عندما تُحاصر السلطات الشعوب من كل جانب، فإنّها تختار الصمت بدلًا من الكلام وتتخلى عن الثورة، لا لأنها راضية بالوضع القائم، بل لأنّها تدرك أنّ الخيارات المتاحة ليست بين الحرية والظلم أو بين العدالة والنزاهة، بل بين الموت البطيء بالقهر والقمع والموت السريع في انفجار أو رصاصة أو مشنقة.
وبعد سنوات من القمع الممنهج الذي مارسته الحكومات على شعوبها، لم تعد السلطة تخشى الشعب، إنّها تعرفُ أنها زرعت فيه من الخوف واليأس ما يجنبها سماع صوته. والمواطن وإن كان يخشى تجبّر السلطات، يغامر حتى بالانتحار إذا شعر بأنّ هناك أملا في التغيير، أو أنّ حياته ستكون فارقة، لكن الخوف ليس الشعور الوحيد في صدر هذه الأمة، بل اليأس أيضًا من أي تحسن أو أي إصلاح قد تحدثه ثورته الفردية أو الجماعية سيمنعه أيضًا من أن يثور أو يعترض.
إنها شعوب منتهكة في مجال خصوصيتها وأفكارها وممارساتها وحتى عواطفها، فبعد ما يقرب من عامين على حرب غزة، وهي الاختبار الحقيقي للضمير العربي اليوم، زاد توغل الحكومات في مصادرة كل صوت ينادي بالتحرك لإنقاذ الغزيين أو لمنع دعم الصهاينة، ما أثبت لهذه الشعوب أنّها تعيش في حصار كبير يبدأ من كلمة على الإنترنت وينتهي بالسجون.
قد يبدو هذا المقال فاقدًا للأمل في الغد العربي القريب، لكنه –على الأقل- يوّضح أسباب هذا اليأس الذي جاء من توالي الخيبات عُقب الأمل.
تصعيد القمع وتكميم الأفواه
شهد العالم العربي في العقد الأخير تطورًا نوعيًا في آليات القمع وفرض السلطة حوّل جهاز الدولة من وظيفته الأولى وهي حماية المواطن إلى آلة لسحق للمواطن الذي يمتلك رأيًا أو حتى امتعاضًا على النهج الذي تتبعه الحكومات في إدارة البلاد، فإذا كان الاعتقال هو الأسلوب القديم الذي كانت الحكومات تخيف فيه المعترضين، فإنّ الوقت الحالي أصبح التنكيل والضرب والتعذيب والاختفاء القسري والتهديد والابتزاز وغيرها أساليب حاضرة في يد الحكومات تستخدمها متى شاءت وضد من تريد علنًا دون خِشية.
ويبدأ القمع الذي تمارسه الحكومات من بيت المواطن ومن خلوته مع نفسه؛ إذ إنّ التكنولوجيا المستخدمة يوميًا تحوّلت إلى أداة مراقبة وتحليل للأفكار تستخدمها الحكومة في رسم بروفايل عن أفكار الناس وتوجهاتهم، فتتبع ما يتكلمون به وينشرونه، وتعطي نفسها صلاحية التطفل على الحسابات الشخصية للمواطنين ومحاسبتهم على ما ينشرونه من آراء لا تتماشى مع توجهاتها، ونرى هذا حاضرًا في الحملات التضامنية على مواقع التواصل الاجتماعي التي تطالب بالإفراج عن مواطنين اعتقلوا بسبب فيديو أو منشور لهم على تويتر أو فيسبوك يعبرون عن غضبهم من إجراء ما في البلاد أو اعتراضهم على أحد القرارات السياسية.
وفي الوقت الذي يضمن القانون فيه حرية الرأي البعيدة عن القدح والإساءات فإنّ المواطن يذهب بين الأقدام وفقًا لهذه القوانين حتى وإن لم يسيء لأحد أو يشتمه، فبعد صدور قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن –على سبيل المثال- فإنّ حملات الاعتقالات توسّعت بشكل ملحوظ وجائر على المواطنين الذين ينتقدون أي سلطة أو جهة حكومية أو قرار سياسي. فدون أي شكوى تُقدّم في حق المواطن قد يُستدعى للتحقيق معه لالتقاط الحكومة بعضًا من آراء هذا الفرد على الإنترنت، وزاد التضييق الممارس على حق التعبير في الأردن حد منع الانتقاد نفسه، والتظاهرات السلمية والتجمعات السلمية، والتركيز على الأفراد المنتسبين للأحزاب الأردنية، وكلها بذريعة التُهم الحديثة على المجتمع الأردني من قبيل إثارة النعرات في البلاد أو التحريض أو استهداف السِلم المجتمعي.
