في خطوة وُصفت بأنها الأكبر في تاريخ تجارة الغاز بين القاهرة وتل أبيب، أعلنت شركة “نيو مِد” الإسرائيلية، المالكة لنحو 45% من حقل ليفياثان العملاق في شرق المتوسط، عن توقيع اتفاقية جديدة لتوسيع صادرات الغاز الطبيعي إلى مصر.
الاتفاق، الذي يمتد حتى عام 2040 وتبلغ قيمته نحو 35 مليار دولار، ينص على توريد ما يقارب 130 مليار متر مكعب من الغاز. وبرر رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي الاتفاق الجديد باعتباره جزءًا من خطة مصر للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، مستفيدًا من محطتي الإسالة في إدكو ودمياط.
الصفقة التاريخية
لكن خلف ما تصفه تل أبيب بالاتفاقية “التاريخية”، تكمن تفاصيل تُثقل كاهل الجانب المصري. فقد جرى إلغاء بند محوري كان يسمح لمصر بخفض الكميات المستوردة إذا هبط سعر خام برنت إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل. هذا التغيير يعني عمليًا أن القاهرة ستظل ملزمة بدفع كامل قيمة الصفقة وفق الأسعار الحالية، حتى لو تراجعت الأسعار عالميًا أو انخفضت حاجة السوق المحلي للغاز.
الاتفاق الأخير ليس سوى تطوير ثالث لاتفاق أصلي وُقّع عام 2018؛ إذ بدأت الصفقة آنذاك بتوريد 64 مليار متر مكعب من الغاز، ارتفعت لاحقًا في 2019 إلى 85.3 مليار، لتقفز اليوم إلى 130 مليار متر مكعب مع تمديد التوريد حتى عام 2040 وزيادة القيمة الإجمالية من 15 إلى 35 مليار دولار.
وبحسب الخطة، تبدأ المرحلة الأولى العام المقبل بضخ 20 مليار متر مكعب، على أن تتبعها مرحلة ثانية بعد توسعة حقل ليفياثان وإنشاء خط أنابيب جديد، لتضيف نحو 110 مليارات متر مكعب إضافية. ويجري العمل بالفعل على رفع الطاقة الإنتاجية للحقل من 1.2 إلى 2.35 مليار قدم مكعب يوميًا.
حتى الآن يزوّد ليفياثان مصر بنحو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا، مع توقعات بالارتفاع إلى 6.5 ثم 12 مليار متر مكعب، أي ما يعادل بين 10 و19% من إجمالي الاستهلاك المحلي المقدّر بـ 62.2 مليار متر مكعب بنهاية 2024.
بنود أخرى تقيد مصر
كشفت بنود الاتفاق المعدل بين مصر وشركة الغاز الإسرائيلية عن التزامات مالية صارمة، أبرزها مبدأ “Take or Pay”، الذي يُلزم شركة “بلو أوشن إنرجي” الممثلة للجانب المصري بدفع قيمة الغاز المتفق عليه سواء استلمته فعليًا أو لا. وبموجب هذا البند الشائع في عقود الطاقة العالمية، تصبح القاهرة مطالبة بتسديد الفواتير كاملة حتى لو لم تعد بحاجة إلى هذا الغاز، أو غير راغبة في استيراده من إسرائيل.
كما ألغت الاتفاقية الجديدة بندًا كان يتيح لمصر تقليص الكميات الموردة إذا انخفض سعر خام برنت إلى أقل من 50 دولارًا للبرميل، ما يعني استمرار التزامات الدفع بأسعار مرتفعة حتى في حال تراجع الأسعار عالميًا.
ميزة مؤقتة لمصر
حتى الآن، مع تراجع الإنتاج المحلي، تحصل مصر على الغاز الإسرائيلي بسعر أقل تكلفة الغاز الطبيعي المسال، إذ أن الصفقة الجديدة تضمن توريد 130 مليار متر مكعب، بقيمة إجمالية متوقعة تبلغ 35 مليار دولار، أي بسعر يقارب 7.35 دولار لكل مليون وحدة حرارية، لكن هذه الميزة تبدو مؤقتة، وسط مؤشرات على سعي شركاء حقلي “ليفياثان” و”تمار” لرفع الأسعار مستقبلًا.
