مع اقتراب العام الدراسي الجديد في اليمن، يواجه آلاف الطلاب تحديات غير مسبوقة بفعل الحرب المستمرة منذ 2015. ففي حين تتوافر المدارس الحديثة والمجهزة في المدن، يضطر طلاب القرى لمواصلة تعليمهم في فصول بدائية مصنوعة من الخيام أو القش، في مشهد يعكس حجم التحديات التعليمية وغياب البنية التحتية الأساسية، مع نقص الكتب والوسائل التعليمية وتأثر الفصول بالعوامل المناخية مثل الأمطار والحرارة المرتفعة والرياح.
ويواجه المعلمون والمعلمات تحديات مضاعفة لضمان استمرار التدريس، فيما يسعى الأهالي للحفاظ على حق أطفالهم في التعليم وسط نزوح وعدم استقرار سكني ومحدودية الدعم المادي واللوجستي.
طلاب تحت الخيام
في منطقة سهدة بمديرية قعطبة – الضالع، تجلس الطالبة مريم (12 عامًا) داخل فصل من الخيام، بسقف هش يحميها بالكاد من الشمس، لكنه عاجز أمام المطر والبرد.
تقول مريم: “أحيانًا لا أستطيع التركيز من شدة الحر، وأحيانًا أخرى أرتجف من البرد، في موسم الأمطار نرفع دفاترنا فوق رؤوسنا حتى لا تبتل، لكن غالبًا نفشل ويضيع ما كتبناه”.
مدرستها لا تشبه غيرها من المدارس؛ لا أبواب، لا نوافذ، ولا مقاعد مريحة، والسبورة خشبية قديمة والمعلمات يكتبن عليها بقطع طباشير قصيرة متكسرة.
تضيف مريم: “أفتقد كل شيء هنا، حتى الجدران التي تحمي الأطفال في المدارس الأخرى،أ سمع أن هناك مدارس فيها مكتبات وأجهزة كمبيوتر، بينما نحن نحلم فقط بسقف لا يسرب المطر”.
ورغم هذا الواقع القاسي، قلب الطفلة ممتلئ بالأمل، تحلم بأن تصبح طبيبة لعلاج الأطفال في قريتها الذين يمرضون كثيرًا بسبب البرد والمطر، فتقول: “أريد أن يكون لي مكان أتعلم فيه دون أن أخاف من المطر أو الرياح”. وعن سر تمسكها بالتعلم تقول: “لأنني لا أريد أن أبقى جاهلة، أمي دائمًا تقول إن التعليم هو السلاح الوحيد الذي نملكه، لذلك أذهب يوميًا، حتى لو كان الطريق موحلاً والمطر يغرقنا”.
وكان ممثل اليونيسف في اليمن، بيتر هوكينز، قد حذر من أن نحو 4.5 مليون طفل يمني خارج التعليم يمثلون قنبلة موقوتة تهدد مستقبل البلاد، مضيفًا أن المدارس المتضررة، حيث يضطر الأطفال للجلوس على الأرض وسط ظروف بالغة القسوة، لم تثن هؤلاء الأطفال عن الإصرار على التعلم، مما يعكس رغبتهم العميقة في مواصلة التعليم رغم الصعوبات الهائلة .
معلمون في قلب المعاناة
في خيام وفصول بدائية، يواصل المعلمون والمعلمات تعليم الأطفال اليمنيين رغم صعوبات الظروف المناخية ونقص المستلزمات، مبينين أن التفاني في التعليم أصبح أملًا للأطفال ومقاومة صامتة لتداعيات الحرب.
المعلمة في مدرسة الفقيد أكرم الصيادي رحاب حميد أكدت أن التدريس داخل فصول مصنوعة من القش والخيام يمثل تجربة صعبة للغاية، مشيرة إلى أن هطول الأمطار على الطلاب أثناء الدرس يُعد من أصعب المواقف، إذ يؤدي غالبًا إلى غياب بعض الطلاب في اليوم التالي بسبب المرض.
وأوضحت في حديثها لـ”نون بوست” أن غياب الوسائل التعليمية والكتب المدرسية يشكل عائقًا كبيرًا، خاصة وأن معظم الطلاب من الفئات المهمشة والنازحة، ولا يستطيع أولياء أمورهم شراء الكتب، لذلك تضطر المعلمة إلى تبسيط المناهج وإعداد ملخصات وصناعة أدوات تعليمية بديلة باستخدام مواد بسيطة متاحة.
