لم يكن مروان البرغوثي قائدًا عاديًا في مسيرة النضال الفلسطيني، ولم ينفصل يومًا عن هموم شعبه ومعاناتهم المباشرة. انخرط منذ شبابه في كل مراحل النضال، وانتقل من ساحة إلى أخرى، حتى صارت سجون الاحتلال وزنازين العزل الانفرادي ساحته الأساسية في العقدين الأخيرين، حيث سعى الاحتلال إلى تغييب حضوره والتأثير وتحطيمه كمناضل ورمز.
بلغت محاولات الانتقام الإسرائيلية، المتجاوزة لخطوط وأعراف القانون الدولي والمواثيق الإنسانية في التعامل مع الأسرى، حدَّ الاستعراض والترهيب بحق مناضلٍ يُعدّ من أبرز عناوين القيادة الفلسطينية، وقد بلغ الأمر ذروته مع بثّ مقطع فيديو واسع الانتشار يوثّق اقتحام الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير زنزانة البرغوثي، مهدِّدًا ومتوعدًا، في تعدٍّ مقصود على رمزيته وقيمته الوطنية.
ومنذ إعادة اعتقاله عام 2002 والحكم عليه بخمس مؤبّدات، تحوّل مروان البرغوثي، إلى جانب رفاقه الأسرى، إلى أيقونة وطنية عابرة للفصائل؛ فهو القائد الذي يجمع بين خلفيته في النضال الميداني ودوره السياسي داخل مؤسسات منظمة التحرير وحركة “فتح”.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن قراءة مسيرة البرغوثي بمعزل عن تداخل الميداني بالسياسي، ولا عن التحوّل الذي كرّسه الأسر الطويل في مكانته ودلالاته.
من “كوبر” انطلقت مسيرة النضال المبكر
تحظى قرية كوبر، الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله، برمزيةٍ كبيرةٍ نظرًا لـ”خزان البطولة” الذي لا ينضب من أبنائها؛ فقد قدّمت رموزًا وقياداتٍ في الحركة الوطنية الفلسطينية، منهم مَن استُشهد، ومنهم مَن اعتُقل، ومنهم مَن لا يزال في ميادين العمل الوطني يمارس دوره.
كوبر التي تبعد عن رام الله نحو 10 كيلومترات، وعن القدس المحتلة قرابة 20 كيلومترًا، تتميّز بإطلالة تُرى منها القدس والمسجد الأقصى. وعلى هذه الإطلالة، التي تُحاصرها المستوطنات وأطماع التوسّع الصهيونية، وُلد مروان البرغوثي في 6 يونيو/حزيران 1959، ونشأ على سير أبناء عمومته وأقاربه الذين التحقوا مبكرًا بركب النضال، وكان بعضهم ضمن أوائل الخلايا العسكرية في الضفة الغربية، ومن أوائل المحكومين بالمؤبّدات في سجون الاحتلال.
لم يلبث مروان طويلًا في طور الطفولة حتى غادره إلى مسار المواجهة مع الاحتلال؛ وكان سبّاقًا بين أقرانه إلى الانخراط فيه، متجاوزًا المشاركة العابرة، إذ بدت مبكرًا ملامحٌ قياديةٌ واضحة. انضمّ إلى صفوف حركة “فتح” وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتعرّض للاعتقال أول مرة عام 1976 لمدة عامين بتهمة الانتماء للحركة. ثم أُعيد اعتقاله عام 1978 وأُفرج عنه مطلع 1983، ولم يلبث خارج السجن طويلًا حتى اعتُقل مجددًا وأُطلق سراحه في العام نفسه.
أنهى البرغوثي الثانوية العامة في مدرسة الأمير حسن في بيرزيت خلال فترات اعتقاله وإبعاده عن مقاعد الدراسة بسبب مشاركته في مظاهراتٍ مناهضةٍ للاحتلال، وتمكّن في السجن من تعلّم اللغة العبرية ومبادئ في الفرنسية والإنجليزية وتعزيز ثقافته العامة.