بالإضافة إلى ربط الكميات الموردة بموافقة وزارة الطاقة في “إسرائيل”، مع تحكم الحكومة الإسرائيلية في قرار إيقاف الغاز وفق بند القوة القاهرة في الاتفاقية، والتي فعلته نحو 4 مرات منذ 7 أكتوبر، وكانت توقف توريد الغاز إلى مصر والأردن وتوجهه نحو السوق المحلي فقط.
كيف أنقذت مصر “إسرائيل”؟
في عام 2009، اكتشفت تل أبيب واحدًا من أضخم حقول الغاز في شرق المتوسط: ليفياثان، باحتياطي يتجاوز 600 مليار متر مكعب. لكن رغم هذا الكنز، ظلت الشركات المالكة لحقوق تطوير الحقل مترددة نحو تسع سنوات، إذ إن السوق الإسرائيلية المحدودة لم تكن كافية لتبرير استثمارات بمليارات الدولارات.
الحل جاء من القاهرة، ففي فبراير 2018، وُقعت صفقة وُصفت بـ”المنقذة”، إذ اتفقت شركات مصرية وإسرائيلية وأمريكية على توريد 64 مليار متر مكعب من الغاز على مدى عشر سنوات بقيمة 15 مليار دولار. الصفقة التي اعتبرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقتها “جونًا” لصالح بلاده، فتحت الباب لتسويق الحقل، وضمنت لتل أبيب عائدًا مجزيًا يدفع لاستكمال الاستثمارات.
لاحقًا، تم تعديل الاتفاق في 2019 ليرتفع إلى 85 مليار متر مكعب على مدى 15 عامًا بقيمة 19.5 مليار دولار، وفي يناير 2020 تدفقت أولى الشحنات إلى مصر، لتغلق صفحة كان فيها الغاز المصري يتدفق في الاتجاه المعاكس قبل عقد واحد فقط.
ومنذ ذلك الحين وحتى مايو 2025، أنفقت القاهرة نحو 8.2 مليار دولار على واردات الغاز من “إسرائيل”، فقد ارتفعت الكميات من 2.2 مليار متر مكعب في 2020 إلى 6.3 مليار في 2022، ومع تراجع الإنتاج المحلي عام 2023 قفزت الواردات بنسبة 38% لتصل إلى 8.7 مليار متر مكعب، ثم إلى أكثر من 10 مليارات في 2024.
وحتى في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، واصلت مصر شراء الغاز؛ إذ بلغت قيمة المشتريات بين أكتوبر 2023 ومايو 2025 نحو 4.5 مليار دولار. كما ساهمت هذه الصفقات في زيادة التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب بنسبة 21% في 2024 ليصل إلى 3.2 مليار دولار، منها 2.9 مليار واردات مصرية.
ما هو حقل ليفياثان؟
يُعدّ حقل ليفياثان واحدًا من أعمدة صناعة الغاز في شرق المتوسط، تملكه شركات كبرى تتقدمها “نيو ميد إنرجي” (45.34%)، و”شيفرون” الأمريكية (39.66%) التي تتولى تشغيله، بينما تمتلك “ريشيو إنرجيز” الحصة المتبقية البالغة 15%.
الحقل يتكوّن من أربع آبار بحرية متصلة بخطَّي أنابيب يمتدان لمسافة 120 كيلومترًا تحت سطح البحر، تنقل الغاز إلى منصة معالجة قبل ضخه إلى الأسواق في “إسرائيل” والأردن ومصر، حيث يزوّد القاهرة حاليًا بنحو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا.
لكن شهية مصر المتزايدة دفعت الشركات المشغّلة للإعلان عن خطة توسعة كبرى بقيمة 2.5 مليار دولار، تستهدف رفع الإمدادات إلى 6.5 مليار متر مكعب خلال 2025، ثم إلى 12 مليارًا سنويًا في المدى القريب. وتشمل الخطة حفر بئرين جديدتين، وإضافة خط إمداد ثالث، فضلًا عن مد خط أنابيب بري جديد يصل مباشرة من “إسرائيل” إلى الحدود المصرية.
شركة “شيفرون” أعلنت استئناف أعمال التوسعة في فبراير 2025 بعد تأجيلها بسبب الحرب على غزة، مؤكدة أن خط الأنابيب الجديد سيكتمل مع نهاية العام الجاري. فيما وصف يوسي أبو، الرئيس التنفيذي لـ”نيو ميد إنرجي”، الاتفاق مع مصر بأنه “صفقة رابحة للطرفين”، موضحًا أن القاهرة ستوفّر مبالغ ضخمة مقارنة باستيراد الغاز الطبيعي المسال من الأسواق العالمية.