وبيّنت أنها تعمل بشكل تطوعي ودون راتب، وهو ما يزيد من الضغوط عليها كونها نازحة وتعيش في منزل بالإيجار، ما يجعل الوضع أكثر تحديًا. ورغم ذلك، عبّرت عن انبهارها بتمسك الأطفال بالدراسة، معتبرة أن هذا الإصرار يعكس شغفهم بالتعلم وإيمانهم بأهميته في حياتهم ومستقبلهم.
وأشارت إلى أن استمرار العملية التعليمية في مثل هذه الظروف يتطلب بناء مدارس آمنة تحمي التلاميذ من قسوة الطقس، وتوفير وسائل تعليمية وألعاب، إلى جانب دعم مادي وحوافز للمعلمين لتمكينهم من أداء رسالتهم التعليمية بفعالية.
ويشهد اليمن أزمة تعليمية حادة منذ سنوات، تفاقمت بفعل توقف رواتب أكثر من ثلثي المعلمين منذ عام 2016، ما أجبر الكثير منهم على التوقف عن التدريس والبحث عن مصادر دخل بديلة. ويضاف إلى ذلك النقص الكبير في المعلمات، ما وسّع الفجوة بين الجنسين في المدارس، وزاد من حرمان الأطفال من حقهم الأساسي في التعليم وتعقيد التحديات التي تواجه النظام التعليمي في البلاد.
تحديات على عاتق المعلمات
في مناطق نائية ومخيمات تعليمية مؤقتة، تواجه المعلمات تحديات جسيمة للحفاظ على استمرارية العملية التعليمية، حيث تقول وكيلة مدرسة الفقيد أكرم الصيادي في مديرية قعطبة، تغريد المنصوب، إن العملية التعليمية تواجه صعوبات كبيرة بسبب غياب المبنى المدرسي، إذ يعتمد الطلاب والمعلمات منذ سنوات على خيام بدائية تتساقط باستمرار بفعل الرياح والأمطار.
وأضافت في حديثها لـ”نون بوست” أن الإدارة والمعلمات يفتقدن لأبسط المقومات، فلا مكاتب إدارية ولا مكتبة مدرسية، سوى برميل حديد متهالك تبرع به أحد الأهالي بعد لحامه وتحويله إلى خزانة للكتب، كما تضطر المعلمات لشراء أقلام السبورة من حسابهن الشخصي.
وأوضحت أن الكثافة الطلابية داخل المخيمات تشكل تحديًا إضافيًا، فضلًا عن معاناة الطلاب والمعلمات من أمراض مثل الربو وحالات الإغماء نتيجة الغبار والحرارة والأمطار، مؤكدة أن غياب المستلزمات الأساسية يعرقل العملية التعليمية.
وأضافت أن الطلاب ينتمون لفئات متنوعة بين أيتام ونازحين ومهمشين وفقراء، ما يجعل بعضهم يتغيب لأيام أو أسابيع بسبب الفقر أو عدم امتلاك المستلزمات الدراسية، كما أن الضوضاء وغياب الأمن والسلامة يزيد الوضع سوءًا.
كما أشارت إلى أن الظروف المناخية تضطر الإدارة أحيانًا لإيقاف الدراسة، وتقوم بنقل الطلاب تحت الأشجار أو بجوار المباني التي توفر ظلًا، وفي الحالات القاسية تُعلن عطلة. ورغم الظروف الصعبة، يحاول الأهالي تقديم ما يستطيعون لدعم العملية التعليمية، فيما تقدم بعض الأمهات هدايا رمزية للمعلمات.
وحول وضع الطالبات، لفتت المنصوب إلى صعوبات مضاعفة مثل الزواج المبكر وتحمل أعباء المنزل وعدم توفر دورات مياه، ما يدفع بعض الأسر إلى حرمان بناتهم من مواصلة التعليم.
واختتمت برسالة عاجلة للحكومة والمنظمات بضرورة بناء مدرسة ببنية تحتية قوية، وتوفير التمويل والمستلزمات الأساسية، ودعم المعلمات المتطوعات اللواتي يتحملن عبء التعليم في ظروف قاسية.
مدارس خارج الخدمة
منذ اندلاع النزاع في مارس 2015، دُمّرت أو تضررت نحو 2,916 مدرسة، أي ما يعادل واحدة من بين كل أربع مدارس، أو استُخدمت لأغراض غير تعليمية، ما أثر مباشرة على ملايين الأطفال، وحرّم الكثيرين منهم من التعليم.