وفي عام 1986 بدأ الاحتلال مطاردته، وكان عام 1987 من أبرز قيادات الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ وتمكّن جيش الاحتلال من اعتقاله وإبعاده إلى الأردن بقرارٍ من وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين، ضمن سياسة الإبعاد التي طالت العديد من القادة في الأراضي الفلسطينية.
التحق بجامعة بيرزيت وحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسية، ثم نال الماجستير في العلاقات الدولية، وعمل –حتى اعتقاله مجددًا في أبريل/نيسان 2002– محاضرًا في جامعة القدس/أبو ديس.
كان الحصول على درجة الدكتوراه تحدّيًا رئيسيًا له وهو قابعٌ في العزل الجماعي في سجن “هداريم”، إذ تابع أطروحته في العلوم السياسية لنيل الدرجة من “معهد البحوث والدراسات العربية” بالقاهرة، وكتب رسالته في السجن، واستغرق إيصالها سرًّا إلى خارج السجن نحو عام كامل بمساعدة محاميه عام 2010.
للبرغوثي عدّة مؤلفات، منها: “الوعد”، “مقاومة الاعتقال”، “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي”، و”الوحدة الوطنية قانون الانتصار”. كما نجح في 18 أبريل/نيسان 2017 في تسريب مقالٍ إلى صحيفة “نيويورك تايمز” بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني، تحدّث فيه عن “وحشية الممارسات الإسرائيلية” داخل السجون. إضافةً إلى نشره رسالة الدكتوراه المعنونة: “الأداء التشريعي والسياسي للمجلس التشريعي الفلسطيني ومساهمته في العملية الديمقراطية في فلسطين (1996–2006)”.

البرغوثي، المعروف بكنية «أبو القسّام»، متزوّج من المحامية فدوى البرغوثي، وهي ناشطة اجتماعية تعمل في منظمات نسوية، وقد برزت سياسيًا وإعلاميًا بعد أسره، وقادت حملات التضامن معه وتفعيل قضيته، وحملت رسالته في المحافل والمنصّات داخل فلسطين وخارجها.
ما بين العمل الطلابي والسجون
ما إن أنهى مروان البرغوثي سلسلة اعتقالاته الأولى التي بدأت عام 1976 وتواصلت بين 1978 ومطلع 1983، حتى التحق بجامعة بيرزيت، وسرعان ما انتُخب رئيسًا لمجلس الطلبة لثلاث دوراتٍ متتالية.
وكان من أبرز مؤسِّسي “حركة الشبيبة الفتحاوية” التي نشأت مطلع الثمانينيات، واتّسعت لتُصبح إحدى أكبر المنظمات الجماهيرية في الأراضي المحتلة، وقاعدةً شعبيةً منظّمة لعبت دورًا رئيسيًا في انتفاضة الحجارة (الانتفاضة الفلسطينية الأولى).
وبرغم استمرار الملاحقة الإسرائيلية، اعتُقل البرغوثي مجددًا عام 1984 وخضع لتحقيقٍ قاسٍ لأسابيع في محاولةٍ لثنيه عن مساره النضالي ودوره الجماهيري الواضح. ثم أُعيد اعتقاله في مايو/أيار 1985 لمدة خمسين يومًا، فُرضت عليه بعدها الإقامة الجبرية في العام نفسه، قبل أن يُعتقل إداريًا في أغسطس/آب.
وبرز دوره مع انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987 في تشكيل “القيادة الوطنية الموحّدة“، وسرعان ما أصبح مطاردًا من قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلى أن اعتُقل وأُبعد إلى الأردن بقرارٍ من وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين.
وجهٌ شابٌّ في قيادة “فتح”
بعد إبعاده إلى الأردن، توجّه مروان البرغوثي إلى تونس وبدأ رحلته التنظيمية-السياسية، وعمل مباشرةً إلى جانب القائد أبو جهاد (خليل الوزير)، الذي كلّفه بمتابعة شؤون تنظيم الداخل، ورافقه في آخر زيارة له إلى ليبيا قبل أن يُغتال بأيامٍ قليلةٍ عقب عودته إلى تونس.
