بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، اجمع زعماء الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرون على إدانة طوفان الأقصى والتأكيد على دعم تل أبيب وحق الكيان في الدفاع عن نفسه، فيما خرج المفوض الأوروبي المجري، أوليفر فارهيلي، معلنًا التعليق الفوري للمساعدات المقدمة إلى فلسطين، كأحد أدوات دعم “إسرائيل”، في موقف فهم منه من الوهلة الأولى على أنه إجماعًا أوروبيًا واضحًا لتأييد الحكومة الإسرائيلية وجيش الاحتلال في حرب الإبادة التي يشنها ضد الغزيين.
لكن سرعان ما خرج كبير الدبلوماسيين في الاتحاد، جوزيف بوريل، لرفض تلك التصريحات والإصرار على أن المساعدات المقدمة للدولة الفلسطينية لن تتوقف، وإن أشار إلى مراجعة للتأكد من عدم وصولها إلى حركة حماس، ومن هنا بدأت إرهاصات الانقسام في الموقف الأوروبي تلوح في الأفق.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر ونصف تقريبًا من اندلاع الحرب، انقسم الموقف الأوروبي داخل أروقة الأمم المتحدة بشأن مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة، والذي قدمته البرازيل ثم روسيا، فريق صوت لصالح القرار ( إسبانيا وأيرلندا وفرنسا) وثاني ضده (النمسا والمجر وتشيكيا) وثالث امتنع عن التصويت ( ألمانيا وإيطاليا)، وهو المشروع الذي أجضهته الولايات المتحدة باستخدامها لحق النقض (الفيتو).
وفضحت حرب غزة الحالية هشاشة البنية الوحدوية الغربية، وتآكل جدار التمترس الجيوسياسي والتاريخي بين أقطاب القارة العجوز ومن خلفهم الكاوبوي الأمريكي، كما عرت المزاعم والادعاءات التي طالما تبناها الخطاب السياسي الغربي بشأن وحدة الموقف وتماسك اللحمة والتناسق والتفاهم الذي لا يأتيه الانقسام من بين يديه ولا من خلفه.
ومثلت تلك الحرب اختبارًا صعبًا للهوية الغربية التي سقطت في براثن الاستقطاب وفخاخ البرغماتية، متأرجحة فوق لهيب القيم الحضارية والإنسانية المزعومة تارة ومصالحها الخاصة تارة أخرى، فأفقدتها حضورها وتأثيرها، مما منح الاحتلال شيكا على بياض، مستثمرًا في حالة الارتباك تلك، لتنفيذ مخططاته الاستعمارية التوسعية.
انقسام الموقف الغربي
منذ اليوم الأول للحرب، وما قبلها وما بعدها، فإن الموقف الأمريكي من الكيان الإسرائيلي واضح لا لبس فيه، بعيدًا عن المسكنات الدبلوماسية الصادرة عن إدارة دونالد ترامب بين الحين والأخر، حيث الدعم المطلق من الألف إلى الياء، دعم غير مشروط يضع أمن “إسرائيل” فوق أي اعتبارات أخرى.
هذا الدعم غير المٌستغرب، حوّل وزير الخارجية الأمريكية، مارك روبيو، إلى متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، والمبعوث الأمريكي للمنطقة، ستيف ويتكوف، إلى ممثل عن نتنياهو، والسفير الأمريكي لدى تل أبيب، مايك هاكابي، إلى ناطق باسم الصهيونية، فيما تحول الرئيس ترامب نفسه إلى الحاضنة السياسية والعسكرية الأكبر لجرائم الاحتلال في غزة، والمنقذ للمتورطين في تلك الجرائم من الملاحقات القضائية الدولية.
أما على المستوى الأوروبي فالموقف يختلف نسبيًا، فبعد نحو 22 شهرًا على حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال في القطاع، وما أسفرت عنه من كارثة إنسانية ما عادت تخفى على أحد رغم مساعي الطمس والتجاهل والتعتيم، وبعدما فرضت نفسها كأحد الملفات الحساسة على طاولة الإنسانية الحضارية المزعومة، يمكن بلورة الموقف الأوروبي من خلال عدة محاور رئيسية:
أولا: الفريق المندد بجرائم الاحتلال وهو الذي يتبنى خطابًا سياسيًا مباشرًا، يدين “إسرائيل” ويحملها المسؤولية ويطالبها بالتوقف الفوري وإنهاء الحرب، ويدعم حقوق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وحياته الكريمة، ويمثل هذا الفريق: إيرلندا، وإسبانيا، وبلجيكا، ومالطا، وسلوفينيا، علاوة على النرويج غير العضو في الاتحاد الأوروبي.
