تتصاعد مجددًا الأسئلة حول مستقبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بعد أن كشفت تقارير صحفية عن استعدادات عسكرية تقوم بها الحكومة السورية ضدها. هذه التطورات تعيد إلى الواجهة واحدةً من أكثر القضايا حساسيةً في الملف السوري؛ والذي يزيد من تعقيده موقف الولايات المتحدة من حليفها الكردي، الذي شكّل لسنوات ذراعها الأبرز في الحرب ضد تنظيم “داعش”، وأداة نفوذها الأهم في شمال وشرق سوريا.
فالولايات المتحدة، التي استثمرت مليارات الدولارات في تدريب وتسليح “قسد”، تجد نفسها اليوم أمام معضلة استراتيجية؛ هل تحافظ على شريكها العسكري رغم ما يثيره من توتر مع دمشق وأنقرة وحتى بعض العواصم الإقليمية؟ أم أنها قد تغض الطرف عن عملية عسكرية تستهدفه، مقابل حسابات أوسع تتعلق بأمن المنطقة وترتيب التوازنات مع الحلفاء والخصوم على حد سواء؟
تجهيزات ميدانية
تشير التطورات الميدانية الأخيرة إلى أن دمشق تتجه نحو تصعيد عسكري محتمل ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بعدما دفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس في شمال وشرق البلاد. ففي 11 آب/أغسطس، أرسلت وزارة الدفاع السورية وحدات عسكرية من الفرقتين 60 و76 إلى سد تشرين ودير حافر بريف حلب الشرقي، وإلى منطقة الزملة في ريف الرقة الجنوبي، وذلك عقب سلسلة من الاستهدافات التي طالت قواتها على يد “قسد”، وفق ما أفادت مصادر مطلعة لوكالة الأنباء الألمانية.
وفي موازاة هذه التحركات، كشفت صحيفة ذا ناشيونال، نقلًا عن مصادر أمنية، أن الجيش السوري يخطط لشن عملية عسكرية واسعة بحلول تشرين الأول المقبل، تهدف إلى استعادة مناطق سيطرة “قسد” في الرقة ودير الزور. وأشارت الصحيفة إلى أن نحو 50 ألف مقاتل يتم حشدهم في محيط تدمر والسخنة استعدادًا للتقدم شمالًا نحو ضفتي الفرات، وسط تعويل على دعم القبائل العربية التي تشكّل الأغلبية السكانية في هذه المناطق.
وتتحدث تقديرات ميدانية عن احتمال انشقاق آلاف المقاتلين العرب من “قسد”، الذين يشكّلون ما يقارب 30% من قوامها البالغ 70 ألف عنصر، وذلك بسبب خلافات متراكمة مع القيادات الكردية. وتزامنًا مع هذه الاستعدادات، نقل موقع ميدل إيست آي أن واشنطن وأنقرة منحتا قائد “قسد” مظلوم عبدي مهلة 30 يومًا لتسريع عملية الانضمام إلى دمشق، وفق اتفاق آذار/مارس الماضي، مع تحذيرات من أن التحالف الدولي “قد لا يتمكن من حمايتهم” في حال شنت الحكومة السورية هجومها.
ويرى محللون أن انخراط القبائل العربية في المعركة سيغيّر مسارها بشكل جذري، فيما قد يؤدي فشل الحوار بين دمشق و”قسد” إلى مواجهة مفتوحة تُعيد إشعال جبهات خامدة منذ سنوات.
في المقابل، دفعت “قسد” بتعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس في الرقة ودير الزور، لا سيما قرب سد تشرين، تحسبًا لأي هجوم مباغت، ما يرفع من احتمالات اندلاع مواجهة وشيكة قد تُعيد رسم خريطة النفوذ في شرق سوريا وتضع القوى الدولية أمام معادلة جديدة.
