تُعدّ العشائر البدوية جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي في محافظة السويداء وريفها، وامتدت جذورها لقرون قبل تشكّل الدولة السورية، محافظةً على نمط حياتها شبه المستقر أو المتنقل، ما منحها خصوصية ثقافية واجتماعية في محيط جبل العرب.
شكّلت هذه العشائر امتداداً بشرياً وجغرافياً مع المحافظات السورية والبلدان المجاورة، ولعبت دوراً محورياً في حفظ التوازنات الاجتماعية، إذ تميزت العلاقات تاريخياً بالتعاون في مواجهة المخاطر وتعزيز التبادل الاقتصادي.
وفي ظل التحولات السياسية والأمنية، برزت العشائر كفاعل رئيسي في التصدي لمحاولات الهيمنة الداخلية والخارجية، وتعود اليوم إلى الواجهة وسط صراع تتقاطع فيه الأطماع الإقليمية مع محاولات فرض أمر واقع يهدد توازن السويداء.
الوجود العشائري في السويداء
تسكن العشائر البدوية أطراف السويداء وبعض أحيائها، وتتميز بنمط حياة متنقل أو شبه مستقر. ومن أبرز القبائل “المساعيد” التي سبقت هجرة الدروز إلى الجبل، واعتمدت على الرعي وتربية الماشية، حسبما ذكر الباحث التاريخي المختص في أصول القبائل والعشائر العربية في بلاد الشام تركي المصطفى لـ”نون بوست”.
كما تنحدر عشائر “الحسن” و”الشنابلة” من قبيلة زبيد، وتنتمي قبائل “الشرفات” و”العظامات” إلى أصول من شرق الأردن متحالفة مع “المساعيد”. وتشمل الخارطة أيضاً “السردية” المنتمية لتنوخ، إضافةً إلى “البقارة” و”العنزة” و”المحاميد” و”القطيفان”، متركزةً في الريف الجنوبي الشرقي.
ترتبط عشائر السويداء بروابط قرابة ومصاهرة مع عشائر في ريف دمشق ودرعا وحمص ودير الزور، وتتحرك كجسم متماسك عند تعرض أحد فروعها للتهديد، فيظهر تضامن واسع من باقي المحافظات.
إنّ جذور الخلاف بين الدروز والبدو تعود إلى التنافس على حقوق الرعي والزراعة قبل تشكّل الدولة السورية، وكانت العادات العشائرية آنذاك الوسيلة الأساسية لحل النزاعات
ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي صالح العبد الله المختص بالنزاع العربي الإسرائيلي أن العشائر السورية تتميز عموماً بثقافة تضامنية عالية، تنبع من تقاليدها في نصرة المظلوم، ما يجعل من أي استهداف لها في منطقة ما شأناً وطنياً بامتياز يتردد صداه في سائر الجغرافيا السورية، منوهاً إلى أنّ حضور العشائر يتجاوز البعد المحلي الضيق، ليصبح ركيزة من ركائز وحدة البلاد وتماسكها، في وقت تسعى فيه بعض القوى الخارجية إلى تفكيك هذا الامتداد وتحويله إلى كانتونات معزولة متناحرة.
وفسّر المحلل السياسي تحرك العشائر لدعم نظيراتها في الجنوب السوري بأنه رسالة واضحة بأن الهوية الوطنية لا يمكن فصلها عن الامتداد العشائري، وأن أي مشروع لتقسيم البلاد سيُواجَه بوحدة الأرض والعائلة والانتماء المشترك.
الحراك العشائري
يقرّ مبدأ الدفاع المشروع بحق الأفراد والجماعات في حماية أنفسهم وممتلكاتهم، خاصة مع تعرض العشائر لانتهاكات من جماعات مسلحة خارجة عن القانون شملت القتل والتهجير القسري.
وفي ظل ضغوط دولية قلّصت قدرة الحكومة على الانتشار الأمني في السويداء، أصبح الدفاع الذاتي خياراً اضطرارياً، مع التأكيد على أنه لا يعكس رغبة في التصعيد، تبعًا للمحلل السياسي صالح العبد الله.
وحول الخلاف بين العشائر وطائفة الموحدون الدروز، قال المصطفى إنّ جذور الخلاف بين الدروز والبدو تعود إلى التنافس على حقوق الرعي والزراعة قبل تشكّل الدولة السورية، وكانت العادات العشائرية آنذاك الوسيلة الأساسية لحل النزاعات. وقد غذّى نظاما الأسد الأب والابن هذه الصراعات.
لكن التاريخ يشهد أيضاً على تحالفات الطرفين في مواجهة الحملات العسكرية والاحتلال الفرنسي. ويقترح الباحث العودة لآليات الصلح التقليدية، وتشكيل لجان مصالحة، ونزع السلاح غير الشرعي، ودمج الفصائل المحلية بالجيش السوري، وإشهار ميثاق وطني يرفض الوصاية الخارجية.
مخططات خارجية
يعتبر الباحث التاريخي المتخصص بأصول العشائر والقبائل في بلاد الشام تركي المصطفى أن استهداف العشائر يأتي ضمن مخطط لفصل السويداء عن سوريا وخلق عدم استقرار يخدم الاحتلال الإسرائيلي، عبر دعم مجموعات خارجة عن القانون لتنفيذ عمليات تطهير عرقي ونهب ممتلكات المدنيين.
ويحذر المصطفى من أن منع الجيش من الانتشار الكامل في المحافظة يفاقم إراقة الدماء ويعقّد المشهد، فيما تلتزم الحكومة بضبط النفس مع الحزم في مواجهة تهديدات السلم الأهلي.
