لم تكن أحداث السويداء التي اندلعت في 12 تموز/ يوليو مجرد جولة عنف عابرة، بل شكلت الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف المتقابلة – من الميليشيات الدرزية إلى قوى الأمن – شرارة لاستقطاب طائفي خطير، هدد مسار الانتقال السياسي الهش في البلاد، وضرب أسس التعايش بين مكوّناتها.
تجاوزت الأزمة حدودها الاجتماعية لتكشف هشاشة السلطة المركزية؛ إذ تزعزعت الثقة، الضعيفة أصلًا، بقدرة الحكومة السورية على فرض سيطرتها في المحافظة، في ظل صعود مجموعة يقودها شيخ عقل الدروز حكمت الهجري، الذي يطالب باللامركزية ويحتمي بالاحتلال الإسرائيلي، الذي أطلق صواريخه نحو دمشق بذريعة “الاستجابة لمطالب حماية الدروز”.
غير أنّ هذه الضربة لهيبة الدولة لم يبدّدها حتى وقف إطلاق النار، فرغم الهدوء النسبي الذي فرضه وقف إطلاق النار، تبقى السويداء خارج سيطرة الدولة؛ فالميليشيات الموالية للهجري تمنع دخول أي مسؤول حكومي وتتحكم بمفاصل الحركة في الداخل والخارج، فيما المهجّرون من قبائل البدو لم يحصلوا على ضمانات للعودة الآمنة.
في قلب هذا المشهد المربك، تبدو الحكومة السورية أمام امتحان معقد: فـ”أزمة السويداء” ليست مجرد اختبار أمني ضمن قائمة التحديات، بل الأخطر بينها جميعًا، لما تحمله من أبعاد جيوسياسية، ودينية اجتماعية، وإقليمية متشابكة، تجعلها مرآة لمستقبل الدولة السورية، نبحث في هذا التقرير هذه الأبعاد.
قيادة دينية اجتماعية تُعقّد الحسابات الأمنية
لعلّ أكثر ما يجعل ملف السويداء “عصيًّا” ويدفع الحكومة للتفكير خارج الصندوق هو النفوذ الاستثنائي الذي تملكه القيادات الروحية الدرزية، والتي تحولت إلى لاعب أول يتجاوز تأثيرها مؤسسات الدولة نفسها، فمع انهيار ثقة الأهالي بالسلطة المركزية طوال سنوات الحرب، برزت مرجعية مشيخة العقل كصاحبة القرار الفعلي محليًا.
يتقدّم الشيخ حكمت الهجري هذه المرجعية، بوصفه الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز وصاحب قاعدة شعبية واسعة. ومنذ البداية اتخذ الهجري خطًّا معارضًا للحكومة الجديدة، رافضًا عودة هيمنتها على المحافظة ما لم تُلبَّ مطالبه، متجاهلًا واقع الفوضى والسلاح المنفلت في الشوارع، فقد رفض مخرجات “المؤتمر الحواري الوطني” الذي نظمته دمشق في فبراير/شباط الماضي، وهاجم الإعلان الدستوري الذي صدر لاحقًا، واضعًا نفسه في مواجهة مباشرة مع الدولة.
ولائه مطلق “لإسرائيل”لكن مواقفه تتبدل بحسب المتغيبرات الإقليمية والدولية.. تعرّف على حكمت الهجري.#السويداء_سوريا pic.twitter.com/3NJK5HtZp5
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 17, 2025
لكن مع اشتباكات يوليو الدامية انفجرت المواجهة علنًا؛ إذ دخلت ميليشيات درزية تابعة للهجري في قتال مع قبائل البدو، وعندما حاولت القوات الحكومية التدخل للتهدئة، وجدت نفسها هدفًا لهجوم مباشر من هذه الميليشيات.
رفض الهجري اتفاق التهدئة الذي أبرمه وجهاء محليون، وذهب أبعد من ذلك بدعوته إلى “المقاومة المسلحة” ضد أي دخول للقوات الحكومية. ومع ظهور المجلس العسكري للسويداء في شباط/ فبراير 2025، المدعوم ضمنيًا منه، أصبح لهذا التوجه ذراع ميدانية تتبنى عمليات ضد قوى الأمن العام وحتى ضد مدنيين من قبائل البدو.