واصل البرغوثي دوره في المنفى عضوًا في “اللجنة العليا للانتفاضة” في إطار منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، وهي لجنة ضمّت ممثلي الفصائل خارج الأراضي المحتلة. كما نشط في “اللجنة القيادية لحركة فتح/القطاع الغربي”، وتواصل عمله المباشر مع “القيادة الوطنية الموحّدة” للانتفاضة.
وفي المؤتمر العام الخامس لحركة “فتح” عام 1989، انتُخب عضوًا في “المجلس الثوري” من بين خمسين عضوًا، عبر اقتراعٍ مباشر من مؤتمر الحركة الذي بلغ عدد أعضائه نحو 1250 عضوًا. وكان حينها أصغر الأعضاء سنًّا في هذا الموقع القيادي داخل الحركة.
في أبريل/نيسان 1994 عاد البرغوثي ضمن أوّل مجموعة من المبعدين إلى الأراضي المحتلة. وبعد أسبوعين، وفي أول اجتماع لقيادة “فتح” في الضفة الغربية برئاسة الراحل فيصل الحسيني، جرى انتخابه بالإجماع نائبًا للحسيني وأمينَ سرّ الحركة في الضفة الغربية.
بعد نحو شهرٍ من اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 عقب اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى، صرّح البرغوثي: “إن سلاح حركة فتح حاضر، وستحافظ عليه حتى نيل الحرية والاستقلال”
باشر البرغوثي ورشةً تنظيميةً واسعةً لإعادة بناء “فتح” في الضفة الغربية بعد الضربات التي تلقّتها من الاحتلال وما خلّفته من تشتّتٍ وانقسام، فأُعيد ترتيب الهياكل وعُقدت مؤتمرات داخلية على مستوى الأقاليم والمناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك رغم معارضةٍ شديدةٍ من بعض دوائر اللجنة المركزية.
وعلى امتداد سنواتٍ لاحقة، أُنجز أكثر من 150 مؤتمرًا شارك فيها عشرات الآلاف من الأعضاء وانتُخبت خلالها هيئاتٌ قياديةٌ جديدة، وكان البرغوثي يرى في هذه العملية تمهيدًا ضروريًا لعقد المؤتمر العام السادس للحركة وترسيخ النهج الديمقراطي داخلها.
انتُخب عضوًا في “المجلس التشريعي الفلسطيني” عقب الانتخابات العامة عام 1996، بعدما حصد 12,716 صوتًا في دائرة رام الله والبيرة ممثّلًا لحركة “فتح”، وكان أصغر النواب سنًّا آنذاك. وفي إطار عمله البرلماني أدّى دورًا فاعلًا في لجان المجلس المختلفة، وشارك عام 1997 في “لجنة التحقيق في قضايا الفساد” المنبثقة عن المجلس. وعلى المستوى المجتمعي ظلّ قريبًا من قواعده عبر اجتماعاتٍ وندواتٍ في القرى والمخيّمات ومع الهيئات والمجالس البلدية والجمعيات.
أسهم في دعم عشرات التجمّعات بمشاريع بنى تحتية، مع اهتمامٍ خاص بالمدارس مع اهتمام خاص بمدارس الإناث. وبصفته نائبًا، شارك في عددٍ كبيرٍ من المؤتمرات البرلمانية والندوات الدولية والنشاطات السياسية في عواصم عدّة، كما ترأّس أوّل “مجموعة صداقة برلمانية فرنسية–فلسطينية”، وسعى إلى تعزيز العلاقات الفرنسية-الفلسطينية عبر برامج ونشاطات وزيارات متبادلة.
انتفاضة الأقصى والعودة إلى الاشتباك
لم يكن مروان البرغوثي منفصلًا عن الهمّ الوطني ولا عن العمل السياسي الدؤوب، ومع تعثّر مسار “أوسلو” وعدم انتقاله من المرحلة الانتقالية إلى قضايا الحلّ الدائم، بالتوازي مع استمرار الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض، تعزّزت قناعته بضرورة العودة إلى الاشتباك الشعبي والسياسي.