ويدعم المحلل السياسي صالح العبد الله فرضية المصطفى، مشيراً إلى أنّ الدولة السورية تدرك حساسية المشهد في السويداء، وتبني قراراتها على أسس وطنية آخذة بعين الاعتبار أن خيار سوريا الموحدة يحتاج إلى ضبط النفس في بعض القضايا، والحزم في أخرى، كتهديد السلم الأهلي وتنامي الخطر الموّجه ضد فئة من السوريين.
وأكّد العبد الله في حديثه لـ”نون بوست” أنّ وقوف الحكومة السورية على مسافة واحدة من كافة أطياف الشعب السوري وعدم انحيازها لمكوّن على حساب آخر وتعهدها بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات أياً كانوا، عزز الثقة الدولية والمحلية بها، ودفع بدول غربية وإقليمية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف تدخله بالشأن السوري.
وتابع العبد الله، يمكن قراءة المصلحة الإسرائيلية من خلال منع نهوض دولة سورية قوية تهدد الوجود الإسرائيلي، خاصة بعد أن أثبت الشعب السوري عناده في تحصيل حقوقه ولفترة طويلة بمواجهة ثاني أكبر قوة في العالم متمثلة بروسيا، بالتالي الخوف من الدولة السورية المتماسكة والتي تستطيع ان تحول شعبها بالكامل لجيش عقائدي في غضون ساعات وربما أقل وهذا ما رأيناه خلال تحركات فلول النظام البائد، إذ تحول الشعب إلى جيش وسار بأرتال عسكرية باتجاه خطوط المواجهة، في حين تدفع “إسرائيل” الأموال والمغريات لتشكيل جيشها، فالانتماء لجيش الدولة السورية سلاح فتاك بمواجهة أي قوة معتدية مهما كان تسليحها.
وفقاً للمحلل عبد الله أيضًا، تسعى” إسرائيل” لفرض هيبتها على الدولة السورية، وزعزعة الاستقرار جنوب البلاد، عبر مشروع تغيير ديمغرافي يهدف لطرد البدو وتحويل المنطقة إلى خط دفاع موالٍ لها. وتستند منهجيتها إلى سياسات تهجير سابقة في فلسطين، وتوظيف أطراف محلية لزعزعة الأمن وإفشال الاتفاقات مع الدولة.
مشروعية الدفاع عن النفس والانفصال
يرى الدكتور في القانون الدولي خالد المصطفى أن للعشائر حقاً طبيعياً وأخلاقياً في الدفاع عن النفس ضمن شروط القانون، لكن دون تشكيل قوى مسلحة دائمة.
ويؤكد أن إعلان الحكم الذاتي من طرف واحد يعدّ تمردًا على الدستور، وأن تهجير العوائل على أساس الهوية جريمة ضد الإنسانية، داعياً إلى توثيق الانتهاكات وإدانتها بوضوح.
مهجرو البدو من السويداء يروون الفظائع التي حلّت بهم على يد ميليشيات حكمت الهجري خلال الأيام الماضية#سوريا_الان #السويداء pic.twitter.com/05nLUaRtnR
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 21, 2025
وفيما يخص مسألة “الدفاع الجماعي” الذي قد تلجأ إليه بعض العشائر، قال المصطفى إنّه أمر جائز فقط في الحالات الطارئة، شريطة أن يكون دفاعاً مشروعاً ومؤقتاً، لا يترتب عليه نشوء مشروعية دائمة لاستخدام السلاح أو تشكيل كيانات مسلّحة مستقلة، مؤكداً أن “القانون يضمن الحماية لكنه لا يجيز حمل السلاح خارج سلطة الدولة أو إنشاء أي هيكل أمني بديل”.
وشدد الدكتور خالد المصطفى على عدم جواز إعلان أي جماعة عرقية أو مذهبية حكماً ذاتياً من طرف واحد داخل دولة ذات سيادة، مؤكداً أنّ الدستور السوري لا يعترف بأي صيغة للحكم الذاتي خارج إطار الإدارة المحلية، وأنّ أي محاولة من هذا النوع تُعدّ تمردًا على الدستور وتحدياً للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومحظورة قانونياً وفق مبادئ القانون الدولي.
ودعا المصطفى المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان إلى توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون في السويداء، وخاصة حالات الطرد الجماعي أو التهديد بالترحيل والحرق، مؤكداً أنّ هذه الأفعال تمثل انتهاكاً صارخاً للقوانين الوطنية والدولية، وخاتماً بالإشارة إلى أنّ إجراءات الحكومة الأخيرة جاءت رداً على تهديدات خطيرة لسيادة الدولة، فيما يرتقي ما يقوم به حكمت الهجري، بحسب وصفه، إلى الخيانة العظمى وفق قانون العقوبات السوري.
وتكشف معطيات المشهد في السويداء أن التداخل بين التاريخ الاجتماعي للعشائر ومصالح القوى الإقليمية والدولية جعل المحافظة ساحة صراع على الهوية والسيادة، حيث تتقاطع محاولات إعادة صياغة التركيبة السكانية مع أجندات خارجية تستهدف وحدة البلاد.
ويظل الرهان الأساسي على قدرة الدولة في استعادة المبادرة، وضمان تطبيق القانون على الجميع، وتحييد العوامل الداخلية عن الاستثمار الخارجي، بما يحافظ على النسيج الاجتماعي ويغلق الباب أمام مشاريع التقسيم والفوضى.