تحت غطاء تمهيدٍ ناريٍّ كثيف، تمضي الخطة الإسرائيلية لاستكمال احتلال قطاع غزة إلى مراحل التنفيذ، مع تركيزٍ على محيط مركز مدينة غزة؛ الهدف الأول لما تُسميه دوائرُ صنع القرار في تل أبيب عملية “عربات جدعون 2″، القائمة على التدمير الشامل والسيطرة على الأرض وإفراغها من سكانها ومنع عودتهم.
في هذا المشهد، يعود إلى أذهان الغزيين الكابوسُ الأكثر استنزافًا: الدفعُ القسريّ للنزوح وتركُ ما تبقّى من منازلهم وخيامهم والتوجّهُ جنوبًا؛ وهو خيارٌ تضعه نوايا الاحتلال المُعلنة في قلب مخططات توسيع العدوان.
ولا تتوقف المخاوف عند مشقة الرحلة وألمها؛ فهذه المرّة يلوح التهجير كخروجٍ بلا عودة، مع تحوُّل نمط التقدُّم العسكري إلى تمركزٍ طويل الأمد يُغلق الأحياءَ في وجه سكانها ويحول دون رجوعهم، ما يضاعف القلقَ من تأبيد المأساة، وأن يصبح التهجير المخرجَ الوحيدَ لمن ينجو من الموت الفوريّ.
أهالي مدينة غزة اليوم بين تمزقٍ وخوفٍ من مجهولٍ لا يعرفون إلى أين سيحملهم، يخشون فقدانَ مدينتهم التي كانت قلبَ القطاع ونبضه؛ ورغم أن الدمار يملأ المشهد، يبقى وقعُ خسارتها أوجعَ من الجوع والتشتيت والقصف المتواصل. إنه ألمٌ مركّب تختلط فيه كلُّ المشاعر.
من ملامح الحياة إلى آثار الخراب.. كيف غيّر الاحتلال وجه أحياء ومخيمات غزة؟ pic.twitter.com/aqw1DxjnKB
— نون بوست (@NoonPost) August 22, 2025
قلوب تتفجّر
تختلط مشاعر الغزيين بين الإرهاق والألم والحسرة على ما كان وما قد يكون، وكثيرون لا يجدون الكلمات لشرح ما يعتمل في صدورهم، منهم من لا يريد أن يترك بيته – أو ما تبقى منه – ومن يرفض مغادرة حارته أو إعادة خوض التجربة من جديد.
تقول أم المعتز، من مدينة غزة: “لما بسمع كلمة “إخلاء غزة” بحس قلبي بينفجر. أنظر لبيتي اللي عمرته بدموعي وتعب سنين، وما بقدر أتحمل فكرة تركه. بعرف إن النموذج الجاي هو تدمير ومسح لكل ما تبقى من المدينة”.
وتتابع: “بمشي في شوارع غزة اللي بحبها وبحكي لنفسي: يمكن تكون آخر مرة بقدر أمشي فيها هون. أصوات القذائف والتمهيد الناري بحي الزيتون والصبرة بتقول إن الجاي أصعب وأكبر”.
عرض هذا المنشور على Instagram
وتضيف لـ”نون بوست”: “بدي آخذ من كل شارع شوية رمل وأكتب اسمه عشان يضل معي، بصور أولادي بكل مكان وبكل زاوية، عشان تضل الذكريات حاضرة”. وحول فكرة النزوح تقول: “الخوف من الإخلاء القسري يذبحني، ما بقدر أتقبل التجربة من أول وجديد؛ مؤلمة بكل تفاصيلها”.
ثم تختم: “غزة مش مجرد مدينة، إحنا بنحبها وبنحب تفاصيلها… حتى ركامها بنحبه. غزة روحي. وإذا اضطرينا نطلع منها قسرًا، رح تضل وطنًا وحنينًا مهما صار”.
