ترجمة وتحرير: نون بوست
يواجه الحزب الديمقراطي، بما في ذلك شخصيات تطمح إلى خوض الانتخابات الرئاسية سنة 2028، حالة ارتباك متزايدة بعد أن بات واضحًا أن الدعم غير المشروط لإسرائيل أصبح ورقة خاسرة سياسيًا. وفيما يسعى السياسيون للتكيّف مع هذا الواقع الجديد، تتحرك الجماعات المؤيدة لإسرائيل بسرعة لإعادة بناء التأييد داخل الأوساط الليبرالية.
يدرك الديمقراطيون، ومعهم قطاعات من القاعدة اليهودية المؤسسية، أن إسرائيل أصبحت تُكلّفهم أصواتًا انتخابية، وهم يتخبطون في محاولات يائسة للتعامل مع هذه الحقيقة.
وقد برز هذا الارتباك مؤخرًا عندما أحرج وزير النقل السابق بيت بوتيجيج، المعروف بطموحاته الرئاسية، نفسه خلال مقابلة في بودكاست “بود سيف أميركا” يقدّمه عدد من المسؤولين السابقين في إدارة باراك أوباما.
عند سؤاله عن غزّة، وعن القرارات الأخيرة في مجلس الشيوخ التي تدعو إلى تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل، وزيادة المطالب بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، جاء رد بوتيجيج غامضًا وملتويًا إلى حد كبير، مما أثار موجة انتقادات حتى من قطاعات تعتبر معتدلة نسبيًا.

وقال بوتيجيج: “أعتقد أنه يجب أن نُصرّ على أنه إذا كان تمويل دافعي الضرائب الأميركيين يتجه نحو تسليح إسرائيل، فيجب ألا يُستخدم في أشياء تصدم الضمير. وأظن، خصوصًا من بين الأصوات التي تهتم بإسرائيل، وتؤمن بحقها في الوجود، ووقفت معها في مواجهة القسوة والإرهاب غير المعقول في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أن هناك سببًا يجعل الكثير من تلك الأصوات تعلو الآن أيضًا. لأن الأمر ليس مجرد كارثة أخلاقية بحد ذاتها، بل هو أيضًا كارثة على إسرائيل نفسها على المدى الطويل.”
ورغم أن الفلسطينيين لم يُذكروا إلا بشكل عابر وغامض، فقد انصبّ رد بوتيجيج بالكامل تقريبًا على إسرائيل ومشكلاتها المزعومة.
وتعكس تصريحاته شخصية تفتقر إلى بوصلة أخلاقية واضحة، إذ سعى إلى موازنة الضغوط السياسية من دون إظهار موقف مبدئي من الإبادة. فهو لم يتبنَّ موقفًا أخلاقيًا يرفض أو يؤيد أفعال إسرائيل، بل قيّمها فقط من زاوية تأثيرها على الناخبين من جهة، وعلى كبار المموّلين الديمقراطيين من جهة أخرى.
بمعنى آخر، تحدث بوتيجيج كما يتحدث أي ديمقراطي وسطي تقليدي.
وبعد موجة الانتقادات، حاول بوتيجيج التخفيف من الأضرار، ورغم أن خطوته هدّأت بعض الأصوات داخل التيار العام، فإن رده الجديد ظلّ غير مقنع لأولئك الذين يبحثون عن موقف قائم على قيم واضحة، لا مجرد حسابات سياسية، تجاه الإبادة في غزّة.
وقال بيت بوتيجيج لصحيفة بوليتيكو: “من المهم أن نكون واضحين بشأن أمر بهذا الحجم وبهذا القدر من الألم. لكنه ببساطة هائل ومؤلم إلى درجة أن الكلمات قد تخوننا أحيانًا”.
وأوضح أنه كان سيصوّت لصالح قرارات الاعتراض المشتركة التي قدّمها مؤخرًا بيرني ساندرز في مجلس الشيوخ ضد مبيعات السلاح الأخيرة لإسرائيل، وأنه يؤيد الاعتراف بدولة فلسطينية في إطار حل الدولتين. كما اعتبر أن الأكثر إثارة للجدل هو أن الولايات المتحدة، برأيه، لا ينبغي أن توقّع التزامًا جديدًا بتقديم مساعدات سنوية لإسرائيل لمدّة عشر سنوات بعد انتهاء الاتفاق الحالي في سنة 2027.
