تمر الأسرة أحيانًا بلحظات صعبة ترتفع فيها حدة الخلاف، أو يصبح خيار الانفصال حاضرًا، فترتبك مشاعر الأطفال وتُثار لديهم تساؤلات كبيرة، قد لا يعرف الأهل دائمًا كيف يجيبون عنها، فالطفل حين يسمع كلمة “طلاق”، أو يشهد شجارًا بين والديه، يحتاج إلى لغة بسيطة تمنحه الأمان، وتساعده على فهم ما يجري دون خوفٍ أو شعورٍ بالذنب.
في حديثنا مع الأطفال عن الخلافات الزوجية، تخبرنا أخصائية الإرشاد الأسري، الأستاذة إباء أبو طه، أنه من المفيد أن نبدأ بالشرح من عالمهم، حيث تكون التجربة أقرب والفهم أسهل، فالطفل يعرف أن الأصدقاء قد يختلفون في المدرسة أو في ساحة اللعب حول لعبة، وقد يمتنع أحدهم عن الكلام مع صديقه لأنه مستاء من موقفٍ ما، ومثل هذه المواقف اليومية البسيطة تمنحنا مدخلًا لنقول للطفل: كما يختلف الأصدقاء ثم يعودون للتفاهم، قد يحدث الخلاف أيضًا بين أفراد العائلة.
من هنا، يمكن أن يفهم الطفل أن الخلافات جزء من الحياة اليومية، بينه وبين صديقه، بينه وبين أخته، أو حتى مع أحد والديه، وبالتالي يمكن أن نشرح له أن الخلاف بين الأم والأب ليس أمرًا غريبًا أو مخيفًا، بل حالة طبيعية مثل باقي الخلافات، مع فرق أنها تتعلق بقرارات الكبار ومسؤولياتهم.
إباء أبو طه، كاتبة ومدونة في الشأن الاجتماعي، ومرشدة زواجية وأسرية، تخرّجت في قسم الصحافة والإعلام، ثم حصلت على ماجستير في الإرشاد الزواجي والأسري. أسست مبادرة “لتسكنوا إليها” لتأهيل المقبلين على الزواج وتمكين الأسر الفلسطينية، وعملت محررة في قناة القدس الفضائية، ولا تزال تواصل الكتابة في قضايا المجتمع والأسرة، وتقديم إرشادات تربوية وزوجية تدعم الاستقرار الأسري وتعزّز الوعي المجتمعي.
يقدّم هذا التقرير للوالدين والمربين أساليب للحديث حول الخلافات الزوجية والطلاق مع الأطفال بطريقةٍ بسيطةٍ وواقعية، تبدأ من تجاربهم الصغيرة وتبني تدريجيًا لفهم العالم الأكبر، والهدف هو أن يجد الطفل لغةً تمنحه الطمأنينة، ويشعر أن وجود الخلاف لا يعني انهيار عالمه وفقدان مصادر أمانه.
ويأتي هذا التقرير ضمن ملف “كيف أحكي لطفلي عن..؟”، الذي نستضيف فيه مجموعة من الخبراء والمتخصصين للإجابة عن أسئلة الأطفال حول قضايا حياتية متنوعة، تشمل الخلافات الزوجية، والتعامل مع المال والأجهزة الذكية، وبناء الصداقات، وفضولهم حول الدين.
لماذا يتجادل أبي وأمي بصوت عالٍ؟ وهل هذا طبيعي بين الأزواج؟
الخلاف أمر شائع للغاية بين الناس عمومًا؛ قد تحدث خلافات بين الأصدقاء، أو بين الإخوة في المنزل، أو بين أحد الوالدين والأبناء، وأيضًا قد يحدث خلاف بين الأب والأم، فالمسألة هي، في الدرجة الأولى، تطبيع فكرة الخلاف، وأن وجود الخلاف طبيعي جدًا في حياتنا اليومية، إلا أن المشكلة في ردة الفعل على هذا الخلاف؛ فالصراخ والشتم والإهانة هو غير المقبول.
تحدث الجدالات أحيانًا بسبب غياب مهارات التواصل الجيد أو التواصل الفعال، مثل الإصغاء والتعبير عن المشاعر واحتواء مشاعر الطرف الآخر، كما أن ضعف التنظيم العاطفي والذكاء الانفعالي، أي القدرة على إدارة العواطف بشكل جيد، يجعل الزوجين غير قادرين على فهم مشاعرهم أو مشاعر الطرف الآخر والتعامل معها بشكلٍ صحيح، فيتصرفون بطرق غير مناسبة.
