منذ أيام معدودة، انتشر مقطع فيديو للشاب المصري علي حسين مهدي، وهو في مصر، حيث شكر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والأجهزة الأمنية معبرًا عن مراجعاته حيال ما كان يتبناه من قيم وآراء ونظرته للولايات المتحدة الأميركية والغرب والحريات وحقوق الإنسان وأن النظام المصري أعفى عنه ووقف بجانبه. أثار هذا الفيديو الجدل، فقد عُرف عن حسين لسنوات معارضته للنظام المصري، حيث كان دائم الظهور لانتقاد النظام المصري، وبأشدّ العبارات والأوصاف التي وصلت إلى التحريض على النظام ومقاومته بالعنف.
ما فعله حسين يلفت النظر إلى مسألة هي أكبر من حسين ذاته، ففي السنوات الأخيرة عاد بعض المعارضين إلى مصر، وأعلنوا توبتهم وتأييدهم للنظام المصري وسياساته ورئيسه أو صمتوا تمامًا، فكيف يحدث هذا؟ وما أثر القامع العابر للحدود على عودة هؤلاء؟ وما هي استراتيجيات النظام في التعامل معهم بعد عودتهم؟
من بعد يوليو عام 2013، وصعود سُلطوية السيسي، خرج، تدريجيا مع السنوات، عشرات الآلاف من المصريين المعارضين للنظام المصري، خوفا من قمعهم بأي شكل من الأشكال، بداية من الفصل الوظيفي مرورا بالسجن والاختفاء والتعذيب ووصولا إلى القتل. هكذا تكوّن المنفى المصري، إذ أصبح عشرات الآلاف من المواطنين خارج البلاد ولا يستطيعون العودة، ومنهم، من قرر إعلان معارضته لسياسات النظام المصري عبر الحديث من خلال منصات التواصل الاجتماعي أو قنوات تلفزيونية.
وجوه شبابية كثيرة برزت من خلال بث فيديوهات تتحدث عن معارضتها للنظام ورئيسه عبد الفتاح السيسي، مثل بهجت صابر وأنس حبيب وعلي حسين مهدي وعبد الله الشريف وغيرهم من وجوه مستقلة أو محسوبة على تيارات فكرية وتنظيمية محددة. ومع مرور السنوات، تجد بعض من هذه الوجوه، ومع تباين الكواليس، ظهرت فجأة من داخل مصر، وهى تتحدث عن النظام المصري بإيجابية وتدعو المعارضين في الخارج للرجوع إلى الوطن، وعدم سماعهم لجماعات إرهابية أو مخربة أو غير وطنية تضحك عليهم بسردياتِها.
عودة آمنة شكلّيًا
لم تكن هذه العودة في مجملّها هي عودة طوعية أو قسرية، بل كانت في بعضها عودة منظمة، ففي سبتمبر من عام 2020، دعا رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد السادات، تحت مبادرة “عودة آمنة” في ظل تفعيل الحوار الوطني برعاية الرئاسة المصرية وأجهزة الأمن، المعارضين في الخارج للتواصل مع “جمعية السادات للتنمية والرعاية الاجتماعية، من أجل إرسال بياناتهم، ومن ثم تتم معالجة هذه البيانات مع أجهزة الأمن المصري، ومن ثم يُبلَّغ الشخص الذي يريد العودة بقرار الأمن، سواء أكان قرارا مرحبًا بعودته أو رفض هذه العودة. من بعد إطلاق هذه المبادرة حتى وقتنا الحالي، تتم هذه العملية بين المعارضين وبين الأمن المصري بواسطة السادات، ودائما ما بُلّغ أشخاص كثيرون أن الأمن غير مُرحب بعودتهم إلى مصر مرة أخرى.
الأجهزة الأمنية كلفت أ.محمد أنور السادات بطرح مبادرة “عودة آمنة للمصريين بالخارج” ، المبادرة تكشف مدى سطحية وعبثية الفكر السياسي للأجهزة المصرية حاليا ، تدعو آلاف المعارضين في الخارج لعودة “آمنة” وهي تعتقل عشرات الآلاف أمثالهم في سجونها أو قبورها بتعبير أدق وتتخذهم رهائن للتفاوض
— جمال سلطان (@GamalSultan1) September 17, 2022
بعد مبادرة السادات بأشهر قليلة، ظهر السياسي المصري ممدوح حمزة في مطار القاهرة، معلنا عودته إلى مصر بعدما رفعت محكمة الجنايات اسمه من قوائم “ترقب الوصول”، وقد قال أنه استقبل في المطار من رجال أمن، بلطافة وحفاوة، وقال له أحد الرُتب الأمنية العليا إن مصر “ترحب بأبنائها المخلصين”. من بعد ذلك، عمل ممدوح حمزة، عبر شركاته، في تنفيذ مشاريع هندسية بالعاصمة الإدارية الجديدة، كذلك بدأت أسماء سياسية ومعارضة للرجوع إلى مصر.