النجاة فقط
بين حقيبة موضوعة قرب الباب وخرائط إخلاء تتبدل كل ساعة، يقف سكان مدينة غزة أمام سؤال واحد: كيف ننجو؟ يعرفون الوجع جيدًا، لكنهم يواجهونه اليوم منهكين وعلى مدى أطول، وتحت تهديد يبدو الأعنف حتى الآن.
يقول الشاب محمود مصطفى لـ”نون بوست”: “فكرة إننا نعيش النزوح مرة جديدة مرعبة، مع إننا عشناها مرات كثيرة من أول أشهر الحرب: من غزة إلى خانيونس إلى رفح إلى دير البلح، ورجعنا إلى غزة بآخر اتفاق تهدئة، بكل مرة كنا أنا وأسرتي نحاول النجاة… والنجاة فقط”.
ويضيف مصطفى: “المختلف هالمرة إننا رجعنا إلى غزة وكنا مفكرين إن النزوح انتهى، واليوم كل الظروف تغيرت، خانيونس مدمرة، ورفح مدمرة، وحتى فرصة تِلاقي مكان – ولو خيمة – صارت شبه مستحيلة”.
وعن الاستنزاف، يُكمل محمود: “الإبادة أنهكتنا بالكامل، ما عاد عندنا طاقة أو تحمّل لأي نزوح جديد… لليوم بعيش حالة إنكار داخلية، وكأنه اللي صار ما صار، وما بدي أرجع أعيش تجربة النزوح من أول وجديد”.
وبينما يتردد القرار في البيوت، تُجهز حقائب صغيرة تحتوي أوراقًا ثبوتية، أدوية الأطفال، بطانية خفيفة، عبوة ماء، وشحنًا أخيرًا للهواتف تحسّبًا لانقطاع الاتصال، في مدينة تركض بين جبهات النار، وتتلخص الخطة في كلمتين: النجاة فقط.
انتظارٌ معلق على قشة هدنة
لا يتوقف الألم في غزة عند خيار بعينه أو نمط محدد؛ صار كل تفصيل يومي وكل لحظة عنوانًا للقهر والاستنزاف، يطارد الناس في أماكنهم وفي وجدانهم، ومع اقتراب الحرب من عامها الثاني، ما زال الغزيون يقارعون الموت ويبحثون عن حياة ممكنة في كل زاوية، فيما يظل الموت حاضرًا منذ اليوم الأول، وعدو قرر ألا سقف لجرائمه، وكأنه يطبق “كتالوجًا” كاملاً لانتهاكاتٍ يندى لها جبين الإنسانية، بغطاء وضوء أخضر واضح من عالمٍ ظالم.
يقول المعلم رامز حسن لـ”نون بوست”: “الأشد إيلامًا في كل الجولات هو النزوح المستمر والتشتت الدائم، للحظة تتوهّم أنك نجوت من الموت، لكن كل تجربة نزوح تأكل من روحك ومن صحتك وحياتك”.
ويضيف: “تخيل لدرجة أن صحتي تتراجع. أُقبل على الطعام بشراهة كلما استقرينا في مكان، وما إن تلوح إشاعة نزوح حتى تختفي الشهية، تعلو العصبية، وتكبر المشاكل لأتفه الأسباب”.
وعن القادم، وسط الأخبار المتضاربة حول عملية عسكرية تستهدف استكمال السيطرة والتدمير والتهجير في مدينة غزة، يقول حسن: “سأبقى حتى آخر رمق متعلقًا بقشةٍ اسمها إعلان الهدنة… بإيقاف هذه العملية ضدنا هنا”.
هل تساءلت يومًا لماذا يرتعب الغزيون من فكرة النزوح؟.. ناشطة غزّية تشارك تجربتها المريرة. pic.twitter.com/u3xQdtzTl5
— نون بوست (@NoonPost) August 18, 2025
وعن الشعور الحالي، يضيف: “للأسف، كل جولة وكل معركة تحمل أساليب مبتكرة لإيلامنا وإيجاعنا… لمرمطة حياتنا وشحطتنا”. ثم يتنهد: “في العالم الطبيعي، كل يوم أفضل من سابقه؛ أما في عالمنا – عالم الإبادة الذي لا يعرفه باقي العالم – فإن أمس أفضل من اليوم، واليوم أحسن من غد لا نعرف ماذا يحمل”.