وبعد نحو شهرٍ من اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 عقب اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى، وبالتوازي مع موقف الرئيس ياسر عرفات الداعم للانتفاضة لعدم تنفيذ الاتفاقيات على الأرض، صرّح البرغوثي: “إن سلاح حركة فتح حاضر، وستحافظ عليه حتى نيل الحرية والاستقلال”.

وكعادته، كان لأبي القسّام حضورٌ بارزٌ في الانتفاضة الثانية؛ شارك في المظاهرات، وقدّم واجب العزاء في بيوت الشهداء، وداوم على اللقاءات الصحفية، وانتقد التنسيق الأمني، ودعا الأجهزةَ الأمنية إلى حماية الشعب الفلسطينيّ وكوادر الانتفاضة وملاحقة شبكات العملاء.
وبعد أقل من عامٍ على اندلاع الانتفاضة اتّهمت إسرائيلُ البرغوثي صراحةً بالمسؤولية عن عددٍ من العمليات المنسوبة إلى “كتائب شهداء الأقصى”، الذراع العسكرية لحركة “فتح”. وقد نجا من عدّة محاولات اغتيال، أبرزها قصفُ موكبه أمام مكتبه في رام الله يوم ٤ أغسطس/آب 2001، ما أسفر عن استشهاد مرافقه مهند أبو حلاوة.
وردًّا على المحاولة هدّد البرغوثي بتصعيد المقاومة، وبعد شهرٍ أصدرت محكمةٌ إسرائيلية مذكرةَ توقيفٍ بحقه، وطالبت السلطةَ الفلسطينيةَ بتسليمه بتُهمٍ شملت الشروع في القتل، وحيازة أسلحةٍ دون ترخيص، والانتماء إلى تنظيمٍ محظور.
وخلال اجتياح رام الله عام 2002، أرسل الاحتلال سيارةً مفخخةً استُهدِف بها البرغوثي في محاولةٍ أخرى لاغتياله باءت بالفشل، وبقي مطاردًا حتى اعتقله الاحتلالُ من رام الله يوم ١٥ أبريل/ نيسان 2002 مع ذراعه الأيمن أحمد البرغوثي.
وعقب اعتقاله، نُقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون قوله إنّه “يتأسّف لاعتقاله حيًّا، وكان يفضّل أن يكون رمادًا في جرّة”. كما قال وزيرُ الحرب حينها شاؤول موفاز إن “اعتقال البرغوثي هو هدية عيد الاستقلال التي يقدّمها الجيش للشعب الإسرائيلي، وإنه ضربة قاتلة للانتفاضة”. أما إلياكيم روبنشتاين، المستشار القانوني للحكومة، فصرّح بأنّ “البرغوثي مهندسٌ إرهابيّ من الدرجة الأولى… ويُفترض أن يُحاكَم بلا رحمة وأن يبقى في السجن حتى موته”.
السجنُ ساحةُ نضالٍ جديدة
منذ اللحظة الأولى لاعتقاله، خضع أبو القسّام لظروفٍ قاسية؛ إذ استمرّت التحقيقات وجلساتُ المحاكمة أشهرًا عدّة، إلى أن صدر الحكم عليه بعد عامين من اعتقاله بالسجنِ خمسِ مؤبّداتٍ وأربعين عامًا، بتهمةِ التسبّب في مقتل خمسة إسرائيليين، والمشاركةِ في أربعِ عملياتٍ أخرى، والانتماءِ إلى “تنظيمٍ إرهابي”.
واتّهمت سلطاتُ الاحتلالِ مروانَ البرغوثي بأنّه كان ضابطَ الاتصال بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقيادات المجموعات المسلّحة في “فتح”، وبأنّه المسؤولُ المباشر -مع مرافِقه الشخصي أحمد البرغوثي– عن توفير السلاح والتمويل والمأوى وإصدار الأوامر لتنفيذ العمليات العسكرية.