إلّا أنّ القمع كما يشهده العرب أجمع وصل ذروته بعد أحداث السابع من أكتوبر، حتى صار التضامن مع أهل القطاع محط تركيز من قِبل الجهات المسؤولة؛ لأنّ شكل التضامن يقع في ميزان التصنيف عند الحكومات، فإن كان تضامنك محض عاطفي ويحمل دعاءً للمساكين فهو مقبول، لكن أي فعل يخرج من إطار الدعاء يقع تحت بند “طائلة المسؤولية” كأن ترسل حوالات مادية إلى القطاع، أو تخرج في مظاهرات، أو تنتقد صدّ بلادك لصواريخ إيران المرسلة لتل أبيب –كما حدث مع هبة أبو طه- قد يضعك أمام القضاء لتقضي سنواتك التالية في السجن.
أصدر القضاء الأردني حكمًا يقضي بسجن الصحافية هبة أبو طه لمدة عام بعد توقيفها بسبب نشرها تقريرًا حول الجسر البري الذي يصل البضائع إلى “إسرائيل” مرورًا بالأردن.
وأدان مركز حماية وحرية الصحافيين في الأرن، القرار ودعا إلى إلغاء الأحكام السالبة للحرية في قضايا النشر وحرية التعبير بما… pic.twitter.com/AvLv4ZM1Sa
— نون بوست (@NoonPost) June 12, 2024
هذا القمع يحمل أبعاد عديدة لا تتعلق بالتجاوز على حرية التعبير في البلاد فقط، إنّما يعبّر عن هشاشة الحكومات التي تخاف من انتقادات مواطنيها التي قد يتم تبنيها على مستوى جماعات، فيضع الحكومة في زاوية التبرير والدفاع عن تصرفاتها غير العادلة، أو يعرضها لضغط شعبي لأن تتخذ موقفًا مشرفًا تجاه ما يحدث من مجازر.
إنّ الحكومات وفقًا لمعاهدات السلام الموقعة مع “إسرائيل” تخشى اختراق أي قرار تتخذه “إسرائيل” بشأن إبادة الشعب الغزي حتى لا تضع نفسها في مواجهة مع “إسرائيل” وأمريكا، إنّها تسير وفق مبدأ سد الذرائع؛ لأنّها تعلم أنّ العدو يطمع في التوسع، ولا يلتزم بعهوده، فمن الممكن أن يقطع الكهرباء مثلًا عن دولة مجاورة له بوقف شحن الغاز الطبيعي لهذه الدولة، أو أن تدخل “إسرائيل” إلى دولة جارة بذريعة حماية حدودها، أو حتى أن تضرب مواقع في البلدان المحيطة فيها بحجة إظهار الدولة دعمها لجماعات معادية مثل حماس أو حركات الجهاد الإسلامي.
فلهذا تتبنى الدول المحيطة بـ”إسرائيل” القمع وإخراس الصوت المعارض للتعاملات السياسية والاقتصادية معها في الوقت الذي تمحي فيه “إسرائيل” القطاع، كي لا تتورط بأي عقوبة أو بلبلة أمنية في البلاد، ومن ذلك أصدرت الجهات الأمنية الأردنية بيانًا أقرب إلى التهديد يحمل عنوان “تحت طائلة المسؤولية” لكل من يعترض أو يتضامن أو يتخذ موقفًا معاديا لقرار الدولة بحظر الإخوان المسلمين في البلاد، وحلّ أحزابهم؛ لإظهار الإخوان تضامنهم الفعلي مع القضية وعداءهم الصريح لـ”إسرائيل” في هذا الوقت المضطرب من المشهد العربي.