اللافت بشأن هذا الفريق أنه رغم ما يمثله من حضور أوروبي لكنه يفتقد للثقل السياسي المؤثر، القادر على فرض رأيه، وترجمة مواقفه لإجراءات تحظى بإجماع الأوروبيين وتنل مباركة وموافقة الاتحاد الأوروبي، ما يضفي على اتجاهاته رمزية أكثر منها إجراءات عملية على أرض الواقع.
ثانيًا: الفريق الداعم لـ”إسرائيل” والمبرر لها انتهاكاتها وهو الذي يميل أيديولوجيًا وتاريخيًا لدعم الكيان المحتل على طول الخط، إذ يتبنى خطابًا مباشرًا وعلنيًا داعمًا لتل أبيب على كافة المسارات التي تتخذها، بصرف النظر عن قانونية وأخلاقية وإنسانية تلك المسارات، والذي يمثله دول مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا وهولندا، بجانب دول وسط أوروبا وشرقها، واليونان وقبرص، بخلاف مثل المجر وتشيكيا، صاحبتا المواقف الأكثر تشددًا في تأييد الكيان.
يتمتع هذا الفريق بثقل سياسي نافذ داخل المنظومة الأوروبية، لكن لوحظ مؤخرًا تغيرًا في مواقف بعض الدول المنتمين لهذا التيار، منها ألمانيا، صاحبة التصريحات المتطرفة الداعمة للاحتلال منذ بداية الحرب، غير أنه ومنذ مايو/أيار 2025 بدأ خطابها السياسي يشوبه بعض التغير المثير للانتباه.
ففي تصريحات مفاجئة للجميع خرج وزير الخارجية الألماني، يوهان ديفيد فادفول، في 27 من الشهر ليقول “لن نتضامن مع إسرائيل بالإجبار ويجب عدم استغلال كفاحنا ضد معاداة السامية، ودعمنا لأمن إسرائيل، في الحرب الدائرة حاليا بغزة”، وهي التي جاءت في أعقاب توبيخ ربما هو الأشد، وجهه المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي اعتبر أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على غزة “تلحق خسائر بشرية فادحة بين المدنيين، ولم يعد من الممكن تبريرها باعتبارها حربًا على إرهاب حماس”، لافتًا إلى أنها لم تعد منطقية ولا يمكن قبولها، وذلك خلال مؤتمر صحفي له في فنلندا.
تصريحات المستشار الألماني ووزير خارجيته وعدد من كبار الساسة من النخبة داخل ألمانيا ومن بعدها هولندا تعكس تحولًا ملحوظًا في موقف برلين وأمستردام إزاء تل أبيب، وهو الموقف الذي كان يتبنى خطا واحدًا منذ بداية الحرب، خط الدعم المطلق، والشيك على بياض الذي منحه الألمان للإسرائيليين..
ثالثًا: الفريق المتأرجح بين ثنائية الدعم والانتقاد وتمثله دول مثل فرنسا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا، وهو الفريق الذي يعبر عن مواقف متباينة، انفرادية تارة ومٌنسقة تارة أخرى، متأرجحا بين دعم الكيان المحتل وانتقاده، التعاطف مع حقوق الفلسطينيين والتواطؤ في إبادتهم بصفقات السلاح التي لا تتوقف المقدمة لجيش الاحتلال والتي تشجعه على المضي قدمًا في انتهاكاته.
وشهدت مواقف هذا الفريق تغيرات ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة بعدما وصلت الكارثة الإنسانية في غزة لمستويات اصبح السكوت عنها اتهامًا أخلاقيًا وسياسيًا للحكومات الغربية، فظهرت موجات الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتبني لغة خطابية حادة في انتقاد سياسات التجويع وحروب الإبادة والتوسع الاستيطاني، ولعل تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، الأخيرة تلخص هذا التحول في اللهجة، وإن كان في الباطن لم تتوقف مسارات الدعم المقدمة لإسرائيل.