تجاوز الهجري بذلك حدود المعارضة السياسية إلى تبني مشروع أشبه بـ”سلطة موازية”، مطالبًا بـ”إدارة ذاتية للجبل”، وهو ما اعتبرته دمشق تحديًا خطيرًا لوحدة البلاد. ولم يكتفِ بذلك، بل طالب علنًا بـ”حماية إسرائيلية”، مانحًا تل أبيب ذريعة جاهزة للتدخل في العمق السوري تحت شعار “حماية الدروز”.
ما هو رأي السوريين بمن يستقوي بالاحتلال الإسرائيلي؟#السويداء #الهجري pic.twitter.com/0rJXM0YvK2
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 30, 2025
صحيح أن موقف الهجري لا يمثل كل أبناء السويداء، لكن سيطرته على الميليشيات الدرزية وتكامله معها جعلا تياره يفرض هيمنته على المشهد برمّته، فقد منع دخول وفود وزارية وحكومية إلى المدينة، واستولى – وفق تقارير – على قوافل إغاثة مرسلة للمدنيين، سامحًا فقط بدخول منظمات محدودة مثل الهلال الأحمر، وهكذا باتت السويداء تبدو وكأنها تدار بحكم الأمر الواقع من قبل الهجري وجماعته، فيما الدولة غائبة أو ممنوعة من ممارسة أي نفوذ حقيقي.
تداخل إقليمي حسّاس: “إسرائيل” وملف الدروز
زاد استعانة الشيخ حكمت الهجري بالاحتلال الإسرائيلي، وتدخل تل أبيب المباشر عبر قصف دمشق واستهداف عناصر الأمن العام في السويداء بذريعة “الحماية”، من تعقيد المشهد الأمني أمام الحكومة السورية، فالأمر لم يعد شأنًا محليًا بحتًا، بل تحوّل إلى ورقة إقليمية تُدار ضمن لعبة أكبر.
الاستقواء بـ”إسرائيل” منح تل أبيب ما كانت تسعى إليه طويلًا؛ أولًا، تكريس منطقة الجنوب السوري كـ”حزام فصل” دائم بمحاذاة الجولان، سواء تحت سيطرة مباشرة أو عبر حلفاء محليين، بهدف إبقاء الجنوب منطقة رخوة وهشة، تمنع عودة سيادة دمشق الكاملة إلى حدودها، وتفتح الباب أمام مشاريع تقسيمية أو فيدرالية.
وثانيًا، إحياء ما يُعرف بـ “ممر داوود“، وهو مخطط توراتي جيوسياسي تسعى “إسرائيل” من خلاله لمد محور يمتد من شمال فلسطين عبر الجولان، درعا، السويداء، وصولًا إلى الشرق السوري وحتى ضفاف الفرات، وهو جزء من فكرة “إسرائيل الكبرى” التي شرعت تل أبيب في تنفيذها جزئيًا عبر بسط نفوذها على الشريط الحدودي ومناطق تخوم جبل الشيخ.
“من الجولان إلى دير الزور.. هل يُرسم مستقبل جديد لسوريا؟
يكشف عبدالرحمن الدالاتي عن تفاصيل مشروع ‘ممر داود’ الذي يعود بجذوره إلى مخططات قديمة.
فهل سيتحمل العرب والمسلمون ‘سايكس بيكو ثانية’؟@abdulr7man_da#سوريا pic.twitter.com/wX7SsSF7l3— نون سوريا (@NoonPostSY) July 26, 2025
في السياق نفسه، لم يكن طرح وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش لفكرة إقامة “ممر إنساني” لإيصال الغذاء والدواء إلى دروز السويداء مجرد مبادرة إنسانية، بل جزءًا من هذا المخطط الاستراتيجي، وقد كشفت تقارير أميركية – أبرزها موقع أكسيوس – أن واشنطن، الداعم الأكبر لمشاريع تل أبيب في المنطقة، تبذل مساعٍ لتسويق الفكرة والضغط باتجاه تمريرها كقناة شرعية للتواصل الإسرائيلي السوري بذريعة المساعدات الإنسانية.