وعمومًا، يختلف الأزواج لأسباب كثيرة، منها أن كل واحد ينتمي لبيئة أو تربية مختلفة، وأحيانًا تكون قيمهم مختلفة، مثل أن تكون لدى أحدهما أولوية لقيمة الصداقة أو العمل أو تكوين العلاقات أو المال، بينما تكون القيم الأعلى لدى الطرف الآخر هي قيمة تربية الأطفال أو الاستقلالية أو الحرية أو التدين، وعدم وجود القيم المشتركة يؤدي إلى فجوة بين الأزواج.
وأيضًا من الأسباب الأخرى التوقعات العالية أو غير المنطقية، مثل أن يتوقع الزوج من زوجته أن تكون عاملة وزوجة وأمًّا وصديقة في الوقت نفسه، أو أن تتوقع الزوجة أن يكون زوجها دائمًا بمزاج معين، أو يعبر عن مشاعره، وهذه التوقعات تسبب مشكلات كثيرة إذا لم يتم تلبيتها أو التفاهم حولها، وهذا لا يعني أن الزوجين لا يحبان بعضهما.
لماذا أشعر بالخوف أو القلق عندما أسمع أبي وأمي يتجادلان؟ وماذا يمكنني أن أفعل في تلك اللحظات؟ ومع من أستطيع أن أتحدث عن خلافات والديّ؟
أحيانًا، غياب فهمنا لطبيعة الخلافات ونقص المعرفة يجعلنا نعاني من اضطراب في مشاعرنا، لذا من المهم معرفة أن الخلاف لا يعني نهاية الأشياء. مجرد الخلاف لا يعني أنني أفقد ماما أو بابا أو أفقد صديقي أو أفقد أختي، وهو لا يعني غياب الحب والأمان.
يعلمنا الخلاف كيف نتعامل مع الآخرين، وكيف ندير مشاعرنا بطريقة أفضل، وكيف نصلح علاقاتنا ونرمّمها، مثلًا عندما أُخطئ مع صديقي، فهذا الخلاف يعلمني كيف أعتذر، كيف أقول “آسف”، وكيف أنصت للآخرين. تذكر آخر مشكلة حدثت بينك وبين صديقك، هل توقفتم عن كونكم أصدقاء؟ ماذا تعلمت من هذا الخلاف؟
وإذا رأى الطفل أو سمع والديه يتجادلان، فمن الأفضل أن يذهب إلى غرفته ويمارس نشاطًا يريحه، مثل الرسم أو التلوين أو اللعب أو الدراسة أو الاستماع إلى الموسيقى، فهذه الأمور تساعده على الهدوء، ومن المهم أيضًا أن يشارك مشاعره مع والديه، فيخبرهما بما شعر به عندما سمع الجدال.
من الضروري للغاية التأكيد على أهمية مشاركة مشاعر الحزن مع الأب والأم، أو شخص بالغ أهل للثقة، مثل المعلمة في المدرسة، أو شيخ الجامع. وأيضًا، يمكن قراءة قصص عن الأشكال المختلفة للعائلات، والحديث والدردشة مع أطفال في نفس المرحلة العمرية مروا بتجربة تشبه تجربة العائلة، وهذا يساعد في الشعور بالمشاركة، وأن هذا الارتباك موجود لدى أطفال وعائلات أخرى كثيرة.
هل الخلافات تعني أن أحدهما مخطئ والآخر على حق دائماً؟ وكيف يمكنني مساعدة أبي وأمي في حل خلافاتهما؟
في الخلافات بين الأب والأم لا يكون أحدهما مخطئًا بالكامل والآخر محقًا تمامًا، فغالبًا ما يكون لدى كليهما أخطاء، والزواج يشبه مركبًا يحتاج إلى مجدافين كي يسير، وعلى الزوجين أن يتقاسما الجهد والوقت والمسؤوليات معًا. وأحيانًا قد يكون خطأ أحدهما أكبر من خطأ الآخر، لكن هذا لا يعني أن الطرف الآخر ليس لديه أي خطأ.
ومن الممنوع إشراك الطفل في هذه الخلافات، لأنه غير قادر على المساعدة، وليست وظيفته أو مهمته أن يتدخل. ماما وبابا أشخاص بالغون عاقلو، وقادرون على التوجه إلى من يمكنه مساعدتهم إذا لزم الأمر. ما يستطيع الطفل فعله هو أن يشارك والديه مشاعره فقط، وأن يحاول القيام بما يخفف عنه مشاعر القلق والتوتر والحزن. ومن الضروري أن يؤكد الأهل دائمًا على فكرة أن الطفل ليس مسؤولًا عن حل الخلاف؛ الخلاف شأن يخص الزوجين، وهما القادران على التعامل معه وحله بمفردهما.