التأرجح بين ثنائية القيم والمصالح
ينطلق الموقف الغربي في عمومه من ثنائية القيم الحضارية والإنسانية التي اعتاد رفع شعاراتها والادعاء بالسير على نهجها، من جانب، والمصالح البرغماتية وما يمكن أن يحققه من مكاسب، من جانب أخر، إلا أن اصطدام تلك الثنائية المتناقضة في كثير من محطاتها مع حرب إبادة استثنائية كالتي تشهدها غزة وضع القرار الغربي في مأزق أخلاقي وسياسي لدى الشارع والرأي العام العالمي.
وعكس الموقف الاوروبي خلال الأشهر الأخيرة تحديدًا حالة “الشيزوفرينيا” السياسية التي يعاني منها المجتمع الدولي والعربي على حد سواء، فبدلًا من تركيز الجهود نحو إنهاء الحرب بأسرع وقت، ووقف تلك الكارثة الإنسانية عبر توظيف أوراق الضغط المتاحة، توجّهت الأنظار نحو مسار حلّ الدولتين والهرولة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية كدولة مستقلة.
ويمكن إرجاع الموقف الأوروبي برمته إلى ثلاثة مرتكزات رئيسية كان لها تأثيرها في هذا التغير الذي شهده منذ بداية الحرب وحتى كتابة تلك السطور:
أولًا: الضغوط الشعبية حيث تصاعدت الاحتجاجات الشعبية المنددة بالانتهاكات الإسرائيلية في معظم العواصم الأوروبية، وباتت تشكل زخمًا كبيرًا وصداعًا في رأس الحكومات والأنظمة، خاصة في ظل وجود جالية عربية وإسلامية كبيرة تشكل رقمًا صعبًا في الخارطة الديموغرافية للمجتمع الأوروبي.
علاوة على تغيّر المزاج الشعبي العالمي، الذي بات يميل بشكل متزايد نحو الجانب الفلسطيني، وتحول إلى كرة نار متدحرجة لا يمكن التصدي لها بالقوة أو مواجهتها بالعنف، وهو ما أجبر العديد من الحكومات الأوروبية، التي وجدت نفسها في حرج أخلاقي كبير، على إعادة النظر في مواقفها من تلك الحرب، لا سيما بعد تصاعد الخطاب الذي يتهم هذه الدول بالتواطؤ مع “إسرائيل” في تلك الإبادة.
ثانيًا: الضغوط السياسية، فقد وضعت تطورات الحرب والانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، والمشاهد المرعبة القادمة من قلب قطاع غزة لحظة بلحظة، حكومات أوروبا في مأزق سياسي كبير، سواء أمام شعوبها أو في مواجهة ما تزعم التمسك به من مبادئ وأخلاقيات ومرتكزات إنسانية وحضارية.
كما شكّلت الخطوات التي اتخذتها عدد من دول القارة في مواجهة هذه الإبادة، كاعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بفلسطين، ضغوطًا إضافية على حكومات الدول داخل الاتحاد الأوروبي، وزاد من تعقيد الموقف إصدار المحكمة الجنائية الدولية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، مما وضع قادة القارة في موقف بالغ الحرج، إذ إن تجاهل تلك القرارات يعني عمليًا تقويض المحكمة وغيرها من المؤسسات التي تعوّل عليها أوروبا في محاولتها لفرملة التوغل الروسي في القارة.
ثالثًا: البراغماتية الأوروبية، إذ إن الأوضاع المتصاعدة في غزة والعربدة الإسرائيلية اللا متناهية من شأنها أن تخرج الوضع عن السيطرة، وهو ما يهدد مصالح الإمبراطوريات الأوروبية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، صاحبتا المصالح الأوسع والأعمق في المنطقة.
كما تحاول أوروبا من خلال هذا التحرّك استعادة نفوذها المفقود في الشرق الأوسط، والبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة عبر البوابة الفلسطينية، في مواجهة الهيمنة الأمريكية والانفراد التام بإدارة الخارطة السياسية والاقتصادية، والسعي للظهور مجددًا كلاعب مؤثر في الملعب الإقليمي، بعد أن سُحب البساط من تحت أقدام المستعمرين القدماء.
الافتراق الاستراتيجي.. بين غزة والعراق
أعاد الانقسام في المواقف بين الولايات المتحدة ودول أوروبا، إزاء الحرب في غزة ،والذي إن لم يفارق بعد خطوطه الحمراء، إلى الأذهان مشهد الانقسام الغربي حول غزو العراق عام 2003، حين انقسمت الخارطة الدولية إلى فريقين، أمريكا وبريطانيا في جانب الفريق الداعم للغزو في مقابل فرنسا وألمانيا الرافضتين لها.