هناك أيضا عودة قسرية، من خلال ضغط النظام المصري على المعارضين في الخارج، سواء بالتنسيق مع حكومات الدول المقيمين فيها حتى تقوم بترحيلهم، كما حدث في حالات عدة، منها حالة علي حسين مهدي، حيث رجّحت منظمات حقوقية ترحيله من الولايات المتحدة الأميركية إلى مصر، قسرًا، بعد استجابة الولايات المتحدة لطلب الحكومة المصرية، ليختفي بعد ذلك أشهر طويلة في أقبية مقرات الأمن الوطني.
كذلك، هناك عودة جبرية غير آمنة، من خلال الضغط على المعارضين باعتقال ذويهم في مصر، مثلما حدث مع الناشط السياسي وائل غنيم، ففي مارس 2019، كان غنيم دائم الظهور في مقاطع مصورة على فيس بوك ينتقد بل ويسبّ فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وسياسات سُلطته الأمنية والاقتصادية، فقامت قوات الأمن باعتقال شقيقه حازم للضغط عليه لتوقفه عن انتقاد النظام.
وفي عام 2022، عاد وائل غنيم مرة أخرى إلى مصر، في ما بعد، اختفى تماما عن الأنظار، رُجّح أيضا أنه كان محتجزا في مقرات الأمن، لكنه نفى بعد ذلك تعرّضه للاعتقال، ثم غادر مصر مرة أخرى. كما من حين إلى آخر، يخرج غنيم كي يتحدث في أمور كثيرة، في السياسة والدين والتنمية البشرية وتجاربه الذاتية وأشياء أُخرى.
العقلية الأمنية مع العائدين
سواء رجع هؤلاء الناشطون والمعارضون إلى مصر، بشكل طوعي، أي باتفاق مُسبق ومنسق كما في مبادرة السادات، أو بشكل قسري، يتعامل معهم الأمن المصري بعقلية السيد الذي سيتحكم في نمط حياة العائد، والمطيع، طالما رجع إلى مصر، بمعنى، إن كان الرجوع بشكل قسري، مثلما حدث مع علي حسين مهدي أو وائل غنيم، فيتم اعتقالهم واخفائهم قسريا دون أي اتهامات واضحة أو معرفة أماكن اعتقالهم أو حتى تهديدهم وتخويفهم بالسجن لهم ولذويهم. من بعدها، يخرج هؤلاء الناشطون ليعلنوا عن تأييدهم التام لسياسات النظام المصري، ومراجعتهم عن آرائهم وتوبتهم فيما كانوا يعتقدونه أو يصمتون ويختفون تماما عن الأنظار.
حتى إن لم يتم اعتقال أو إخفاء أو تعذيب العائدين، فإن خروجهم على الفضاءات للكتابة أو الحديث عن الشأن العام بكل حرية، وانتقادهم للسلطة في كافة السياسات الداخلية والخارجية غير مسموح به، وإلَّا سوف يكونون عرضةً للتنكيل الذي هربوا منه قبل ذلك، فعودة الناشطين والسياسيين، هي عودة بلا أي فعالية سياسية أو حقوقية حقيقة، فإما الصمت وعدم التعليق وإبداء الآراء فيما يحدث من سياسات أو تبني وترديد آراء السُلطة، أو أو تبني آراء قريبة من السلطة ولا تعارضها بشكل مباشر.
لا تكتفِ السُلطوية في مصر، بقمع المواطنين داخل الحدود فحسب، بل نجحت السُلطوية في أن يكون قمعها عابرا للحدود من خلال استراتيجيات متبانية ومتداخلة مثل اعتقال ذويهم
لا تقبل السُلطوية السياسية بأي آراء أو نصائح تخالف توجهاتها في العمل بكافة المجالات، بل هي تُريد أبواق إعلامية وصحافية وسياسية وحقوقية يتحدثون وفقا للتعليمات الأمنية والعسكرية، أو حتى يتحدثون من أنفسهم دون الخروج عن رؤية السُلطة ومسارها.ومن يحاول الخروج، يكون مصيره القمع.
هذه عقلية السُلطوية مع من تسمح لهم بالعودة إلى مصر. لذا، هي ترفض عودة أسماء محددة، قد قيل لها، بشكل واضح ومباشر، أنها غير مرحب بها في مصر مرة أخرى، فهم من الأساس لا يتفاوضون معهم، بل هم بالنسبة للعقلية الأمنية قد تعدوا الخط الأحمر، ووجودهم في مصر، مرهون بالتنكيل فحسب، ولا مكان لهم في الحياة العامة سواء كانوا مؤيدين للسلطة أو صامتين ولا يتحدثون في السياسة.
لا تكتفِ السُلطوية في مصر، بقمع المواطنين داخل الحدود فحسب، بل نجحت السُلطوية في أن يكون قمعها عابرا للحدود من خلال ترقب كل أسماء المعارضين السياسيين في الخارج، وتعمل على قمعِهم من خلال استراتيجيات متبانية ومتداخلة، مثل اعتقال ذويهم، كما يحدث دائما مع اليوتيوبر عبد الله الشريف باعتقال أقاربه، أو حتى تعطيل أوراق المعارضين الرسمية ورفض تجديد جوازات سفرهم، بل ومطالبة حكومات هذه البلاد أن ترّحلهم قسريا إلى مصر، كما حدث في بعض البلدان التي أصبحت على مقربة وتنسيق أمني وسياسي مع النظام المصري.