تعيش أوروبا لحظة فارقة في تاريخها الأمني والعسكري. فبعد عقودٍ من الرهان على “السلام الدائم” داخل القارة والاعتماد على المظلّة الأمريكية، تعود اليوم إلى سباق تسلّح واسع النطاق. فمصانع الذخيرة والطائرات المسيّرة والصواريخ تُشيَّد بوتيرة غير مسبوقة، وخطوط الإنتاج تتكاثر في مختلف الدول الأوروبية، إذ لم تعد القارة العجوز ترى نفسها في مأمن من الحروب.
هذا التحول لا يقتصر على الأرقام أو البنية التحتية، بل يعكس قلقًا عميقًا من تبدّل موازين القوى عالميًا، وتصاعد التوتر مع روسيا، وتراجع الثقة في الضمانات الدفاعية القادمة من وراء الأطلسي. حيث يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرًا إلى إعادة تعريف أولوياته من التكامل الاقتصادي إلى الاستثمار المكثّف في السلاح والردع العسكري.
في هذا التقرير الشارح، نستعرض أبعاد هذه الطفرة عبر ثلاثة محاور: تضاعف مصانع السلاح الأوروبية، طبيعة استعداد القارة للحرب المقبلة، والأسباب التي دفعتها إلى هذا المسار المتسارع.
مصانع الأسلحة تتضاعف
تشير بيانات تحليلية نشرتها مجلة “فاينانشيال تايمز” بالاعتماد على صور الأقمار الصناعية، إلى طفرة غير مسبوقة في حجم منشآت إنتاج السلاح في أوروبا. فقد تجاوزت مساحات المصانع الجديدة سبعة ملايين متر مربع خلال العامين الماضيين، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف معدل التوسع الاعتيادي في فترات السلم، ويمثل هذا التغيير انتقالًا من نمط التصنيع المحدود إلى قاعدة إنتاج حربية مستدامة.
يرتبط هذا التحول ببرامج دعم حكومية أوروبية، أبرزها مبادرة “ASAP” التي خصصت نصف مليار يورو لتسريع إنتاج الذخائر ومعالجة الاختناقات في سلاسل التوريد. وشركات كبرى مثل “راينميتال” التي تقود المشهد؛ إذ تخطط لرفع إنتاج قذائف المدفعية من 70 ألفًا عام 2022 إلى أكثر من مليون بحلول 2027، في خطوة تعكس الاستعداد لسيناريوهات صراع طويل الأمد.
وعلى الأرض، توسعت مصانع في ألمانيا والمملكة المتحدة والنرويج والمجر لتشمل إنتاج الصواريخ والطائرات المسيّرة والذخائر الثقيلة. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، المشروع المشترك بين راينميتال الألمانية وN7 Holding المجرية، الذي دشّن مصنعًا ضخمًا للذخائر والمتفجرات في يوليو/تموز 2024، مع خطط لإنتاج ذخائر الدبابات والمدفعية بجانب مصنع خاص بالمتفجرات.
يرى خبراء مثل ويليام ألبركي من منتدى آسيا والمحيط الهادئ أن هذه التغيرات “بنيوية وعميقة”، وستعيد تشكيل صناعة الدفاع الأوروبية على المدى المتوسط والبعيد، حيث سيؤدي هذا الإنتاج الضخم إلى خفض تكاليف الصواريخ وتبسيط تصنيعها.
من جهته، قال وزير خارجية لاتفيا لصحيفة “فاينانشيال تايمز” بأن هذا التوسع “تطور إيجابي وضروري للغاية”. مضيفًا أنه “من الضروري” أن تكون صناعة الدفاع مستعدة لتلبية احتياجات الإنفاق المتزايد لحلف الناتو واستخدام أموال دافعي الضرائب “بفعالية”.
كيف تستعد أوروبا للحرب؟
شهدت ميزانيات الدفاع الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية قفزة غير مسبوقة، تعكس حجم التحول في مقاربة القارة لقضايا الأمن. فقد ارتفع الإنفاق العسكري لدول الاتحاد الأوروبي بأكثر من 30% بين عامي 2021 و2024، ليصل إلى نحو 326 مليار يورو، وهو ما يعادل قرابة 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد.
كما تبنّى الحلف في قمة لاهاي عام 2025 هدفًا أكثر طموحًا برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035، على أن تُخصَّص 3.5% للنفقات العسكرية المباشرة، و1.5% للاستثمارات المرتبطة بالبنية التحتية والأمن السيبراني واللوجستي. ورغم أن هذا الهدف لا يحمل صفة الإلزام، فقد أجمعت عليه معظم العواصم الأوروبية باستثناء إسبانيا، باعتباره تعبيرًا عن “الحد الأدنى المقبول للجهوزية في بيئة أمنية متقلبة”، كما ورد في بيان القمة.