وهناك أوجه شبه كثيرة بين الموقف من غزة حاليًا وما حدث إزاء العراق قبل 22 عامًا، أبرزها الخلاف حو الشرعية الدولية، إذ تحركت أمريكا في عدوانها تجاه بغداد بشكل فردي دون تفويض صريح من مجلس الأمن، ما اعتبرته باريس وبرلين تجاوزاً خطيراً للقانون الدولي، وهو ما يتكرر اليوم وإن كان بشكل مخالف، إذ استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) خمس مرات في مجلس الأمن لإجهاض مشاريع قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، في الوقت الذي سعت فيه قوى أوروبية إلى تمرير مواقف أكثر توازنًا عبر الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
علاوة على عنصر الضغط الشعبي، ففي الحالتين كان المزاج الشعبي الغربي ناقمًا على السياسة الأمريكية، حيث شهدت العواصم الأوروبية مظاهرات ضخمة تندد بالموقف الأميركي في العراق وتطالب بمقاربة أكثر عدلاً وإنسانية، وهو ذات المطالب التي ترفعها الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها جامعات ومدن وميادين أوروبا والولايات المتحدة.
غير أنه ورغم هذا التشابه إلا أن ثمة خلافات محورية بين الحربين، ففي العراق، كان الخلاف متعلقًا بقرار شن حرب عسكرية واسعة النطاق، انخرطت فيها قوات أوروبية وأميركية، أما في غزة، فالانقسام يدور حول إدارة حرب قائمة بالفعل تشنها إسرائيل، وليست أوروبا طرفًا عسكريًا مباشرًا فيها، ما يجعل الخلاف محصورًا في الأدوات الدبلوماسية والرمزية.
هذا بخلاف سيطرة البعد الاقتصادي الاستراتيجي على القرار الأمريكي في حربه ضد العراق، حيث السيطرة على النفط العراقي وتفكيك الجيش الوطني الذي كان يعد من بين الأكبر في المنطقة، بينما تحمل غزة اليوم رمزية سياسية وأخلاقية أكثر من كونها ساحة لموارد استراتيجية.
وفي هذا الانقسام الأوروبي الراهن إزاء الحرب في غزة، وهو ذات الانقسام الذي شهدته حرب العراق، فالمشهد أمام سيناريوهات عدة، أولها تكرار ما حدث في 2003 إذا ما ارتفعت الكلفة الإنسانية للحرب، حينها قد تتبلور جبهة أوروبية أكثر جرأة في مواجهة الموقف الأميركي، ما يخلق شرخًا استراتيجيًا جديدًا.
أما السيناريو الثاني وهو الأكثر واقعية ميدانية فيتعلق بالتوازن الهش، مع استمرار الانقسام الأوروبي الداخلي، مما لا يسمح بتشكيل موقف محد، لتبقى أوروبا لاعبا ثانويًا غير مؤثر في المشهد، وأخيرًا يأتي السيناريو الثالث، حيث الانبطاح الأوروبي للولايات المتحدة والالتحاق بصفها، مع الاكتفاء بانتقادات رمزية لحفظ ماء الوجه، تحت ضغط أزمات أخرى مثل أوكرانيا والاعتماد الأمني على الولايات المتحدة.
وعلى الأرجح لن تصل غزة إلى مستوى “نقطة الافتراق الاستراتيجي” كما حدث في العراق عام 2003، لكن الحرب الدائرة فيها كشفت وبشكل كبير تآكل التماسك الغربي وتزايد الفجوة بين مقاربة أميركية عسكرية–أمنية، وأوروبية تميل أكثر إلى الدبلوماسية والشرعية الدولية، وسط مخاوف أوروبية متصاعدة من التزام الاتحاد الأوروبي بالإيقاع الأمريكي وتجريده مما تبقى من استقلالية سياسية وعسكرية واقتصادية، ولعل مشهد ترامب وقادة أوروبا مصطفين أمامه داخل مكتبه بالبيت الأبيض لمناقشة مستقبل الحرب الأوكرانية صورة معبرة عما يتخوف منه الأوروبيون.
