق الغاز الطبيعي المسال يشكل ميزة لمصر، إذ تتيح البنية التحتية المصرية إعادة تصدير الغاز المستورد من “إسرائيل”، وتحقيق مكاسب اقتصادية.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في مصر (2018-2022)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز |
2018 | 58.6 | 59.6 | -1.0 |
2019 | 64.9 | 59.0 | +5.9 |
2020 | 58.5 | 58.3 | +0.2 |
2021 | 67.8 | 62.1 | +5.7 |
2022 | 64.5 | 60.6 | +3.9 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
على أي حال، فاجأت صفقة 2018 الكثيرين، خاصة أن بدء ضخ الغاز الإسرائيلي في عام 2019 تزامن مع تحقيق مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز. وقد أعرب بعض المصريين عن استيائهم من عبور الغاز الإسرائيلي إلى بلادهم، في حين رأت أطراف دولية في هذه الخطوة تمهيدًا لدمج “إسرائيل” في منظومة الطاقة الإقليمية.
وقد دافع عبد الفتاح السيسي بنفسه عن اتفاق استيراد الغاز من “إسرائيل”، مؤكدًا أن الصفقة عززت موقع مصر كمركز إقليمي للطاقة، وعبر عن ذلك بقوله: “احنا جبنا جول.. جبنا جول يا مصريين في الموضوع ده”.
في المقابل، أبدى الجانب الإسرائيلي ترحيبًا واسعًا بالاتفاقية، وعبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن سعادته قائلًا: “أرحب بالاتفاقية التاريخية لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، فهي ستدر مليارات الدولارات على خزينة الدولة، بما يسهم في دعم مجالات التعليم والصحة والرفاهية الاجتماعية لمواطني إسرائيل.. هذه الاتفاقية ستعزز أمننا واقتصادنا وعلاقاتنا الإقليمية”.
2019: تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط
منذ تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) عام 2019 بعضوية كل من مصر و”إسرائيل” ودول أخرى، بدا المشروع في ظاهره منصة للتعاون الإقليمي في مجال الغاز، لكنه حمل في جوهره أبعادًا سياسية واقتصادية أعمق.
بالنسبة لمصر، فقد منحها المنتدى غطاءً دبلوماسيًا لمشاريع الغاز المشتركة مع إسرائيل، بجانب تسويق سردية “مركز الطاقة الإقليمي” واستثمار موقعها الجغرافي وبنيتها التحتية لإسالة وتصدير الغاز الإسرائيلي، لكن في الوقت ذاته، أصبحت طرفًا مباشرًا في منظومة إقليمية تضم إسرائيل، ما فتح الباب لتطبيع واسع في قطاع استراتيجي بالغ الحساسية.
أما إسرائيل، فقد استفادت من المنتدى كغطاء لتصدير غازها عبر مصر إلى الأسواق الأوروبية، متجاوزة القيود الجيوسياسية التي كانت تعيق تسويق مواردها، ومكتسبة شرعية إقليمية من خلال مؤسسة متعددة الأطراف.
يمكن القول إن منتدى غاز شرق المتوسط رغم ما يوفره من فرص اقتصادية، يعيد تشكيل موازين القوى على نحو يحد من استقلالية القرار المصري في ملف الغاز، ويضعه ضمن معادلة إقليمية تتقاطع فيها المصالح الأوروبية والإسرائيلية، مع هامش مناورة محدود.
2022: الاتفاق الثلاثي
بعد حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة الأوروبية، أصبح منتدى غاز شرق المتوسط أداة ضمن الاستراتيجية الأوروبية لفطم نفسها عن الغاز الروسي، ما جعل القاهرة وتل أبيب لاعبين محوريين في سد فجوة الإمدادات، لكن على أسس تميل كفتها اقتصاديًا لصالح “إسرائيل” كمصدر للغاز، بينما تتحمل مصر تقلبات الأسعار والمخاطر التشغيلية.