إرث الربيع العربي.. جرح لم يندمل
بعد أول شرارة للربيع العربي كانت أحلام الملايين قد أزهرت على فكرة التغيير الجذري في البلاد، وتحسين نوعية الحياة، لكن اليوم وبعد أكثر من عقد على الربيع العربي تحوّلت هذه الأحلام إلى كابوس يحاول العربي إلى اليوم أن يصحو منه على واقع أفضل، ووصل الأمر إلى حد الخوف من الحلم ومن الثورة ومن الاعتراض؛ لما قاسته الملايين من دمار وقتل ولجوء وفقر، فأضحى العربي اليوم يخاف أن يحلم بالتغيير.
إنّ الثورة التي بدأت كلها سلمية جماهيرية كانت تسير بالشعب المليئ بآمال الحرية والراحة نحو مجازر الكيماوي والتشرد وتفتت البلاد وصراع الميليشيات وتدخل الأيادي الكثيرة التي استغلت اضطراب البلدان التي يثور شعبها بأن نهبت خيرات البلاد من نفط وماء وأراض وعرّضت الشعوب الثائرة للقتل والهجرة والمجاعة، ووضعت قدمًا لها في الدولة على شكل معسكرات حماية دخلت في الصراع متعدد الأطراف وكثير الضحايا.
انتهزت الحكومات العربية الأخرى هذا المشهد لتُرهب الشعوب من الفوضى، وتُروّج لشعاراتها التي توضح فيها أنّ بديل الظلم هو الدمار، وأنّ الاستقرار ولو كان تحت القمع يبقى خيارًا أفضل من المجهول البشع الذي قد يأتي من الثورة. ولكن أسوأ ما نتج عن هذه الثورات هو اليأس من التغيير الذي أصاب الشعوب التي شهدت تصاعد أحداث الربيع العربي، واعتبرت من هذا الحجم الهائل من الضحايا الأحياء والأموات الذين عانوا من وجع الثورة.
طال هذا اليأس الجماعي سلوكيات الأفراد نحو حكوماتها، من عدم التصويت مثلا لفقدانهم الأمل بكل السياسيين في الحكومات، وعدم السعي لمناهضة القمع بشكل عملي ومدروس عبر حراك شعبي سلمي، وزادت نسبة طلبات اللجوء والهجرة إلى الدول الأوروبية ليس تهربًا من العيش تحت مظلة السلطات فقط، بل لأنّ المواطن الذي لا يجد كرامة العيش والاكتفاء المادي والاستقرار النفسي في بلاده أصبح يفضل الهروب على المواجهة؛ لأنّه يدرك أنّها مواجهة عبثية لن تغير شيء إلا أن تزيد من وضعه سوءًا في المعتقلات.
وبهذا فإنّ الحلم العربي تحوّل إلى رمز تحذيري للمواطنين في الدول الأخرى التي لو فكرت في أن تثور فعليها أن تراجع الذاكرة القبيحة لنتاجات الربيع العربي، وتسأل نفسها هل تستطيع أن تدفع هذا الثمن الباهظ وأن تتحمل تكاليف ثورة جديدة؟ سيكون الجواب لا محالة بالنفي، ذلك أنّ الثورة حتى تكون حاملة للأمل عليها أن تملك خطة ونهجًا مدروسًا يبدأ بالمعرفة والوعي الذي عليه أن ينتشر لسنوات طويلة من قِبل كل ذي مكانة في البلاد من مدرسين وخطباء وكل راعٍ قادر على استنهاض همة الشعب للعمل المنظم وتعريفه بالسياسة والاستراتيجيات التي يُحكم بها ويُتلاعب به من خلالها، فالثورة يجب أن تكون خلاصة رحلة طويلة من الوعي والعمل الجاد للتغيير، أمّا عن هبَّة الشارع التجمهرية الحماسية هذه فإنّها لا تقود إلا للخسارات الكثيرة، فعلى العربي اليوم أن يثور أولا على صورة الثورة الكلاسيكية التي مازلنا حتى هذه اللحظة نعيش أصداءها من أول هتاف خرج من تونس، ما حوّل كلمة ثورة في العقل الجمعي العربي إلى مرادف للكارثة، وجعلها من أقوى جروح الروح العربية.
