مثلت الأحداث الأمنية الأخيرة التي شهدتها محافظة السليمانية في شمال شرق العراق، وإحدى المدن الرئيسة في إقليم كردستان، تحولاً مهماً في سياق العمل السياسي في الإقليم، فهي المرة الأولى التي يشهد فيها الإقليم مثل هذا العنف السياسي منذ الأحداث التي شهدها الإقليم في تسعينيات القرن الماضي، عندما اندلعت مواجهات دامية بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
وفي هذا السياق، جاءت الأحداث الأخيرة التي شهدتها السليمانية بعد مذكرة اعتقال صدرت عن محكمة السليمانية بحق رئيس حزب جبهة الشعب لاهور شيخ جنكي، وفق المادة 56 المتعلقة بـ(بتجمع مجموعة من الأشخاص بهدف إثارة الاضطرابات الأمنية والسلامة العامة)، وبغض النظر عن مدى صدق هذه الاتهامات؛ فإن الواقع يشير إلى أن هذه المذكرة يبدو أنها جاءت بعد ضغوط مارسها زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني، بعد استشعار خطر الشيخ جنكي، والذي انخرط في صراع سياسي واضح المعالم مع الشيخ جنكي منذ عام 2021، عندما اتهمه طالباني بشكل واضح بتدبير عملية اغتياله، لتبدأ فصول صراع سياسي بين الطرفين تداخلت فيها العديد من المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة بالمحافظة.
وعلى خلفية رفض الشيخ جنكي تسليم نفسه، تقدمت فجر الجمعة الموافق 22 آب/ أغسطس قوة خاصة تابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وأحاطت بالفندق (لازار بلاز) الذي كان يقيم به الشيخ جنكي، ودخلت بمواجهات دامية مع قوات العقرب وهي مليشيا خاصة أسسها الشيخ جنكي بعد انشقاقه عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لتنتهي هذه المواجهات باعتقال الشيخ جنكي، ونقله المجمع (داباشان) الأمني، وهو مجمع يخضع لسيطرة طالباني الأمنية بشكل مباشر.
أزمة داخلية متفاقمة
مما لا شك فيه إن التطور السياسي الأخير الذي شهدته السليمانية، بشبر بشكل واضح لطبيعة الأزمة السياسية التي يشهدها إقليم كردستان، خصوصاً في موضوعة العلاقة بين الأحزاب الرئيسية المسيطرة على الإقليم، والحديث هنا عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والأحزاب الكردية الثانوية، سواءً المشتركة في العمل السياسي الكردي أم أحزاب كردية معارضة، خصوصاً وإنه قبل أيام قليلة من وقوع الأحداث الأخيرة، نفذ طالباني عملية اعتقال رئيس حزب الجيل الجديد ساشوار عبد الواحد، إلى جانب الضغط على أحزاب كردية أخرى في السليمانية لعدم الاشتراك في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ما يشير بدوره إلى رغبة واضحة من قبل طالباني لإنهاء (ظاهرة الرؤوس المتعددة) داخل السليمانية، لأنه بنظره إن هذه الظاهرة تعطي غريمه السياسي مسعود بارزاني فرصة لتهميش دوره داخل السليمانية.
وفي هذا الإطار أيضاً؛ مثلت العلاقة السرية التي تربط الشيخ جنكي مع رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني إحدى الأسباب التي دفعت طالباني للخطوة الأخيرة، خصوصاً وإن الشيخ جنكي بدء يستغل مثل هذه العلاقات في توسيع شبكة علاقاته المحلية والإقليمية، ويعمل على تأسيس مركزية مالية واقتصادية وعسكرية وأمنية وسياسية، خارج سيطرة طالباني، بل ولا يستطيع طالباني التأثير عليها، وبالتالي فإن الذهاب نحو اعتقال الشيخ جنكي، تمثل فرصة من قبل طالباني لضرب نفوذ أربيل داخل السليمانية، وكذلك مدخل للتعامل مع الرؤوس الأخرى التي لا تزال تمثل خطراً على سيطرة طالباني على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والحديث هنا عن القياديان في الحزب وهما (الملا باختيار وبرهم صالح).
يمكن القول بأن طالباني وعبر هذه الخطوة يطمح بشكل رئيسي لإعادة رسم خطوط العلاقة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في المرحلة المقبلة، خصوصاً وإنها تأتي قبل أيام من عقد اجتماع مهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتفاهم على الشكل الجديد لحكومة الإقليم رغم مرور ما يقرب العام على إجراء الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان، كما إنها تمثل خطوة لإعادة رسم خطوط العلاقة مع الأحزاب المنافسة في السليمانية، والحديث هنا عن حركة التغيير والجيل الجديد وأحزاب كردية أخرى، بأن منافسة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على زعامة السليمانية، سيكون مصيرها مشابه لمصير حزب جبهة الشعب، خصوصاً وإنه في مرحلة ما بعد انتهاء المواجهات الدامية يوم أمس الجمعة، جرت عملية اعتقال واسعة في محافظة السليمانية، استهدفت قيادات وكوادر حزب جبهة الشعب، وأبرزها شقيقيه (بولاد شيخ جنكي وآسو شيخ جنكي)، و(ريبوار حامد حاجي غالي)، قائد قوته المعروفة باسم العقرب، و(جينو محمد)، قيادية في حزب جبهة الشعب، ونحو 200 آخرين هم من مناصري الحزب في السليمانية من خلال حملة اعتقالات واسعة شنت صباح الجمعة بعد انتهاء المواجهات، كما تم الاستيلاء على قناة (زووم نيوز) التلفزيونية المملوكة للشيخ جنكي وإجبارها على الإغلاق.