في الوقت نفسه، لا يعني ذلك إهمال ما يقوله الطفل؛ فمن المهم الإصغاء لأسئلته أو الحلول التي يقترحها، لأنها تكشف حجم مخاوفه وتساؤلاته، لذلك يستحسن استقبال هذه الطروحات باعتبارها شيئًا رائعًا، مع التأكيد في النهاية أن مسؤولية المشاكل تقع على عاتق الأبوين فقط، وهما من يقرران الطريقة المناسبة لحلها.
هل شجار أبي وأمي يعني أنهما سيتطلقان؟ وهل الطلاق يعني أن عائلتنا ستنتهي ولن أراهم معًا مرة أخرى؟
يمنحنا الشجار أحيانًا إشارة إلى أننا بحاجة للعمل على علاقتنا، ونتعلم كيف نتحاور مع بعضنا بصوت منخفض، وكيف نتفق على بعض الأمور الخلافية، وكيف نعبر عن احتياجاتنا، وليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى الطلاق، وإنما يعطينا مثل جرس إنذار أو إشارة حمراء، تنبهنا إلى أن هناك مشكلة نحتاج إلى التوقف عندها وحلها، لكي تكون حياتنا حياة طبيعية وآمنة وسعيدة ومستقرة.
وبالعموم، الطلاق هو طريقة لحماية العلاقة، وليس لإلحاق الضرر بها، ويكون بعد استنفاد كل المحاولات للتوافق وإصلاح الأمور، لكن ليست كل المشاكل قابلة للإصلاح أو التأقلم معها. يساعدنا الطلاق على الحفاظ على الصحة النفسية للأبناء، وأيضًا على استمرار كلا الأبوين في الحياة بشكل إيجابي، دون أن تعكر صفو حياتهما الاختلافات الكثيرة التي لا سبيل للتعايش معها. وأحيانًا، يكون الطلاق حبل النجاة لجميع أفراد الأسرة، بعد استنفاد كل الطرق.
بعد الطلاق، لن نفقد عائلتنا، ولكن شكل هذه العائلة وأسلوب حياتنا سيختلف، فلن تكون عائلتنا المكونة من بابا وماما وإخوتي تعيش تحت سقف واحد، وقد يصبح لدينا أربع عائلات، مثلًا قد أعيش أنا وماما وإخوتي، أو أنا وبابا وإخوتي، أو أنا وماما وعائلتها، أو أنا وبابا وعائلته، فالفكرة هي أنه في حالة الطلاق، نحظى بعائلات مختلفة متعددة وممتدة، أو بعائلاتٍ شكلها سيكون مختلفًا عن العائلة التي اعتدنا عليها، ولكن لن نفقد تواصلنا أو لقاءاتنا مع بقية أفراد العائلة، ويمكن أن نقرر بشكل مشترك في أي منزل، ومع من نفضل أن نعيش حياتنا اليومية.
إذا تزوج أحد والديّ من شخص آخر، هل سيؤثر ذلك علي؟
الإنسان هو من يحدد إذا كان هذا الأمر سيؤثر عليه أم لا، فهناك من يتأثر، وهناك من لا يتأثر، لكن الأهم أن ندرك أن من حق بابا أن يتزوج، ومن حق ماما أن تتزوج، ومن حق كل إنسان أن يكمل حياته ويعيش سعيدًا، وبالطبع، يمكنك مشاركة مشاعرك مع الوالدين، وأن تطلب منهما أن يخبراك عن الشريك الجديد؛ من هو؟ وما الذي يشبهنا فيه كعائلة؟ وما هي ميزاته؟
ومن المهم أن يوضح الأهل للطفل أن هذا الشخص ليس بديلًا عن ماما أو بابا، وإنما له دور مختلف، قد يكون دور الناصح أو المرشد، ويقوم بدور الرعاية إذا كان مقيمًا في البيت، لكنه لا يُغني أبدًا عن وجود الأبوين الحقيقيين، والطفل أيضًا له الحق أن يحدد كيف يريد أن تكون هذه العلاقة، وأن يعبر عن مشاعره وحدوده وما يحتاجه من دعم وتوجيه.