الموقف الأميركي.. بين الحماية والصفقة
يبقى الموقف الأميركي العاملَ الأكثرَ حساسيةً في أيّ سيناريو عسكري ضد قوات “قسد”، إذ تؤكد مصادر مطّلعة أن دمشق لا يمكن أن تُقدِم على عملية واسعة من دون موافقة ضمنية من واشنطن. ونقلت صحيفة ذا ناشيونال عن مسؤول أمني سوري رفيع أن “أي عملية عسكرية لن تتم من دون ضوء أخضر أميركي”، مشيرًا إلى أن ضمان عدم تدخل إسرائيل يمثل شرطًا حاسمًا، خاصة بعد الضربة الجوية الأخيرة التي استهدفت دمشق لمنع هجوم حكومي على السويداء.
لكن باحثين يرون أن واشنطن لا تبدو في وارد السماح بانهيار كامل لـ”قسد”. إذ يوضح الباحث في الشأن الكردي أسامة شيخ علي أن الولايات المتحدة استثمرت كثيرًا في هذه القوات، بوصفها حليفًا رئيسيًا في الحرب على الإرهاب، ولا يمكنها التفريط بها بسهولة، سواء لأسباب استراتيجية أو لصورة واشنطن أمام الرأي العام الغربي.
ويضيف شيخ علي لـ”نون بوست”: إن “الانسحاب من أفغانستان وترك الحلفاء بتلك الطريقة ما زال حاضرًا في الذاكرة الأميركية، ولذلك من الصعب أن تسمح واشنطن بعملية كبيرة تؤدي إلى انهيار قسد”.
ويذهب في الاتجاه ذاته مديرُ وحدة الدراسات في المركز العربي لدراسات سورية معاصرة، سمير العبدالله، الذي يرى خلال حديثه لـ”نون بوست” أن الحديث عن حسم عسكري شامل ليس مطروحًا بشكل جدّي، لافتًا إلى أن واشنطن ما زالت تفضّل لعب دور الوسيط بين الطرفين، ودفع مسار تفاوضي سياسي أكثر من تبنّي مواجهة مفتوحة.
ووفق العبدالله، فإن التحركات العسكرية الحالية يمكن قراءتها كأدوات ضغط متبادلة تهدف إلى كسب أوراق سياسية، وليس تمهيدًا لهجوم شامل.
من جانب آخر، شدّد المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في تصريحات سابقة لوكالة الأناضول، على أن “الجهة الوحيدة التي ستتعامل معها واشنطن هي الحكومة السورية”، مؤكدًا أن الحل السياسي يجب أن يمر عبر دمشق، في رسالة بدت كتحذير مباشر لـ”قسد” التي تُتّهم بالمماطلة في تنفيذ اتفاق آذار/مارس مع الرئيس أحمد الشرع.
هواجس واشنطن من تأييد عملية عسكرية ضد “قسد”
رغم الحديث المتصاعد عن عملية عسكرية سورية مرتقبة ضد قوات “قسد”، فإن الموقف الأميركي يظل محكومًا بهواجس استراتيجية معقدة تتجاوز حسابات المعركة الميدانية.
فالإدارة الأميركية تدرك أن أيّ انهيار شامل لـ”قسد” قد يفتح الباب أمام فراغ أمنيّ خطير يُعيد تنظيم “داعش” إلى الواجهة، ويفسح المجال لتوسّع نفوذ إيران وروسيا في شرق الفرات، فضلًا عن تأثير ذلك على توازن العلاقة مع تركيا، الحليف في حلف الناتو، وذلك بحسب الباحث في شؤون شرق سوريا، سامر الأحمد.
ويضيف الأحمد أن هناك دلائل على تنسيق أمني موضعي بين واشنطن والحكومة السورية في العمليات الأخيرة ضد خلايا “داعش”، مثلما جرى في بلدة أطمة في ريف إدلب الشمالي ومدينة الباب، حيث تمت اعتقالات مشتركة.
هذا التحول في المقاربة — يتابع الأحمد — يعكس استعدادًا أميركيًا للتعامل مع دمشق في قضايا محدودة، ما يعني أن واشنطن قد لا تعارض عمليات عسكرية محدودة ضد “قسد”، شريطة ألّا تؤدي إلى انهيارها الكامل.