لقد خدمت ثورات الربيع العربي الحكومات في البلدان الأخرى خدمةً ذهبية، فبدلًا من القمع المستمر لأي صرخة ثائرة، فإنّها تستخدم ركام سوريا والغابة المسلحة في ليبيا والديكتاتورية المقنّعة بالديمقراطية في تونس كأوراق ردع للثورات، ونجحت في تحويل الدروس إلى عقد نفسية جماعية لدى الشعوب التي تعتبر الظلم والقمع وتردي العيش أهون الشرور.
هل فات الأوان؟
بعد ما يقرب من العامين على حرب الإبادة في غزة فقد انطفأ كل أمل في إحداث أي تغيير أو تأثير على مجرى الأوضاع في القطاع، وذلك لسببين؛ أولهما أنّ الشعوب التي حاولت بشتى الوسائل أن تضغط على سلطاتها بمطالبات مثل إلغاء معاهدات السلام مع “إسرائيل”، أو طرد السفير الإسرائيلي، أو التوقف عن الدعم الغذائي لـ”إسرائيل” وغيرها، بكافة الأشكال المتاحة للمطالبات كانت تتعرض لقمع يلحقه صمت عظيم من قِبل الحكومات غير المكترثة للإرادة الشعبية، بل وتضع حرية ومستقبل المطالِبين على المحك، فإمّا أن تتخلى عن موقفك بالضغط على الحكومة وإمّا أن تتحمل عاقبة هذا الموقف.

في مصر تُقابل دعوات فتح معبر رفح بالاعتقالات وتُهم الخيانة، أمّا في الأردن فقد تحولت المظاهرات من ساحة عامة للمطالبات إلى مجرد تنفيس غضب شعبي مُحوَّط برجال الأمن الذين قد يعتدون بالضرب ويعتقلون كل من يهتف بما لا يرضي الجهات الأمنية، حتى محاولة الإضراب الاقتصادي في يوم واحد من الشهر من قِبل المواطنين والتجار فقد عبرت الحكومة الأردنية عن رفضها لهذه الحركة الشعبية، محمّلةً فاعلها مسؤولية ما سيقع عليه.
السبب الثاني هو تصاعد الأحداث المأساوية في غزة، فبعد قصف مستشفى المعمداني في غزة في أكتوبر 2023 شعر العرب بصدمة تتعلق بفظاعة الحرب والعدو الذي وصل به الفجر بالحرب لأن يقصف مستشفى، ولكن اعتاد بعدها العربي مشاهد قصف المستشفيات ومدارس الإيواء وخيام النازحين، حيث إنّ التكرار اليومي للجرائم يفقد الناس القدرة على الصدمة، إضافة إلى مساهمة السلطات في تحريف النظرة للقضية بتصنيف المقاومة كحركة إرهابية، وتسليع صور المعاناة بجعلها محتوى يومي مستهلك يتماشى العربي مع وجوده.
إذ إنّ الأحداث توالت وتصاعدت حتى وصلت للمجاعة ولم يتغير شيء على الرغم من ذلك، فتم بناء تصوّر مفتوح حول كل الاحتمالات المفجعة التي قد نراها بعد اليوم تأتينا من غزة، وإن لم يشتعل العالم عند قصف المستشفيات والأطفال وتجويعهم فما الذي من الممكن أن يشعلها، هذا كله أقعد العربي حتى عن النداء، فأسوأ السيناريوهات المتخيلة قد حدثت بالفعل، ما الذي سيحدث لاحقًا، هل يجب أن تحدث مجزرة مليونية في القطاع حتى تعتبر الحكومات العربية أنّ الخط الأحمر قد انتهك ما يستوجب أخذ موقف صارم لا يتعلّق بعبارات التنديد والاستنكار؟!
ولأنّ التاريخ كما نقرأه سار عبر العصور كلها في حركة دائرية يسقط فيها من وصل لذروة القمة، ويعلو من يرتطم بالقاع، نضع نحن العرب آمالنا كلها على لحظة الارتطام هذه حتى نقوم من هذه الهزيمة والذلة، ويبقى السؤال الأهم حاضرًا في أذهاننا: هل وصلنا إلى القاع اليوم، أم هناك ما هو أسوأ مما يحدث الآن سنهوي إليه قريبا؟