الرابحون والخاسرون
إن المؤشرات الأولية التي جاءت بعد الأحداث الأمنية التي شهدتها السليمانية، تشير بشكل واضح إلى أن هناك أطراف متضررة مما حدث، وأطراف أخرى داعمة لها، وإن طبيعة هذه المواقف نابعة بالأساس من معادلات الربح والخسارة التي اعتادت العديد من الأطراف الداخلية والخارجية بنائها على أساس مخرجات الصراعات السياسية في العراق، ومنها ما حدث في السليمانية مؤخراً.
ففيما يتعلق بالرابحون من هذه الأحداث، تبرز إيران والفصائل المسلحة القريبة من إيران، كأبرز طرف مستفيد من ترسيخ طالباني سيطرته على السليمانية، وذلك بالنظر للعلاقات الجيدة التي تربط طالباني مع هذه الأطراف، كما إن إيران تدرك جيداً أهمية بروز طالباني كطرف كردي مؤثر داخل المعادلة السياسية في الإقليم، من أجل موازاة تأثير الحزب الديمقراطي الكردستاني القرب من تركيا والولايات المتحدة، كما إن العلاقات المتوترة بين طهران وأربيل، بسبب العديد من الملفات المتعلقة بالسياسة العراقية ذات الصلة بإيران، تجعل إيران تشعر بارتياح كبير لأي تحرك سياسي يعطي تأثير أكبر لطالباني في الإقليم مستقبلاً.
وبالنسبة للفصائل المسلحة القريبة من إيران، فإن نظرة بسيطة لطبيعة التغطيات الإعلامية لأحداث السليمانية والتي مارستها القنوات التلفزيونية التابعة لها، تشير إلى دعم واضح للخطوة الأخيرة التي قام بها طالباني، لأن مثل هذه الخطوة ستعزز من سياسة الضغط والابتزاز التي تمارسها الفصائل المسلحة بالضد من أربيل، كما تعطيها فرصة لإعادة تشكيل علاقاتها مع أربيل قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة، من خلال دعم موقف السليمانية بالضد من أربيل في الفترة المقبلة.
أمريكياً، يمكن القول بأن المؤشرات الأولية التي جاء على أساسها الموقف الأمريكي، والذي دعا لضبط النفس وخفض التصعيد، إلى أن الولايات المتحدة تشعر بعدم الارتياح لما يجري، خصوصاً وإن هذه الخطوة تأتي مترافقة من بدء انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق، وتمركز جزء كبير منها في السليمانية، كما تأتي في ظل وضع مرتبك تسيطر عليه العلاقة بين الأكراد من جهة، والحكومتين التركية والسورية من جهة أخرى، والأهم إنها تأتي مترافقة مع ملامح صراع إيراني إسرائيلي غير مكتمل.
أما على المستوى الداخلي العراقي، فيبدو أن هناك ضبابية كبيرة تحيط بالموقف الشيعي والسٌني العام بالعراق، فعلى المستوى الشيعي، وتحديداً الجزء الأكبر من الإطار التنسيقي، تدرك مخاطر مثل هذه الخطوة على مستقبل الاستقرار السياسي في العراق، والأهم على مستقبل إجراء الانتخابات البرلمانية في العراق، أما على المستوى السُني، فتبدو الأمور غير واضحة، وقد تبقى كذلك، بسبب التداخلات الكبيرة بين الحالتين الكردية والسُنية في العراق.
معادلة سياسية مرتبكة
إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها السليمانية ستلعب دور مهم في تشكيل المعادلة السياسية المقبلة في الإقليم، خصوصاً في مستقبل العلاقة بين طالباني وبارزاني، فعلى طول المسار السياسي للعلاقة بين الطرفين، كانت هناك محطات عديدة من عدم الثقة والتخوين، وإن كلا الطرفين ينظران لبعضهما من منظار العلاقة الصفرية، في ظل صراعات وخلافات مستمرة على شكل الحكم وإدارة الموارد في إقليم كردستان.
إن أحد أبرز الأسباب التي تدفع باتجاه مثل هذا المسار الصراعي بالعلاقة بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، هو إن هذه العلاقة انتقلت من المسار السياسي للمسار الأمني، فحتى وقت قريب تم إتهام حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بدعم عدم الاستقرار في أربيل، وبنفس الوقت تم إتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني بالوقوف خلف تأجيج الأوضاع ودعم الحراك السياسي أو حتى التظاهرات في السليمانية، وبالتالي فإن الحديث الذي صدر عن القوات الأمنية التي نفذت عملية اعتقال الشيخ جنكي، عن الحصول على تسجيلات صوتية تجمع الشيخ جنكي مع قيادات سياسية في أربيل، تشير بشكل واضح إلى أن العلاقة بين السليمانية وأربيل لن تكون على ما يرام في الفترة المقبلة.
إن التحدي الكبير الذي يقف أمام تشكيل المعادلة السياسية في الإقليم مستقبلاً، يتعلق بجانب آخر بامتداد مديات الصراع السياسي في الإقليم من البعد المحلي إلى البعد الإقليمي والدولي، فتداخل إيران وتركيا والولايات المتحدة، وحتى دول خليجية وأوروبية في مسارات هذا الصراع، ستلعب دوراُ رئيسياً في تعقيده ووصوله لمديات خطيرة، قد تفوق قدرة الإقليم على احتوائها في الفترة المقبلة.