ورغم أن وزارة الدفاع الأميركية خصصت في مشروع ميزانية 2026 نحو 130 مليون دولار لدعم مجموعات مسلّحة في سوريا، أبرزها “قسد”، إلا أن المؤشرات تفيد بوجود توجه لتقليص الالتزامات الأميركية المباشرة هناك. وقد ظهر ذلك في إعلان البنتاغون نيته نقل مسؤولية ملف “داعش” تدريجيًا إلى الحكومة السورية، وهو ما يعكس رغبة في التخفف من عبء هذا الملف.
ومع ذلك، فإن هواجس واشنطن مستمرة، فبحسب وكالة رويترز، بدأت مؤشرات عودة نشاط تنظيم “داعش” بالظهور من جديد في سوريا والعراق، حيث رُصدت تحركات لمقاتلين أجانب يُعتقد أنهم توجهوا إلى سوريا خلال الأشهر الأخيرة، الأمر الذي يثير قلقًا أمنيًا واسعًا في واشنطن والعواصم الأوروبية، ويدفعهم لاستمرار التنسيق والعمل مع قوات “قسد” في هذا المجال.
وفي هذا السياق، يلفت المراقبون إلى أن تصريحات إيجابية من مسؤولين أميركيين، مثل المبعوث توماس باراك الذي أكد ضرورة التعامل مع الحكومة السورية، لم تُبدّد تمامًا شكوك إدارة دونالد ترامب تجاه السلطة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع. وبالتالي، يبقى الموقف الأميركي متأرجحًا بين دعم “قسد” كأداة للنفوذ، وبين البحث عن ترتيبات جديدة تضمن مصالحها الاستراتيجية من دون الانخراط المباشر.
تضارب الأجندة الإقليمية والدولية
يحتل ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) موقعًا حساسًا في شبكة المصالح الدولية والإقليمية، حيث يتقاطع فيه النفوذ الأميركي مع الهواجس التركية والمطامح الفرنسية، مما يجعل أي مقاربة لحسم هذا الملف رهينة بتوازنات أكبر من الميدان السوري نفسه.
وفي هذا السياق، يقول الباحث سمير العبدالله إن الولايات المتحدة، رغم دفعها باتجاه حل سياسي بين دمشق و”قسد”، حريصة على تجنّب الانزلاق إلى مواجهة عسكرية قد تُضعف نفوذها في شرق سوريا. ولهذا، لم تمارس حتى الآن ضغطًا حقيقيًا على “قسد”. في المقابل، ترى تركيا أن الملف يرتبط مباشرة بأمنها القومي، وتصر على أن أي اتفاق لا يلبي شروطها يُعدّ مرفوضًا، أما فرنسا فتبحث عن موطئ قدم في المعادلة السورية المقبلة عبر الانفتاح على الأقليات، مستثمرةً في ثغرات المشهد الدولي، لكنها تظل محدودة التأثير مقارنة بواشنطن أو أنقرة.
من جانبه، أكّد المندوب التركي أحمد يلدز الأهمية البالغة لتنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار الماضي بين الحكومة السورية وتنظيم “بي كي كي/واي بي جي”، الذي يستخدم اسم “قسد”، لافتًا إلى أن تركيا لم تلحظ حتى الآن خطوات موثوقة من قبل “قسد” لخفض التوتر.
وجدّد يلدز، في جلسة مجلس الأمن الخاص بسوريا في 22 أغسطس/آب الجاري، دعوة تركيا إلى تفكيك هذا الكيان ونزع سلاحه بالكامل، داعيًا إلى ممارسة المزيد من الضغوط على “قسد” التي، بحسب وصفه، تسعى إلى إطالة أمد حالة الغموض واستغلال الأزمات المحتملة لمصالحها.
في ضوء هذا المشهد المعقّد، يبدو أن مستقبل “قسد” سيظل مرتهنًا بمعادلة المصالح بين القوى الفاعلة، وأن أي حل واقعي يتطلب توافقًا إقليميًا ودوليًا يراعي الهواجس الأمنية ويضمن توازن النفوذ في شرق سوريا.