لنعد إلى عام 2017..
في السابع من أغسطس/آب 2017، وقع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على قانون طال انتظاره؛ قانون تنظيم أنشطة الغاز (رقم 196 لسنة 2017). بهذا التوقيع، فُتح الباب لأول مرة أمام شركات القطاع الخاص لاستيراد الغاز من الخارج، لكن ليس بشكل مطلق؛ إذ اشترط القانون أن تتم العملية تحت إشراف هيئة تنظيم أنشطة الغاز التي استُحدثت بموجب مواده الـ52، ويرأسها وزير البترول.
هذا القانون لم يأتِ من فراغ. قبل عامين فقط من صدوره، كانت شركة “دولفينوس” المصرية-الإسبانية، وهي كيان غير حكومي، قد دخلت في محادثات مع الشركات الإسرائيلية المالكة لحقلي لوثيان وتمار بشأن إمكانية تصدير جزء من إنتاجهما إلى مصر.
السبب كان واضحًا ضغوط هائلة من شركة يونيون فينوسا الإسبانية، المالكة لـ52% من محطة إسالة دمياط، بعدما توقفت بعض وحدات المحطة عن العمل منذ 2012 بسبب نقص الغاز. الشركة لم تكتفِ بالشكوى؛ بل لجأت إلى التحكيم الدولي ضد الحكومة المصرية، مطالبة بتعويضات، لكنها لوّحت في المقابل بإمكانية التنازل عن القضية إذا فُتح لها الباب لاستيراد الغاز الإسرائيلي.
في الجهة المقابلة، كانت “إسرائيل” تبحث عن متنفس لإنتاجها المتزايد من الغاز، ومع اكتشاف حقل لوثيان (احتياطي يناهز 520 مليار م³) وحقل تمار (260 مليار م³)، صارت لاعبًا جديدًا على خريطة التصدير. لكنها افتقدت البنية التحتية اللازمة للتسييل والتصدير إلى الأسواق البعيدة.
هنا برزت محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط كطوق نجاة؛ حيث تمتلك مصر وحدات قادرة على إسالة ما يتراوح بين 160 إلى 700 ألف طن يوميًا، “إسرائيل” لم تكن تبحث عن الأموال فقط من وراء تصدير الغاز لمصر، بل كانت تريد الاستفادة من البنية التحتية المصرية؛ وهو الهدف الأكبر.
وهكذا، بدا المشهد وكأنه تبادل احتياجات: مصر تسعى إلى حل أزماتها في محطات الإسالة والتخلص من النزاعات الدولية، و”إسرائيل” تبحث عن منفذ لتسويق إنتاجها. وكان قانون تنظيم أنشطة الغاز هو المفتاح الذي فتح الأبواب.
لكن من المستورد؟
حين اتخذت مصر قرارها باستيراد الغاز من “إسرائيل”، برزت الحاجة سريعًا إلى “رجل واجهة” يعيد للأذهان الدور الذي لعبه حسين سالم في عصر حسني مبارك. سالم، رجل الأعمال المقرب من السلطة آنذاك، كان قد أسندت إليه مهمة إبرام صفقة تصدير الغاز المصري لـ”إسرائيل” قبل ثورة يناير، وهي الصفقة التي تحولت لاحقًا إلى رمز للفساد بعد محاكمة المسؤولين عنها بتهم التربح والرشوة وتكبيد الدولة خسائر بمليارات الدولارات نتيجة بيع الغاز النادر بأسعار زهيدة لا تعكس قيمته الحقيقية.
في عالم صفقات الطاقة، لا تمر الأمور عادة بشكل مباشر بين الحكومات والشركات الكبرى؛ دائمًا هناك “حلقة وسيطة” تُمسك بخيوط اللعبة. هكذا ظهر اسم شركة دولفينوس القابضة على السطح عام 2015، كجسر غير متوقع بين القاهرة وتل أبيب.