أمام هذا التعقيد، تحاول الحكومة السورية امتصاص الضغط الإسرائيلي الأميركي عبر فتح قنوات تفاوضية غير معلنة. فقد كشفت مصادر عن لقاءين جريا في باريس خلال الشهر الماضي بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الإسرائيلي للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، لبحث آليات “خفض التصعيد” ومنع التوغل الإسرائيلي في الشأن السوري الداخلي، إلى جانب التوصل إلى تفاهمات حول مراقبة وقف إطلاق النار في السويداء ودعم الاستقرار الهش في الجنوب.
السويداء عقدة جيوسياسية
فضلًا عن العاملين السابقين، يكمن العامل الآخر الذي يصعّب من مهمة الحكومة السورية الجديدة في حلحلة أزمة السويداء، كونها عقدة جيوسياسية، حيث تقع المحافظة في أقصى جنوب سوريا بمحاذاة ثلاثة حدود حساسة؛ من الغرب هضبة الجولان المحتلة حيث النفوذ الإسرائيلي المباشر، ومن الجنوب المملكة الأردنية، وإلى الغرب والشمال محافظة درعا التي ما زالت تشهد فوضى أمنية بسبب انتشار السلاح.
لكن هذا التداخل لم يكن وليد اللحظة، بل فرضته الجغرافيا نفسها. فالقرب من الجولان المحتل يمنح السويداء أهمية خاصة في نظر “إسرائيل”، التي تعتبر الجنوب السوري كله شريانًا لأمنها. لذلك سارعت تل أبيب – بعد سقوط النظام البائد – إلى إقامة “منطقة آمنة” تمتد من الجولان إلى أطراف السويداء لمنع اقتراب أي قوة معادية من حدودها، فاحتلت أجزاء من محافظة القنيطرة، كما احتلت “جبل الشيخ” الاستراتيجي الذي لا يبعد عن العاصمة دمشق سوى بنحو 35 كلم، ويقع بين سوريا ولبنان ويطل على الجولان المحتل.
ولأن الحدود الأردنية تشكّل الخاصرة الجنوبية لهذه العقدة، بدا طبيعيًا أن تراقب عمّان المشهد بحذر، فهي تنظر بقلق إلى أي فوضى بمحاذاة حدودها الشمالية، خاصة مع شيوع تهريب السلاح والمخدرات عبر البادية الجنوبية. ومع كل جولة توتر في السويداء، ترتفع الأصوات في عمّان محذّرة من تحوّل المحافظة إلى بؤرة تهديد مباشر لأمنها الداخلي.
هذا القلق تُرجم إلى انخراط مباشر في المباحثات الرامية إلى احتواء الأزمة، حيث استضافت عمّان في 12 أغسطس/آب الجاري اجتماعًا جمع المبعوث الأميركي إلى سورية توم برّاك، ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ونظيره السوري أسعد الشيباني، لبحث خريطة طريق لمحاولة احتواء تداعيات الأزمة في محافظة السويداء جنوبي سورية.
وزير الخارجية الأردني: “نعمل مع سوريا و #أمريكا للتوصل إلى حلول بشأن الوضع في #السويداء على أساس وحدة الأراضي. و”إسرائيل” تزيد من تأزيم الأوضاع في #سوريا ولبنان.” pic.twitter.com/BHG3ZiWKAe
— نون سوريا (@NoonPostSY) August 20, 2025
في النهاية، تكشف أزمة السويداء أنّ الجنوب السوري لم يعد مجرد ساحة هامشية بل أصبح مفصلًا استراتيجيًا في تقرير مصير البلاد، فالتداخل بين نفوذ القيادات الدينية المحلية، والتدخلات الإسرائيلية المباشرة، والهواجس الأردنية، والفوضى الممتدة من درعا، جعل من السويداء البوابة الأخطر التي تقف عندها الدولة السورية الجديدة.