استثمار يمنح نتنياهو الضوء الأخضر
يعد هذا الانقسام أرضية خصبة للاحتلال للاستثمار فيها لخدمة أجندته الاستعمارية التوسعية، فعدم التوصل لقرار دولي موحد يٌميع القضية ويفقدها أدوات التأثير الناجزة، بعيدًا عن الزخم السياسي والإعلامي الذي لا يؤثر كثيرًا في حسم المعركة على أرض الواقع، وهو ما يعيه نتنياهو ويمينه المتطرف جيدًا، ويسابقون الزمن لتوظيفه أيما توظيف.
بحسبة مبسطة، تصبح المعادلة كالتالي: الولايات المتحدة، اللاعب الأبرز صاحب التأثير الأكبر في تغيير المشهد، في صف الكيان الإسرائيلي وداعمة له على طول الخط، وعلى الجانب الأخر هناك الحلفاء الأوروبيون، المنقسمون بين داعم ومتردد في الانتقاد، ما يعني أولا حصول تل أبيب على الجزء الأكبر من الدعم الدولي لتوجهاتها، وثانيًا العجز عن اتخاذ موقف غربي موحد في ظل هذا الانقسام الذي يتعمق يومًا بعد يوم.
وفق تلك المعادلة غير المتزنة يٌمنح جيش الاحتلال الضوء الأخضر لارتكاب ما يحلم به من مخططات إبادة في غزة واستيطان ما يشاء من أراضي الضفة بأريحية كاملة دون أي قلق من محاسبة أو معاقبة أو حتى إدانة يمكن أن تٌترجم لإجراءات ومواقف رادعة.
وهنا تساؤل يضع القرار الأوروبي في مأزق أخلاقي وسياسي حرج: هل الاعتراف بفلسطين والتلويح ببعض العقوبات النادرة هو أقصى ما يمكن لأوروبا أن تقدمه في هذا الملف؟ أليس لدى القارة العجوز أوراق أخرى أكثر تأثيرًا وأسرع وقعًا؟ تساؤلات تشتبك بطبيعتها مع مدى جدية الحكومات الأوروبية في حراكها، وتتقاطع جذريًا مع الشعارات القيمية والأخلاقية التي ما فتئ أبناء أوروبا يرفعونها في كل محفل.
وتنطوي تلك التساؤلات على مقاربة أكثر حرجًا، فبينما تعلن تلك الدول نيتها الاعتراف بفلسطين كأحد أشكال الضغط السياسي على تل أبيب، يتزايد في المقابل حجم تجارتها العسكرية والاقتصادية مع الكيان المحتل، لتُشكّل نافذة دعم محورية له، قبل الحرب وخلالها، وهو ما يعكس تناقضًا صارخًا يفضح الكثير من المسكوت عنه في تلك العلاقة الجدلية بين “إسرائيل” وأوروبا، وهي علاقة مقيدة بتروس من المصالح المتشابكة، يصعب تفكيكها أو تجاوزها، تفتقد للإرادة السياسية القادرة على قلب المعادلة إذا ما توفرت.
ومن هنا يمكن قراءة ما طرأ على الموقف الغربي مؤخرًا من دعم سياسي لغزة، كنوع من “الترضية الرمزية”، تُقدّم للفلسطينيين والعرب والجاليات المسلمة، وليس كانتفاضة أخلاقية كما يحلو للبعض أن يسميها، تعويضًا عن التواطؤ الفعلي في الحرب أو المراوغة في الضغط الجاد على الاحتلال، فهي محاولة لإمساك العصا من المنتصف.
أما الانقسام الذي يخيم على القرار الغربي بصفة عامة فهو أقرب لتبادل أدوار، تفتيت للمواقف عبر تعدد الرؤى وتباين التوجهات، مما يجهض أي نقلة محتملة في تحول الأمر من رمزية سياسية إلى إجراءات ملموسة، وهو ما تستوعبه تل أبيب جيدًا، وتتفهم دوافعه، طالما أنه يخدم أجندتها، ولم يفارق بعد حاجز التهديدات والتصريحات الرنانة.
في الأخير.. وانطلاقًا من قاعدة “ما لا يٌدرك كله لا يٌترك جله” فإن الاستثمار في هذا المشهد المعقد المٌربك ضرورة قومية، تتطلب هندسة استراتيجية دقيقة في توظيف الجانب الإيجابي من هذا الانقسام، حتى وإن بدا شكليًا، لتعزيز الجدار التراكمي السياسي الداعم لفلسطين وحقوق شعبها، الأمر الذي يتطلب جهدًا دبلوماسيًا وإعلاميًا خارقًا، من كافة الأطياف.