الشركة، التي يترأس مجلس إدارتها رجل الأعمال علاء عرفة – أحد أكبر لاعبي صناعة الغزل والنسيج في مصر، وصاحب العلامة التجارية الشهيرة “كونكريت” – لم يكن لها أي تاريخ في قطاع الطاقة. ومع ذلك، أصبحت فجأة بوابة لتمرير الغاز الإسرائيلي إلى السوق المصرية، في صفقة أثارت كثيرًا من الجدل والتساؤلات.
وبينما كان الرأي العام يترقب مبررات استيراد الغاز في بلد اكتشف حقوله الخاصة في البحر المتوسط، كانت “دولفينوس” تتحرك بهدوء لتأمين الغطاء القانوني. وقد تحقق ذلك بعد صدور قانون تنظيم أنشطة الغاز عام 2017، الذي فتح الباب أمام القطاع الخاص لاستيراد الغاز. بعدها بعام، وُقّعت واحدة من أضخم الصفقات في المنطقة مع شركة ديليك دريلينج الإسرائيلية، بقيمة 15 مليار دولار لتوريد 64 مليار متر مكعب من الغاز على مدى 10 سنوات.
إذن، كيف تمت صفقة 2018؟
لكن علاء عرفة، رجل الأعمال الذي تصدّر المشهد عبر دولفينوس، لم يكن يملك خبرة تُذكر في مجال الطاقة. وهنا جاء إدخال المهندس خالد أبو بكر إلى الفريق، وهو شخصية بارزة في دوائر الطاقة، إذ يشغل منصب رئيس لجنة الطاقة بغرفة التجارة الأمريكية في القاهرة آنذاك. دخل خالد أبو بكر رسميًا على خط الصفقة عبر واجهة جديدة أنشأتها دولفينوس القابضة في لوكسمبورغ، تحت اسم “بلو أوشن” (Blue Ocean).
تكشف أوراق تسجيل الشركة أنها مملوكة بالكامل لـ دولفينوس، ويظهر في الوثائق توقيع ثلاثة مديرين أساسيين: علاء عرفة، وخالد أبو بكر، ومحمد طلعت خليفة، المسؤول عن استثمارات مجموعة عرفة.
لكن اختيار لوكسمبورغ لم يكن عشوائيًا. فالدولة الأوروبية الصغيرة تُعدّ أحد أبرز الملاذات الضريبية في العالم، إذ تتيح للشركات تحويل الأموال منها وإليها بمرونة، مع إعفاءات ضريبية ضخمة وسرية عالية. والأهم من ذلك، أن لوكسمبورغ مرتبطة باتفاقية منع الازدواج الضريبي مع “إسرائيل”، ما يعني أن عرفة وأبو بكر لم يكونا مضطرين لدفع أكثر من 1% فقط كضريبة، مع إعفاء كامل من الضرائب داخل “إسرائيل”.
في مسار الصفقة كانت هناك خطوة لا تقل أهمية:تحرير سوق الغاز في مصر بالكامل وأصبح من حق الشركات الخاصة استيراد الغاز، وضخّه عبر الشبكة القومية، والاستفادة من جميع البنى التحتية المملوكة للدولة.
في مايو 2018، وبعد ثلاثة أشهر فقط من توقيع اتفاق استيراد الغاز الإسرائيلي، برز لاعب جديد في المشهد: شركة غاز الشرق التابعة للمخابرات العامة المصرية. فقد دخلت في شراكة مباشرة مع شركة بلو أوشن (واجهة علاء عرفة وخالد أبو بكر في لوكسمبورغ)، وأسفر التعاون عن تأسيس كيان جديد حمل اسم “إنيرجي سولوشنز” (Energy Solutions).
لكن هذه المرة لم يقع الاختيار على لوكسمبورغ، بل على سويسرا، وتحديدًا مقاطعة زوج (Zug)، التي تُوصف بأنها جنة الإعفاءات الضريبية لأنشطة التجارة. فبينما وفّرت لوكسمبورغ إعفاءات سخية على الأرباح الرأسمالية، جاءت سويسرا لتمنح مزايا ضريبية مباشرة على أنشطة البيع والشراء، وهي ميزة جوهرية لشركة تتاجر بالغاز. الأهم أن سويسرا وقّعت اتفاقيات منع ازدواج ضريبي مع كلٍّ من مصر (1987) وإسرائيل (2003)، ما يجعلها موقعًا مثاليًا لتمرير الأرباح بأقل تكلفة ممكنة.