ترافقت هذه الزيادة مع توسّع كبير في الاستثمارات الدفاعية، إذ بلغ الإنفاق على التجهيزات والمشتريات العسكرية أكثر من 100 مليار يورو خلال العام نفسه. بالإضافة لزيادة نسبة الدول الأعضاء التي تخصص 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وهو الشرط الذي طالما ضغطت واشنطن لتحقيقه. ومع هذه الزيادات، تدفقت الاستثمارات إلى مصانع الذخيرة والصواريخ، لتتحول الضغوط الأمريكية إلى فرصة ذهبية لشركات الصناعات الدفاعية الأوروبية.
شركات مثل راينميتال الألمانية و MBDA الفرنسية–البريطانية وسافران الفرنسية باتت في صدارة هذا التحول، إذ توسعت خطوط إنتاجها وارتفعت قيم أسهمها بشكل لافت في الأسواق. كما أطلقت المفوضية الأوروبية مبادرات لدعم هذا التوجه، عبر تخصيص صناديق تمويل مشتركة لتسريع الإنتاج الدفاعي وتقليل الفجوات مع الولايات المتحدة.
ما الأسباب التي تدفع القارة نحو التسلح؟
لا يمكن فهم الطفرة الدفاعية الأوروبية الحالية من دون التوقف عند الدور الحاسم للولايات المتحدة، وتحديدًا فترة إدارة دونالد ترامب. حيث لم تتردد إدارة ترامب في انتقاد الدول الأوروبية بوصفها “مستفيدة مجانًا” من المظلّة الدفاعية لحلف الناتو، ملوّحة مرارًا باحتمال تقليص أو حتى سحب الالتزام الأميركي العسكري من القارة.
هذه الرسائل الأميركية، التي بدت في بدايتها تصعيدًا خطابيًا، أثمرت فعليًا في تحريك أوروبا باتجاه مراجعة جذرية لأمنها الجماعي. فقد بات واضحًا أن الاعتماد غير المشروط على الحماية الأميركية لم يعد ضمانة كافية.
لكن التسلح الأوروبي لا يُفهم فقط من زاوية “الاستقلال الاستراتيجي”، بل أيضًا كاستجابة لضغوط متعددة الاتجاهات:
- الخطر الروسي المتواصل: ليس فقط عبر أوكرانيا، بل من خلال تحركات عسكرية واستخبارية على أطراف البلطيق وبحر الشمال.
- عودة الجغرافيا العسكرية إلى الواجهة: الحدود، الممرات البحرية، والفضاء السيبراني أصبحت ساحات صراع علنية.
- التحولات التكنولوجية في أنماط الحروب: الصواريخ فرط الصوتية، الطائرات المسيّرة، وأنظمة الحرب السيبرانية تتطلب إعادة هيكلة شاملة في الترسانة الأوروبية، لا تملك القارة حاليًا القدرة الكافية لتوفيرها دون استثمار ضخم.
- التقلب الأميركي طويل المدى: سواء بقي ترامب أو جاء غيره، بات واضحًا أن واشنطن أصبحت أقل استعدادًا للعب دور “الضامن المطلق”، ما أجبر أوروبا على التفكير في “خطة ب”.
في هذا الإطار، لا يمكن النظر إلى توسعات المصانع الجديدة وموازنات الدفاع الضخمة باعتبارها ردود أفعال عابرة، بل كخطوة استراتيجية نحو إعادة تموضع أوروبا كفاعل أمني مستقل، لا فقط اقتصاديًا أو سياسيًا.
يبقى الطريق نحو سيادة دفاعية حقيقية لا يزال معقّدًا ومحفوفًا بتحديات بنيوية. فالتوسع في الإنفاق العسكري، وإنْ بدا خطوة ضرورية أمام التحولات الجيوسياسية، يطرح أسئلة ملحّة حول الاستدامة المالية. فبلوغ هدف الناتو الجديد بإنفاق 5% من الناتج المحلي بحلول عام 2035 يتطلب تخصيص مئات المليارات من اليوروهات سنويًا، في وقت تواجه فيه دول الاتحاد ضغوطًا موازية لتمويل التحولات البيئية والاجتماعية، وسط معدلات تضخم وتباطؤ اقتصادي.
إلى جانب تحقق شرط التوافق سياسي داخل الاتحاد الأوروبي، والذي تواجهه مقاومة شعبية في بعض الدول، وتُعطّله أحيانًا الخلافات البينية. كل هذا يجعل من التسلّح الأوروبي مشروعًا طويل النفس، يتطلب رؤية موحدة، وتوازنًا دقيقًا بين ضرورات الأمن ومتطلبات الاستقرار.