بين عامي 2018 و2022، تمتعت مصر بفترة من الوفرة في الغاز، مدعومة باستثمارات ضخمة في قطاع الغاز، وحققت صادرات الغاز المسال إيرادات قياسية. غير أن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع الطلب العالمي على الغاز، بالتزامن مع أزمة نقص العملة الأجنبية في مصر، أدى إلى تراكم مستحقات شركات النفط والغاز الأجنبية وتوقف استثماراتها في صيانة وتطوير حقول الغاز. ونتيجة لذلك، تراجع إنتاج مصر منذ مطلع 2022 واستمر في الانخفاض حتى عام 2024، ما تسبب في عجز حاد وانقطاعات متكررة للكهرباء.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في مصر (2022-2024)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز |
2022 | 64.5 | 60.6 | +3.9 |
2023 | 57.1 | 60.0 | -2.9 |
2024 | 47.5 | 59.8 | -12.3 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
ومع تراجع إنتاج حقل ظهر، زادت مصر وارداتها من الغاز الطبيعي المسال عبر سفن عائمة، كما بدأت توجيه الغاز الإسرائيلي إلى محطات الكهرباء والمصانع، خصوصًا خلال شهور الصيف، حيث كان الطلب يتجاوز 6–7 مليارات قدم مكعب يوميًا، في حين لم يتجاوز الإنتاج المحلي 4 مليارات قدم مكعب.
ورغم التحديات التي كانت تمر بها مصر، فقد وقعت في 15 يونيو/حزيران 2022 في القاهرة اتفاقية ثلاثية مع “إسرائيل” والاتحاد الأوروبي، بحضور وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، ووزير البترول المصري طارق الملا، ومفوضة الطاقة في الاتحاد الأوروبي كادري سيمسون.
تنص الاتفاقية على تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي الإسرائيلي عبر محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط، ثم إعادة تصديره بواسطة ناقلات الغاز إلى الأسواق الأوروبية. وتمتد الاتفاقية لثلاث سنوات قابلة للتجديد لعامين إضافيين، مع تقديرات حجم إمدادات بين 7 و10 مليارات متر مكعب سنويًا، رغم عدم تحديد الكمية رسميًا في نص الاتفاق.
2024: زيادة الكمية وإعادة ضبط الأسعار
لم تؤثر الحرب على غزة على التعاون في مجال الغاز بين مصر وإسرائيل، ووفقًا لتقرير أمن الطاقة الصادر عن جمعية الغاز الإسرائيلية في سبتمبر 2024، فقد صدرت “إسرائيل” إلى مصر عام 2023 نحو 8.7 مليارات متر مكعب من الغاز، أي ما يعادل سدس استهلاك مصر، بارتفاع ملحوظ عن 6.3 مليارات متر مكعب في 2022. ويشكل الغاز حاليًا قرابة 86% من إجمالي حجم التجارة بين البلدين.
ومع استمرار العمل باتفاق 2018، ظهرت تحديات جديدة لمصر، أبرزها تراجع إنتاج حقل ظهر منذ 2022، وزيادة الطلب المحلي، إضافة إلى التزامات القاهرة بتشغيل محطتي الإسالة في إدكو ودمياط للحفاظ على صادرات الغاز لأوروبا.
في ظل هذه الظروف، ومع اضطرابات سوق الطاقة العالمية وارتفاع الأسعار نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، أعادت القاهرة وتل أبيب في 2024 التفاوض على اتفاق 2018. شملت التعديلات زيادة الكميات المستوردة من نحو 6.4 إلى 8 مليارات متر مكعب سنويًا (بزيادة 25%)، وربط الأسعار بمؤشر الغاز الأوروبي TTF، ليرتفع متوسط السعر إلى 7–8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بدلًا من 6 دولارات في عقد 2018، كما تم تمديد مدة التوريد ثلاث سنوات إضافية حتى 2031.
عززت هذه التعديلات مكانة “إسرائيل” كمورد للغاز لمصر في ظل الأزمة الناتجة عن حربها على غزة، وفي المقابل قللت من فرص مصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى القريب، كما زادت من حساسية الملف سياسيًا، إذ أصبح أي توتر أمني أو سياسي بين البلدين يهدد أمن الطاقة المصري.
– تطور إنتاج واستهلاك الغاز الطبيعي في “إسرائيل” (2019-2024)
السنة | الإنتاج (مليار م³) | الاستهلاك (مليار م³) | الفائض/العجز (مليار م³) |
2019 | 10.0 | 10.7 | -0.7 |
2020 | 14.7 | 11.3 | +3.4 |
2021 | 18.3 | 11.7 | +6.6 |
2022 | 20.8 | 12.1 | +8.7 |
2023 | 19.8 | 10.5 | +9.3 |
2024 | 21.4 | 10.4 | +11.0 |
المصدر: BP Statistical Review of World Energy 2024 – Energy Institute
2025: الاتفاقية الكبرى
في وقت تتعاظم فيه خيبة الأمل من محدودية الدور المصري في تخفيف معاناة غزة، أقدمت القاهرة وتل أبيب في أغسطس/آب 2025 على توقيع أكبر صفقة غاز بينهما منذ بدء التعاون في هذا المجال.