يكشف السجل التجاري للشركة، التي تأسست رسميًا في 17 مايو 2018، أن غاز الشرق تمتلك 40% من أسهمها، بينما تسيطر بلو أوشن على النسبة الأكبر (60%). المفاجأة أن رأس مال الكيان الجديد لا يتجاوز 20 ألف دولار فقط، فيما يضم مجلس إدارته شخصيات نافذة: محمد شعيب (رئيس غاز الشرق)، خالد أبو بكر، علاء عرفة، نائبه محمد طلعت خليفة، ورجل الأعمال أحمد سمير عبد الفتاح غرس الدين.
بعد ذلك كان لابد من إيجاد وسيلة فعلية لضخ الغاز الإسرائيلي إلى الأراضي المصرية. فـ”إسرائيل”، على الرغم من امتلاكها احتياطيات ضخمة، لم تكن تملك بنية تحتية للتسييل أو للتصدير عبر المتوسط. بناء خط بحري جديد بين البلدين كان سيكلّف مليارات ويستغرق سنوات. لذلك، برز الحل الأسهل: إحياء خط أنابيب “غاز شرق المتوسط”، الممتد بين عسقلان والعريش، والذي كان يُستخدم سابقًا لتصدير الغاز المصري إلى “إسرائيل”، ثم تعديله ليعمل في الاتجاه العكسي، بحيث ينقل الغاز الإسرائيلي هذه المرة إلى مصر.
لكن الخطة لم تكتمل على هذا النحو. ففي القاهرة، لاحظ المسؤولون أن الاستحواذ المباشر من قبل الشركتين سيُبقي لمصر حصة هامشية لا تتجاوز 10% عبر الهيئة العامة للبترول، فضلًا عن أن رسوم تشغيل الأنبوب ستذهب بالكامل لشركة «شرق المتوسط». وهنا برز السؤال: لماذا لا تدخل المخابرات العامة المصرية عبر ذراعها الاقتصادي، غاز الشرق، لتشارك في ملكية الأنبوب وتحصل هي أيضًا على نصيب من كعكة الرسوم والأرباح؟.
الخطوة التالية جاءت بسرعة. تقرر تأسيس كيان جديد باسم “سفينكس” مسجّل في هولندا، لتكون الواجهة الرسمية لدخول غاز الشرق في الصفقة، بعيدًا عن أي حرج سياسي من شراكة مباشرة بين جهاز سيادي مصري وشركات إسرائيلية. اختيار هولندا لم يكن اعتباطيًا؛ فهي مركز عالمي لأنشطة التفادي الضريبي، ولديها اتفاقيات منع ازدواج ضريبي مع كل من مصر (1999) و”إسرائيل” (1973). هكذا قُيدت “سفينكس” رسميًا في 31 أغسطس 2018، برأسمال لا يتجاوز ألف دولار، وبمسؤول وحيد هو محمد شعيب، رئيس غاز الشرق.
لم تمر أسابيع حتى دخلت سفينكس شريكًا مع ديليك ونوبل في تأسيس شركة جديدة باسم “إيميد” (EMED)، أيضًا في هولندا. ووفقًا للإفصاح الذي قدمته ديليك للبورصة الإسرائيلية، حصلت الشركة المصرية على 50% من أسهم إيميد. وفي نهاية سبتمبر، أعلنت الأخيرة نجاحها في شراء 37% من أسهم غاز شرق المتوسط من رجلي الأعمال يوسي ميمان وسام زيل، إضافة إلى 2% من رجل الأعمال التركي علي إيفسن (واجهة حسين سالم قديمًا). وفي مقابل التنازل عن قضايا التحكيم المرفوعة ضد مصر منذ 2011، حصلت القاهرة أيضًا على 9% إضافية من أسهم إيفسن.
المفارقة أن الشخص الذي أشرف على هذه الخطوة هو ذاته محمد شعيب، الرجل الذي أصدر قرار وقف تصدير الغاز لـ”إسرائيل” عام 2012 عندما كان رئيسًا للشركة القابضة للغازات. القرار الذي فجّر سلسلة من قضايا التحكيم الدولية ضد مصر بمليارات الدولارات. لكن بموجب اتفاق الاستحواذ الجديد، ومن خلال حصتها في غاز شرق المتوسط، تمكنت القاهرة من امتلاك قوة تصويتية داخل مجلس إدارة الشركة أسقطت تلك القضايا، في معادلة صريحة: “استيراد مقابل إسقاط الغرامات”.