وفي محاولة غير مقنعة لإضفاء بُعد إنساني على مواقفه، قال: “أعتقد أنّه كأب، حين ترى الصور المروّعة لأطفال يتضوّرون جوعًا وتبرز أضلاعهم، تتخيل تلقائيًا أبناءك.”
غير أنّ أي قلق حقيقي لديه إزاء الفلسطينيين كبشر لهم حقوق وإنسانية مساوية لغيرهم لم يكن ملموسًا، فقد بدا تصريحه محسوبًا بعناية، لكنه يفتقر إلى وضوح الاتجاه، ما أظهره هو ومستشاريه وكأنهم يواجهون أرضًا سياسية غير مألوفة لا يعرفون كيف يتعاملون معها.
ديمقراطيون يتخبطون وآخرون يفاجئون
وخلال فعالية في ولاية آيوا الأسبوع الماضي، قال السيناتور الديمقراطي روبن غاليغو من أريزونا إن موقفه من إسرائيل وفلسطين وغزّة “كان دائمًا في حالة تطوّر مع تطور الوضع”.
ويُعد هذا التصريح تعبيرًا لافتًا عن التردد والضعف في ظل إبادة جماعية مدعومة أميركيًا، لكنه مثّل تحسنًا نسبيًا مقارنة بتصريحات أدلى بها قبل ذلك بوقت قصير.
فقد قال غاليغو أمام الحضور: “شعب غزّة يعيش هذا الوضع لأن دونالد ترامب رئيس”، عندما ذكّره بعض الحاضرين بأن الإبادة بدأت، وحظيت بدعم كامل، في عهد إدارة جو بايدن، ردّ قائلاً: “مهما يكن، هذه وجهة نظرك”.
ثم أضاف أنه قد ينظر في دعم خيار “تقييد” المساعدات لإسرائيل، لكنه ربط ذلك بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول عزمه احتلال قطاع غزّة بالكامل، وهو ما وصفه غاليغو بأنه “خط أحمر” بالنسبة له.
غير الواضح أن الإبادة نفسها لم تكن خطًا أحمر بالنسبة لغاليغو، وحتى لو افترضنا جدلًا أن توصيف “الإبادة” محل نقاش (رغم أنه ليس كذلك)، فإن مقتل أكثر من 18 ألف طفل لم يكن خطًا أحمر بالنسبة له أيضًا.
وفي الوقت الراهن، يُقال إن غاليغو يعمل على توزيع رسالة داخل مجلس الشيوخ يدعو فيها الرئيس دونالد ترامب إلى التحقيق واتخاذ إجراءات للحد من عنف المستوطنين في الضفة الغربية.
وهذا بدوره يعكس حالة التخبط داخل الحزب الديمقراطي، فالمستوطنون وأعمال العنف التي يرتكبونها يمثّلون الهدف المثالي لإجراءات شكلية عديمة الجدوى؛ إذ أن رسالة مثل تلك التي طرحها غاليغو، حتى لو استجاب لها ترامب ونفّذ كل ما ورد فيها، لن تترك أي أثر على المستوطنين أو على مسار الضم المستمر والتطهير العرقي المتدرج في الضفة الغربية، فضلًا عن الإبادة في غزّة.
والأدهى أن الرسالة لا تسعى حتى لتحميل إسرائيل المسؤولية عن هذه الجرائم، بل تُلقي باللوم على ما يُصوَّر كـ”عناصر متمرّدة” من المستوطنين في الضفة، متجاهلة الدعم الذي يحظى به هؤلاء من الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية والحكومة نفسها.
وهكذا تصبح الرسالة أداة مثالية لشخص مثل غاليغو لإرضاء الممولين المؤيدين لإسرائيل، الذين يعتبرهم ركائز لمستقبله السياسي، وفي الوقت ذاته تقديم استجابة شكلية للنداءات المتزايدة من أصوات ما زالت تحتفظ بقدر من الضمير وتطالب الولايات المتحدة بوقف دعمها للإبادة في غزّة.
لكن غاليغو ليس استثناءً؛ حتى ريتشي توريس من نيويورك، المعروف بأنه لم يرَ يومًا سياسة إسرائيلية لم يؤيدها، اضطر إلى الاعتراف بمعاناة غزّة، فقد صرّح قبل أسابيع: “جميع الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، لديها التزام أخلاقي ببذل كل ما في وسعها لتخفيف المعاناة والجوع الذي استشرى في قطاع غزّة”.