مدير إدارة التربية والتعليم بمديرية قعطبة، عبد الباسط المرح، أكد ل،”نون بوست” أن عدد المدارس الخارجة عن الخدمة بلغ عشر مدارس، بعضها تعرض للدمار الكامل، فيما تقع أخرى على خطوط النار مما يصعّب وصول الطلاب إليها.
وأضاف أن الحرب تسببت في نزوح عدد من الأسر، ما ضاعف أزمات المدارس في مناطق النزوح ورفع عدد الطلاب إلى مستويات تفوق الطاقة الاستيعابية للمؤسسات التعليمية.
وأشار المرح إلى أن ما يقارب خمسة آلاف طالب وطالبة حُرموا من التعليم بسبب إغلاق المدارس أو صعوبة الوصول إليها، فيما أدى توقف رواتب أكثر من ثلثي المعلمين منذ 2016 إلى توقف الكثيرين عن التدريس والبحث عن مصادر دخل بديلة، مع النقص الكبير في المعلمات، ما وسّع الفجوة بين الجنسين.
وأوضح أن المجتمع المحلي ومجالس الآباء يلعبون دورًا محوريًا في دعم التعليم، وأن الجانب المالي والتشغيلي من أبرز المعوقات اليومية.
واقع يهدد جيلاً كاملاً
مؤسسات دولية ومحلية حذرت من خطر ضياع جيل كامل نتيجة فشل المنظومة التعليمية، مشيرة إلى أن الأزمات المركبة تهدد مستقبل ملايين الأطفال خارج الفصول الدراسية. وجّه مؤتمر شركاء لأجل اليمن، الذي عُقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور، نداء عاجلاً لكل الهيئات والمؤسسات الدولية والمحلية للعمل على إنقاذ التعليم، معتبرًا ذلك مسؤولية إنسانية وأخلاقية
نائب وزير التربية والتعليم، الدكتور علي العباب، أكد لـ”نون بوست ” أن الحرب تسببت في تضرر أكثر من 3,500 مدرسة، بينها نحو 400 مدرسة مدمرة كليًا، فيما خرجت مئات المدارس عن الخدمة بعد تحويلها إلى مراكز إيواء للنازحين أو لاستخدامات عسكرية.
تشير تقديرات وزارة التربية والتعليم، وفقًا للعباب، إلى وجود أكثر من 500 مركز تعليمي يعتمد على الخيام أو مواد بدائية في التدريس، خصوصًا في المناطق الريفية ومخيمات النزوح، مؤكدًا أن هذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع استمرار النزوح وغياب التمويل الكافي.
وأشار العباب إلى جهود الوزارة عبر إنشاء فصول مؤقتة، ودعم مبادرات التعليم في الطوارئ، وتعزيز التعليم المجتمعي، وإعادة تأهيل المدارس المتضررة، إلا أن غياب بيئة تعليمية آمنة ساهم في انخفاض معدلات الالتحاق وارتفاع نسب التسرب التي تتجاوز 30% في بعض المناطق، خاصة بين الفتيات والنازحين.
وثمّن العباب دور المعلمين والمعلمات الذين استمروا في أداء رسالتهم رغم انقطاع الرواتب، مشيرًا إلى وجود تنسيق حكومي لتحسين أوضاعهم وصرف حقوقهم المتأخرة، ودعا المجتمع الدولي والمنظمات الداعمة إلى تقديم دعم عاجل لإعادة بناء المدارس وصرف رواتب المعلمين، مؤكدًا أن التعليم في اليمن وصل إلى مرحلة حرجة تهدد مستقبل جيل كامل، وأن الاستثمار فيه هو استثمار في السلام والتنمية، وخط الدفاع الأول ضد الجهل والتطرف.
وحذّرت منظمة “أنقذوا الطفولة” من أنّ التعليم في اليمن يواجه خطر الانهيار، مشيرةً إلى أنّ نحو 4.5 ملايين طفل، أي اثنين من كل خمسة أطفال، خارج المدرسة رغم تراجع حدّة القتال منذ عام 2022.
ويرجع ذلك إلى تداعيات الحرب المستمرة والأزمة الاقتصادية وتكاليف الدراسة الباهظة، إضافة إلى أوضاع النزوح التي تجعل الأطفال النازحين أكثر عرضة لترك التعليم مقارنة بأقرانهم. وأكدت المنظمة أنّ استمرار هذا الوضع يهدد جيلاً كاملًا بالضياع، مع ما يحمله ذلك من عواقب خطيرة على مستقبل البلاد وتعافيها.