الاتفاق تضمن أيضًا بندًا آخر لا يقل أهمية: منح ديليك ونوبل حق استخدام خط أنابيب آخر يربط بين العقبة الأردنية والعريش المصرية، لضمان استمرار تدفق الغاز الإسرائيلي حتى في حال تعطل أو تعرض خط عسقلان–العريش لهجمات في سيناء.
وبذلك تحولت غاز الشرق –أي المخابرات العامة المصرية– إلى لاعب محوري: شريك في ملكية خط الغاز مع “إسرائيل”، شريك في صفقة الاستيراد عبر دولفينوس، ومالك حصري لخط الغاز الأردني. شبكة معقدة من التحالفات والشركات العابرة للحدود، لكنها تقود في النهاية إلى نتيجة واحدة: عودة الغاز الإسرائيلي إلى الداخل المصري عبر الأنبوب نفسه الذي كان يومًا ما يرمز لتصدير غاز مصر إلى “إسرائيل”.
بذلك أصبحت شركة غاز الشرق (أي المخابرات العامة المصرية) المستفيد الأكبر من الصفقة على أكثر من مستوى: رسوم نقل الغاز من إسرائيل إلى مصر عبر الأنبوب الذي باتت تمتلك حصة فيه، وإعادة بيع الغاز نفسه للحكومة المصرية بهامش ربح إضافي، والتحكم في أنبوب العقبة–العريش، بما يتيح لها جني أرباح إضافية من أي كميات قادمة من الأردن، سواء عبر رسوم النقل أو إعادة البيع.
وبينما تتراكم هذه المكاسب، فإن الشركة وشركائها من رجال الأعمال نجحوا في الهروب من دفع الضرائب عبر تسجيل أنشطتهم في ملاذات ضريبية مثل لوكسمبورج، سويسرا، وهولندا، مع بقائهم خارج أي إطار للمساءلة القانونية داخل مصر. والنتيجة: شبكة مصالح محمية من الضرائب ومن الرقابة، تربح من كل متر مكعب يمر في الأنبوب، أيًا كان مصدره أو سعره.
في صالح العدو
بالانتقال إلى عام 2023، تشير بيانات وكالة الطاقة الدولية إلى أن الغاز الطبيعي أصبح المصدر الأهم للطاقة في مصر بنسبة 48.7%، وهو العمود الفقري لتوليد الكهرباء بنسبة 76% من إجمالي الإنتاج. هذا الاعتماد المتزايد كان منطقيًا في ظل الاكتشافات الضخمة التي أعلنت عنها الحكومة عامي 2015 و2016، والتي سمحت بتلبية الاستهلاك المحلي والتوسع في التصدير حتى وقت قريب.
لكن بينما تضاعف الإنتاج بين 2015 و2021، بدأ منذ 2022 في التراجع بشكل حاد ليهبط إلى 2.04 مليون تيرا جول في 2023، دون أن تقدّم الحكومة تفسيرًا واضحًا.
في الوقت نفسه تحوّلت مصر من “مركز تصدير” إلى مستورد للغاز الإسرائيلي. ورغم أن الصفقة مع الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” في 2022 روِّج لها باعتبارها خطوة لإعادة التصدير إلى أوروبا، فإن تراجع الإنتاج المحلي جعل الغاز الإسرائيلي يُستخدم مباشرة في السوق المصرية. بداية 2024 قُدّر نصيبه بنحو 14% من المعروض المحلي.
المفارقة أن الصفقة البالغة 35 مليار دولار (على 15 سنة) تعادل في المتوسط 2.3 مليار دولار سنويًا فقط، أي نحو 3.8% من قيمة الصادرات الإسرائيلية عام 2024. بعبارة أخرى: مصر أصبحت أكثر اعتمادًا على “إسرائيل” في الكهرباء، بينما “إسرائيل” ليست معتمدة على الغاز كمورد أساسي لصادراتها، ما يجعل العلاقة غير متكافئة.
هذا الاعتماد يمنح “إسرائيل” ورقة ضغط خطيرة، خاصة في ظل ملفات التهجير وحدود غزة. فحتى لو كان الاتفاق طويل الأجل أو بأسعار تفضيلية، فإن غياب ضمانات دولية يترك مصر عرضة لاستخدام “سلاح الغاز” كورقة ابتزاز سياسي في أي لحظة.