غير أن التحوّل الأوضح جاء من السيناتورة إيمي كلوبوشار؛ فهي تجسّد النموذج التقليدي للسياسي الوسطي. وتنحدر من ولاية مينيسوتا، وهي ولاية أظهرت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل فيها بعض أوجه الضعف البارزة، بدءًا من فشلها في إقصاء الهان عمر من الكونغرس وصولًا إلى المواجهات المحرجة مع بيتي ماكولوم.
لكن كلوبوشار تختلف عن ماكولوم، فضلًا عن إلهان عمر. فهي مؤيدة راسخة لإسرائيل، وكانت من بين عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين الذين التُقطت لهم صور مع مجرم الحرب المطلوب بنيامين نتنياهو خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن.
ومع ذلك، عندما قدّم بيرني ساندرز قرارات الاعتراض على مبيعات السلاح الأخيرة لإسرائيل، صوّتت كلوبوشار لصالحها، في خطوة صادمة للكثيرين، بمن فيهم كاتب هذه السطور. فكلوبوشار لم تكن يومًا ضمن الديمقراطيين الذين تبنّوا الموقف الشعبي سنة 2020 بربط المساعدات لإسرائيل بتعاونها في عملية “السلام” المزعومة.
ورغم أن موقف كلوبوشار وبعض أعضاء مجلس الشيوخ الآخرين منح بصيص أمل في مشهد سياسي تغلب عليه الحسابات البراغماتية، فإن الطريق ما يزال طويلًا؛ فالموقف المبدئي لا يزال غائبًا. وحتى ساندرز، الذي يُعد ربما الأكثر تمسّكًا بالمبادئ داخل مجلس الشيوخ في هذه القضية وغيرها، لم يجرؤ على الإقرار بأن هذه الإبادة جاءت نتيجة مزيج من القومية الإسرائيلية العنصرية وعقود من الإفلات من العقاب الذي منحته الولايات المتحدة للتطرف الإسرائيلي.
الموقف المبدئي هو ما يبحث عنه الناخبون الديمقراطيون اليوم، ورغم استمرار تباين الآراء بشأن إسرائيل بين الديمقراطيين والمستقلين الميالين إلى الحزب، فإن هذا التباين يتلاشى إلى حدّ كبير عندما يتعلق الأمر بالإبادة في غزّة، حيث يقف اليسار والوسط الأميركي بوضوح ضدها ويطالبون بوقفها. بل إن جزءًا من اليمين يعارضها بالقدر الكافي ليدفع ترامب على الأقل إلى التظاهر بمحاولة إيقافها.
فمعارضة الإبادة تُعد من أبسط المواقف على سلّم القيم؛ غير أن ما يلحظه كثيرون هو أن دعم الإبادة الإسرائيلية بالنسبة لعدد من الديمقراطيين لا يرتبط بالمبادئ، بل يخضع لحسابات سياسية ترتبط برغبة هؤلاء في إرضاء كبار الممولين وجماعات الضغط.
وبعبارة أخرى، الأمر يتعلق بالخضوع للجنة الأميركية للشؤون العامة لإسرائيل (إيباك)، التي تحولت إلى عبء ثقيل على الديمقراطيين، إذ باتت تمثل خسارة انتخابية وفجوة أخلاقية عميقة.
ومع ذلك، يواصل سياسيون ديمقراطيون مثل بوتيجيج، وكلوبوشار، وغاليغو، فضلاً عن شخصيات تابعة بالكامل مثل توريس، التردد في تجاوز هذا الخط.
الجماعات المؤيدة لإسرائيل تحاول إعادة شدّ الديمقراطيين
ولا يقتصر المأزق على السياسيين وحدهم، إذ تسعى الجماعات الأميركية المؤيدة لإسرائيل، إلى جانب بعض المنظمات الإسرائيلية، إلى إيجاد صيغة توازن تبقي على الدعم لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تحاول إعادة إحياء قدر من التعاطف معها داخل الأوساط الليبرالية.