يمتد الاتفاق الجديد لمدة 15 عامًا حتى 2040، وينص على توريد 12 مليار متر مكعب سنويًا، أي بزيادة 50% مقارنة بالاتفاق المعدل عام 2024، مع إمكانية زيادة الإمدادات. وتقدر قيمة الصفقة بأكثر من 35 مليار دولار، بسعر يتراوح بين 8 و9 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.
وتتضمن الاتفاقية كذلك استثمارات لتوسيع خط أنابيب العريش–عسقلان، وإنشاء مرافق تخزين في شمال سيناء، بهدف ضمان استقرار الإمدادات، ومنح “إسرائيل” منفذًا أكثر استقرارًا للوصول إلى الأسواق الأوروبية عبر المنشآت المصرية.
لدى “إسرائيل” حاليًا خياران لتصدير غازها: إما الاستفادة من مرافق الغاز الطبيعي المسال الموجودة في مصر، أو إنشاء خط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يربطها بأوروبا. وقد وافقت “إسرائيل” إلى جانب قبرص واليونان على دراسة جدوى لإنشاء هذا الخط، لكنه سيتطلب وقتًا وتكلفة كبيرة.
وبالتالي، فإن ضخ المزيد من الغاز الإسرائيلي إلى مصر يبدو خيارًا منطقيًا لإسرائيل، كما أنه يسمح لها باستخدام واردات الغاز للاستثمار في مشاريع غاز أوروبية. وبكل اختصار، مصر هي الرئة الوحيدة التي تتنفس من خلالها شركات الغاز الإسرائيلية.
الاتفاقيات الرئيسية لتصدير الغاز من “إسرائيل” إلى مصر
السنة | الحجم (مليار متر مكعب سنويًا) | السعر التقديري (دولار/MMBtu) | القيمة السنوية التقريبية (مليار دولار) | المدة | الملاحظات |
2018 | 6.4 | 6.5-7.0 | 1.68-1.72 | 10 سنوات | اتفاق بين شركة دولفينوس المصرية وشركتي ديليك ونوبل لتوريد 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي |
2022 | 7-10 | غير معلن رسميًا | تقديرات 2.0-2.8 | 3 سنوات قابلة التجديد لعامين | اتفاق ثلاثي (مصر-إسرائيل-الاتحاد الأوروبي) لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر محطات الإسالة المصرية |
2024 | 8.0 | 7.0–8.0 | 2.20 | حتى 2031 | عقد جديد مع زيادة الكميات وربط الأسعار بمؤشر TTF الأوروبي |
2025 | 12.0 | 8.0-9.0 | 3.52 | 15 سنة | زيادة اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي مع إمكانية زيادة الإمدادات |
المصدر: تصريحات رسمية وتقارير إعلامية.
وتظل هناك احتمالية أن تكون صفقة 2025 عقدًا منفصلًا عن اتفاق 2024 المعدل، ما قد يعني وجود ثلاثة عقود (2022 – 2024 – 2025). ومع ذلك، أكد معتز عاطف، المتحدث الرسمي لوزارة البترول، أن مصر لم توقّع أي اتفاقية جديدة لاستيراد الغاز الإسرائيلي، موضحًا أن صفقة 2025 هي تعديل لاتفاقية 2018.
وردًا على سؤال من مقدم البرنامج حول مدة الصفقة الطويلة وقيمتها الكبيرة، قال عاطف إن الحكومة المصرية تعمل على تأمين عقود طويلة الأجل لضمان استقرار إمدادات الطاقة. ومع ذلك، أبدى عاطف تحفظات على قيمة الاتفاقية وما نشر عنها، قائلًا إنها لم تُحسم بعد.
في ظل هذا الغموض الرسمي، روّجت وسائل الإعلام المصرية لصفقة 2025 باعتبارها خطوة نحو ترسيخ مصر كمركز إقليمي للطاقة، وظهر رئيس الوزراء المصري مدافعًا عن الاتفاقية، متجنبًا مناقشة تبعات الاعتماد على الغاز الإسرائيلي، ومحاولًا إبعاد الجمهور عن تفاصيل التعاملات مع إسرائيل. واللافت أنه حاول تبرير اعتماد وربط المصالح الاقتصادية المصرية بحقول الغاز الإسرائيلية.