موت معلَّق خلف القضبان: قادة الأسرى في قبضة الانتقام الإسرائيلي
وبرغم ما أظهرته وثائقُ صادَرَها الاحتلالُ من مقارّ السلطة من أنّ البرغوثي لا صلةَ مباشرة له بالعملياتِ الميدانية، وأنّ دوره كان تنظيميًا على بعض مجموعات “الكتائب” وحلقةَ وصلٍ بينها وبين عرفات -مُساهِمًا في تمرير طلباتِ الدعم المالي أو العسكري إلى مكتب الرئيس- أصرّت سلطاتُ الاحتلال على تحميله المسؤولية المباشرة عن عمليات “كتائب شهداء الأقصى”.
وفي 20 أيار/مايو 2004، عقدت المحكمةُ المركزيةُ في تل أبيب جلسةً لإدانته؛ إذ أدانته بخمس تُهَم على أساس “المسؤولية العامة” بصفته أمينَ سرّ “فتح” في الضفّة الغربية، وبالنظر إلى تبعيّة “كتائب شهداء الأقصى” للحركة، اعتبرت المحكمة أنّ أيَّ عملٍ عسكريٍّ نفّذته تتحمّل قيادتُها -ومنها البرغوثي- مسؤوليته. وطالب الادّعاءُ العام بإنزال أقصى العقوبة: خمس مؤبّداتٍ وأربعون عامًا.
وعُقدت الجلسةُ الختاميةُ في 6 يونيو/ حزيران 2004 في المحكمةِ نفسها، حيث أُعلِن الحكمُ بالسجن خمسَ مؤبّداتٍ وأربعين عامًا، وهي العقوبةُ القصوى التي طلبها الادّعاء. وقد قال البرغوثي مخاطبًا القضاة: “إنّكم بإصدار هذا الحكم غيرِ القانوني ترتكبون جريمةَ حرب، تمامًا مثل طيّاري الجيشِ الإسرائيلي الذين يُلقون القنابلَ على المواطنينَ الفلسطينيين امتثالًا لقرارات الاحتلال”. وأضاف: “إذا كان ثمنُ حريةِ شعبي فقدانَ حريّتي، فأنا مستعدٌّ لدفع هذا الثمن”.
وفي سبتمبر/أيلول 2024، تعرّض في سجن “مجدو” لاعتداءٍ وحشيٍّ من السجّانين، ما أدّى إلى إصاباتٍ خطِرة. ووفقًا لهيئة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينية، بلغ مجموعُ السنوات التي قضاها في سجون الاحتلال 28 سنة.
«مانديلا فلسطين»: من السجن إلى الرئاسة
على الرغم من اعتقال مروان البرغوثي والحكم عليه، ظلّ حاضرًا بقوة في المشهد الفلسطيني من وراء القضبان، فقد صاغ عام 2003 مبادرة لوقفٍ متبادل للأعمال العسكرية لثلاثة أشهر مقابل وقف الاغتيالات والاقتحامات الإسرائيلية، وكانت تلك الخطوة بدايةً لحضورٍ سياسي متواصلٍ له من داخل السجن.
وخلال سنوات اعتقاله، ساهم في إنجاح “اتفاق القاهرة” بين الفصائل، الذي أفضى إلى مشاركةٍ واسعة في انتخابات الهيئات المحلية والانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وإلى التوافق على تفعيل منظمة التحرير وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي. وقد ترأّس البرغوثي القائمة الموحّدة لـ”فتح” في تلك الانتخابات.
كما واظب على الدعوة إلى إصلاح “فتح” وتعميق ديمقراطيتها ونبذ الإقصاء والتغييب، دافعًا نحو عقد المؤتمرات الحركية لانتخاب قيادات جديدة وإقصاء رموز الفساد. وفي عام 2009 فاز بعضوية اللجنة المركزية للحركة في مؤتمرها السادس، لكنه أُقصي من تولّي منصب نائب رئيس الحركة في المؤتمر السابع عام 2016، رغم حصوله على نحو 70% من أصوات الأعضاء -وهو ما فاقم التوتّر بينه وبين قيادة السلطة؛ وقد وصفت زوجته، فدوى البرغوثي، القرار بأنه خضوعٌ لضغوط إسرائيلية.