وقد بدأت هذه المحاولات بخطوة رمزية أقدمت عليها اللجنة اليهودية الأميركية قبل أسبوعين، حيث تبرعت بمبلغ 25 ألف دولار لأبرشية نيويورك من أجل المساعدة في ترميم كنيسة العائلة المقدسة في غزّة، التي تضررت بشدة جراء قصف إسرائيلي. وساندت اللجنة بطبيعة الحال الرواية الإسرائيلية التي وصفت استهداف الكنيسة بأنه حادث عرضي، رغم أن إسرائيل سبق أن استهدفتها مرارًا، غير أن هذه الخطوة الاستعراضية لم يكن لها أثر يُذكر، لكنها مهدت لاحقًا لتبرع الاتحاد اليهودي الموحّد بمبلغ مليون دولار كمساعدات إنسانية لقطاع غزّة.
وتم توجيه هذا التبرع إلى منظمة “يسرا-إيد”، وهي منظمة إسرائيلية تعمل في المجال الإنساني. ورغم أن المنظمة تقوم فعلًا بجهود إغاثية، فإن جزءًا أساسيًا من مهمتها يتمثل في توظيف تلك الجهود لتحسين صورة إسرائيل عالميًا.
وعليه، فعندما تعلن إسرائيل عن تقديم مساعدات إنسانية لدولة منكوبة، تكون “يسرا-إيد” غالبًا هي القناة التي يتم عبرها إيصال هذه المساعدات.
بالطبع، في غزّة، يواجه ذلك صعوبات متعددة المستويات. فـ”يسرا-إيد” لا تستطيع الدخول فعليًا إلى القطاع، لكنها تعمل هناك عبر شركاء فلسطينيين.
وقد عملت “يسرا-إيد” سرًا طوال السنة الماضية، محاولةً مساعدة مجموعات فلسطينية في غزّة على تجاوز العراقيل الإسرائيلية المتعددة، سواء المادية أو البيروقراطية، والمساهمة في إدخال كميات محدودة من المساعدات. ورغم أن السرية كانت تهدف لحماية الشركاء المحليين، إلا أنه من المؤكد أيضًا أن المنظمة لم ترغب بأن يعرف الجمهور الإسرائيلي حقيقة ما كانت تقوم به قبل الآن.
وبحسب “يسرا-إيد”، بدأت أنشطتها في غزّة قبل عام، بعد أن عملت لأول مرة داخل إسرائيل نفسها عقب هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وحتى اليوم، لا توجد دلائل على أن دورها يتجاوز التنسيق مع الجيش الإسرائيلي والمساعدة في إدخال بعض الإمدادات إلى القطاع، رغم أن مجرد وجودها كمنظمة إسرائيلية يثير بطبيعة الحال تساؤلات وشبهات.
أما بالنسبة إلى الاتحاد اليهودي الموحّد، فإن التبرع لـ “يسرا-إيد” يوفر غطاءً لأعضائه الذين لا يريدون معارضة الإبادة الإسرائيلية، لكنهم في الوقت ذاته يتأثرون بصور الأطفال الجوعى في غزّة. وبما أن المنظمة لا تستطيع الدخول إلى القطاع، فإن الأموال ستُستخدم لشراء الإمدادات وتغطية المصاريف التشغيلية، وهو ما لن يحدث فارقًا يُذكر على الأرض.
لكن مجرد الإعلان عن التبرع، والكشف المتزامن عن عمل “يسرا-إيد” في غزّة، سيُستغل لدعم موقف الديمقراطيين والجماعات المؤيدة لإسرائيل، التي تسعى إلى تصوير الإبادة على أنها نتيجة لسياسات رئيس وزراء فاسد وتحالفه مع قوميين متطرفين، وليس خيارًا تتبناه إسرائيل ككل. وسيتم الترويج لهذا الخطاب رغم أن غالبية الإسرائيليين يصرحون علنًا بعدم اكتراثهم بموت الفلسطينيين جوعًا في غزّة.
ولهذا السبب، يجب أن يستمر الضغط على الديمقراطيين، دون الاكتفاء بعبارات مراوغة أو مبادرات شكلية بلا قيمة. ويجب أن يتواصل حتى يتبنى الحزب موقفًا مبدئيًا ضد الإبادة الإسرائيلية الجارية في غزّة، وضد الإبادة الوشيكة في الضفة الغربية، وضد السياسة الأميركية التي سمحت لإسرائيل بحرمان الفلسطينيين من أبسط حقوق الحياة والحرية.
إن الواقع الراهن هو نتيجة مباشرة للعنصرية الإسرائيلية، والاستعمار الاستيطاني، ونظام الفصل العنصري، والقومية المتطرفة. وكل ذلك ما كان ليستمر دون دعمنا وحان الوقت لأن نطالب قادتنا بوقفه.
المصدر: موندويس