هكذا يعيش أهل غزة على حافة الانتظار، يرفضون النزوح ولا يريدونه، ويبحثون عن النجاة التي لا يعرفون أين تكون، في مشهد صار فيه الموت العنوان الأبرز؛ فمن لم يمت بالصواريخ، يخشى أن يختطفه الجوع، أو يسقط عند “مصائد الموت” بحثًا عن طعام لأبنائه، وتُضاف اليوم خشية أخرى: الموت قهرًا بالتشريد والاقتلاع، وفقدان ما تبقى من بشرٍ وحجرٍ وأرض.
سننجو.. لكي نعيش هنا
في نهاية هذا الطريق المثقل بالإنذارات وملامح التشريد، يبقى السؤال الأكبر معلّقًا فوق غزة: هل تُقتلع مدينة من قلوب أهلها؟ يعرف الغزيون أن الموت يداهم الأبواب، وأن الخرائط تتبدل كل ساعة، لكنهم يعرفون أيضًا أن المدن لا تُحمَل على الأكتاف، بل تُحمَل في الذاكرة وفي الإصرار على البقاء.
على حواف الأزقة التي صارت خطوط تماس، تتكوّم تفاصيل الحياة: من دفتر مدرسة مختوم بالطين، دواءٍ لرضيع في كيس نايلون، صورةٍ قديمةٍ لبيت لم يبقَ منه سوى اسم الشارع. هذه البقايا ليست حنينًا فقط؛ إنّها بيانٌ شخصيّ ضد الاقتلاع، ولسان حال يقول: سنحفظ المكان لكي لا يضيع.
أهل غزة يتقلبون على جمر ذكرياتهم.. ناشطة غزّية تشارك حكايات النكبات المتكررة، من تهجير الجدّات إلى حروب الحاضر، حيث يتحول مفتاح بيت قديم إلى رمز حياة كاملة تُسلب منهم. pic.twitter.com/TFj6r9jXqG
— نون بوست (@NoonPost) August 22, 2025
قد تُفتح طرق نحو جنوبٍ ضيّقٍ لا يتّسع لقلوب كبيرة، وقد يُعاد رسم الحدود داخل المدينة ذاتها، لكنّ المعادلة التي تتردد في البيوت واحدة: “نريد الحياة هنا”، ولا تُقاس هذه الرغبة بالشعارات، بل بالاختيارات الصغيرة الشاقّة، كأن ينام الناس بأحذيتهم تحسّبًا، وأن يُصرّوا في الوقت نفسه على تحضير فطور بسيط كل صباح؛ أن يكتبوا أرقام الهواتف والأسماء على أذرع أطفالهم.
لهذا، فإنّ كل دعوة إلى “إخلاء” يُدّعى أنه عبر “مسار آمن” تبدو لأهل المدينة تناقضًا لغويًا ووجوديًا في آن، فالأمان الحقيقي هنا ليس في الخروج، بل في وقف القتل، وتجريم التجويع، ومنع التهجير، وفي فتح طريقٍ لعودة كريمةٍ لمن اُقتلعوا من قبل. وما لم تُسمع هذه الحقيقة، ستواصل غزة ترديدها بصوت الناس، لا ببيانات السياسة.
غزة اليوم على حافة قرار يُراد له أن يكون نهائيًا؛ أمّا أهلها، فقرارهم مؤقت ودائم معًا: سننجو… لكي نعيش هنا، وإن اضطروا للابتعاد قسرًا، سيبقون يتركون خيطًا من الرمل خلفهم؛ طريقَ عودةٍ يلمع في الذاكرة كلما ابتعدت المسافة.