ويلاحظ أنه جرى في صفقة 2025 تغيير جوهري تمثل في إلغاء البند الذي أُدرج عام 2018، والذي كان يتيح لمصر خفض وارداتها من الغاز الإسرائيلي إذا هبط سعر خام برنت عن 50 دولارًا للبرميل. وبإلغاء هذا الشرط في عقد 2025، أصبحت القاهرة ملتزمة بدفع كامل قيمة العقد.
وحسب نائب رئيس الهيئة العامة للبترول سابقًا، في حديثه لـ “صحيح مصر”، فإن هذا التعديل يجبر مصر على دفع ملايين الدولارات مقابل غاز قد لا تحتاجه، خاصة إذا توفرت بدائل أرخص، معتبرًا أن قبول هذه الشروط يعكس ضعف الموقف التفاوضي المصري.
كما حذّر من أن هذه الاتفاقية تزيد اعتماد قطاع الطاقة المصري على الغاز الإسرائيلي، بما يحمله ذلك من أعباء مالية ومخاطر دبلوماسية، لافتًا إلى أن “إسرائيل” أوقفت الإمدادات مرتين مؤخرًا دون وجود أية اشتراطات في الاتفاقية الأخيرة تمنعها من ذلك.
الرئيس المصري عبد الفتاح #السيسي: التاريخ سيحاسب دولاً كثيرة على موقفها في الحرب على #غزة والضمير الإنساني لن يصمت طويلاً pic.twitter.com/s75N1bSLVV
— نون بوست (@NoonPost) August 5, 2025
في الواقع، منذ توقيع اتفاق 2018، لعبت شركات خاصة مصرية مثل “دولفينوس” دور الوسيط في عقود الغاز بين مصر وإسرائيل، وهو ما أتاح للحكومة تجنب الظهور المباشر أو تحمّل تبعات سياسية، مع الإبقاء على التفاصيل الهامة طي الكتمان.
هذه العقود التي تُبرم غالبًا عبر القطاع الخاص، تُعلن رسميًا فقط من خلال أرقام إجمالية للكميات والقيمة، دون كشف آليات التسعير أو شروط التحكيم، أو المبادئ التي أصر عليها كل جانب، ووسط غياب تام للرقابة البرلمانية أو الشعبية.
وتُظهر صفقات الغاز بين مصر و”إسرائيل” أن الشركات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية كانت المستفيد الأكبر من هذه الاتفاقيات. ووفقًا لما كشفه الصحفي الاستقصائي حسام بهجت في موقع “مدى مصر”، فقد تمكن جهاز المخابرات العامة، عبر شبكة معقدة من الشركات، من السيطرة على مختلف مراحل اتفاقيات الغاز الإسرائيلي، وتحقيق مكاسب كبيرة من عملية شحنه إلى مصر.
أثر اعتماد مصر على “الغاز الإسرائيلي”
يُظهر مسار إنتاج الغاز في مصر هشاشة الاكتفاء الذاتي في ظل غياب تخطيط طويل الأمد، ومنذ توقيع اتفاقيات الغاز مع إسرائيل، تحول الأمر من صفقة مؤقتة إلى مسار طويل يمس الاقتصاد الكلي ويؤثر على استقلالية القرار السياسي، ويعيد رسم موازين القوى في المنطقة.
اقتصاديًا، يوفر الغاز الإسرائيلي استقرارًا نسبيًا لإمدادات الكهرباء والصناعة في مصر، مقارنة بالاستيراد من موردين بعيدين. ورغم أن الاتفاقية الحالية مع “إسرائيل” أكثر جدوى من حيث التكلفة، إلا أنها في الوقت ذاته تفرض تحديات على استقلالية القرار المصري.
يمنح اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي تل أبيب ورقة ضغط مؤثرة خلال أوقات الأزمات، في حين يحد من هامش مناورة القاهرة في رسم سياساتها المتعلقة بالطاقة، ويقلل من فرصها في تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى القريب، خاصة في ظل العقود طويلة الأمد التي تمتد لخمسة عشر عامًا.
وقد أكد وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي إيلي كوهين أن الصفقة الأخيرة ترسخ مكانة إسرائيل” كقوة إقليمية يعتمد عليها جيرانها، وتدر مليارات الدولارات على اقتصادها، فضلًا عن أهميتها الأمنية والسياسية.
وفي الواقع، تعكس تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أبعاد الصفقة التي تتجاوز المكاسب المالية، لتصل إلى ترسيخ “إسرائيل” في المنطقة، أو كما وصفها رئيس شركة “نيوميد إنرجي” الموقعة على اتفاق 2025، معتبرًا إياها “أداة لتغيير الواقع الاستراتيجي”.