وفي منتصف يناير/كانون الثاني 2021، أعلن البرغوثي ترشّحه لرئاسة السلطة الفلسطينية بعد إصدار الرئيس محمود عباس مرسومًا بتحديد مواعيد الانتخابات، في خطوة فُهمت بوصفها تحديًا لنيّة عباس الترشّح. يُعدّ البرغوثي من أكثر الشخصيات الفلسطينية شعبيةً، وتشير استطلاعات الرأي بصورةٍ متكررة إلى تمتّعه بفرصٍ قويةٍ كمرشّحٍ محتملٍ للرئاسة، رغم بقائه في سجون الاحتلال.
ومع كل عودةٍ للحديث الجِدّي عن صفقة تبادلٍ للأسرى، يتصدّر اسمُ البرغوثي القوائم بوصفه من “ذوي الوزن الثقيل” وفق توصيف الجهات الأمنية الإسرائيلية، ويتميّز عن غيره بموقعه القياديّ المركزي داخل “فتح” وبقربه من مختلف فصائل المقاومة، ما يجعله عنوانًا ممكنًا لإجماعٍ فلسطينيّ قادرٍ على كسر احتكار القرار الرسمي الذي تهيمن عليه قيادة الرئيس محمود عباس وفريقه المقرّب الذي زاد خلال الأشهر الأخيرة من خطواتٍ لإعادة قولبة السيطرة على مفاصل صناعة القرار، من بينها تعيين نائبٍ للرئيس من دون توافقٍ وطني، والسعيُ لانتخاباتٍ “مُهندسة” للمجلس الوطني الفلسطيني.
View this post on Instagram
وفي هذا السياق، نقل موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، استنادًا إلى مصادر لم يُكشف عنها، أنّ مسؤولين كبارًا في السلطة طلبوا عدم الإفراج عن البرغوثي ضمن أي صفقة تبادل؛ وذكر الموقع اسمَي ماجد فرج وحسين الشيخ. غير أنّ “فتح” نفت صحّة تلك التقارير، مؤكّدةً دعمها للإفراج عن الأسرى.
ومن زاويةٍ رمزيةٍ وسياسيةٍ متداخلة، جاءت الزيارة الاستعراضية والترهيبية التي قام بها وزير “الصهيونية الدينية” إيتمار بن غفير إلى زنزانة البرغوثي؛ إذ تُجسّد توجّهًا مقصودًا للاعتداء على أيقونات النضال الفلسطيني، وتكشف في الوقت نفسه إدراك المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية لمكانة البرغوثي واحتمالات تقدّمه إلى موقع القيادة. وقد ظهر في المقطع المصوّر وهو منهكٌ في زنزانة العزل، وسط تهديداتٍ أطلقها بن غفير دون أن يُسمح بعرض ردّ البرغوثي.
ورغم الإنهاك الشديد الذي بدا على ملامحه حتى إنّ عائلته كادت لا تتعرّف إليه، فإنّ البرغوثي ليس من طينة المناضلين الذين تهزّهم الإجراءات القمعية؛ بل تزيدهم قناعةً بصوابية الطريق، وهو ما عبّر عنه في جميع المراحل التي تعرّض فيها للاستهداف طوال عقود.
وإن ما يخشاه كلُّ من استثمر في الانقسام وتشتيت المؤسّسات الفلسطينية، أن يستعيد المشهد حيويّته بانخراط صفٍ قياديّ صقلته التجربة وعظّمته التضحيات، خبرته الجماهير في الملمات ولم يتراجع. ولذلك يبقى خروج البرغوثي ورفاقه من السجون، بما يحملونه من رصيدٍ نضاليّ وشرعيةٍ شعبية، كابوسًا يقُضّ مضاجع كثيرين—وفي مقدّمتهم المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية، لكنه ليس آخرهم.