تعلّمنا في طفولتنا أن نكون أصدقاء مع الجميع، وكان التصرّف بلطف والتعاون وتجنّب النزاعات هو الطريق المثالي للحصول على رضا الكبار وإعجابهم، لكن بين أروقة المدارس وساحات اللعب كان الأطفال يدركون أن الواقع أكثر تعقيدًا؛ فلم تكن العلاقات دائمًا متبادلة أو بسيطة. هناك زملاء لا نشعر بالانسجام معهم، وآخرون يتصرّفون بقسوة، وأصدقاء تمنّينا أن نكسب ودّهم لكنهم لم يبادلونا الشعور. وكانت تسميات مثل: “الصديق المزعج” أو “الصديق المقرّب” تلتصق بالأطفال وكأنها ألقاب ترافقهم لسنوات طويلة دون تغيير.
مع تقدّمنا في العمر نكتشف أن بناء العلاقات والمحافظة عليها عملية ديناميكية تتطلّب مهارات متعدّدة مثل التواصل والإنصات والتعاطف، وأيضًا وضع الحدود. هناك صداقات تسير بسلاسة، وأخرى تتطلّب جهدًا مستمرًا، وبينما نجد أصدقاء يدعموننا ويشاركوننا اهتماماتنا، هناك علاقات تستمر فقط بسبب الارتياح، أو صلة القربى، أو ربما الخوف من المواجهة وإنهاء العلاقة.
إن مساعدة الأطفال على بناء علاقات آمنة وصحية هي عملية واسعة وممتدة، وتتعلّق بظروف وعوامل مختلفة، جزء منها مرتبط بالنماذج التي يراقبها الطفل من حوله، ومنها ما هو متعلّق بعلاقته مع والديه. يجيب هذا التقرير، الذي حاورنا فيه الدكتورة دجانة البارودي، عن الجوانب المعرفية المتعلّقة ببناء الصداقات والعلاقات الآمنة، ومساعدة الأطفال على بناء أفكار صحيّة عن العلاقات.
دجانة البارودي، معالجة نفسية إكلينيكية وأخصائية في علم النفس التربوي، تحمل خبرة تمتد لأكثر من 18 عامًا في المجالين الإكلينيكي والتربوي. كرّست مسيرتها لمساندة الأفراد والأسر في مواجهة التحديات النفسية والتربوية، ومساعدتهم على اكتشاف قدراتهم الداخلية للنمو والتعافي.
تتبنى نهجًا إنسانيًا يجمع بين أحدث الأساليب العلاجية المبنية على الأدلة العلمية، والفهم العميق للسياق الاجتماعي والثقافي للعميل. يتنوع عملها بين تقديم الجلسات العلاجية الفردية والجماعية، والدعم النفسي الاجتماعي في أوقات الأزمات، والتأهيل النفسي للناجين من الصدمات. كما تقدّم الإرشاد الأسري والتربوي، وتصمّم برامج نفسية وتعليمية مخصصة، إضافةً إلى التدريب والإشراف المهني للعاملين في مجالات الصحة النفسية والتعليم.
هذا الحوار هو جزء من ملف “كيف أحكي لطفلي عن..؟”، الذي نستضيف فيه مجموعة من الخبراء والمتخصصين للإجابة عن أسئلة الأطفال حول قضايا حياتية متنوعة، تشمل الخلافات الزوجية، والتعامل مع المال والأجهزة الذكية، وبناء الصداقات، وفضولهم حول الدين.
يقدّم الملف إجابات مبسطة وميسرة تساعد الأهل على فتح حوارات صادقة وهادئة مع أطفالهم، وهو لا يهدف إلى أن يكون دليلاً متكاملاً لمعالجة هذه الموضوعات، بل نافذة عملية للإصغاء لأسئلة الأطفال وتعلّم طرق التواصل معهم. أحيانًا يحاور الضيف الطفل مباشرة فيمنح الأهل نموذجًا حيًّا لأسلوب جديد في إدارة النقاش، وفي أحيان أخرى يكتفي بطرح أفكار وأساليب مقترحة، تاركًا مساحة واسعة للأهل لاختيار الطريقة التي تناسب أبناءهم.
لماذا نحتاج إلى أصدقاء في حياتنا؟ وكيف نكسب محبة الأصدقاء الجدد؟
وجود الأصدقاء من أهم العوامل المعينة على الصحة النفسية، فالصداقة أحد أهم أركانها، وتلعب دورًا هامًا في تقليل الشعور بالوحدة والتخفيف من الضغوط الحياتية. ومع ذلك، فإن تكوين الصداقات ليس بالأمر السهل بالنسبة لكثير من الناس.
يبحث الأفراد عن علاقات تحقق لهم مكاسب عاطفية واجتماعية، وينجذبون إلى من يشاركونهم القيم والاهتمامات. وحتى نتمكّن من إيجاد الأصدقاء نحن بحاجة إلى المشاركة في أنشطة مجتمعية مثل: النوادي الرياضية، والفعاليات الثقافية، والتطوّع في أعمال خيرية. وتزداد فرصة الإنسان في بناء علاقات جديدة مع الآخرين إذا طوّر مهارات التواصل الفعّال مثل: الإصغاء، وطرح الأسئلة المفتوحة التي تمنح الآخرين فرصة للتعبير عن أنفسهم والشعور بالراحة أثناء الحديث، إضافة إلى التدرّب على إظهار الاهتمام بالآخرين.
قد يبدو إيجاد أصدقاء جدد أحيانًا تحدّيًا، لكنه يصبح أسهل عندما تكون منفتحًا ومستعدًا لاستكشاف بيئات جديدة والتفاعل مع الآخرين. وإذا علمت أن الناس يميلون عادةً إلى بناء علاقات تحقق لهم قيمة مادية أو عاطفية، ستكتشف أن أفضل طريقة لكسب الأصدقاء هي أن تكون شخصًا داعمًا، ومهتمًا، ومشاركًا.
قد يرفض البعض إقامة صداقات مع الآخرين، ويعود ذلك إلى عدة عوامل نفسية واجتماعية؛ فقد تكون لدى البعض تجارب سابقة أثّرت على استعدادهم للانخراط في علاقات جديدة، أو قد يشعرون بالاكتفاء بعائلاتهم والأشخاص المحيطين بهم.
من هو الصديق الجيد؟ وكيف أختار الأصدقاء الذين يمنحونني السعادة؟
الصديق الجيّد هو من يقف إلى جانبك في الأوقات السعيدة والصعبة؛ فهو يحتفل بنجاحك، ويزورك ليخفّف عنك مرضك، ويمنحك شعورًا بالأمان العاطفي، ويعاملك بصدق واحترام، ويتقبّلك كما أنت دون محاولة تغييرك. أي لا يقلّل من قيمك، أو مظهرك، أو عائلتك، ولا يشكّك بقدرتك على النجاح، بل يساعدك لتتفوّق فيما تجيد القيام به، مثل أن يقترح عليك المشاركة في دروس الرسم أو الموسيقى إذا رأى منك اهتمامًا بالفنون. كما أن الصداقات الصحية تقوم على الثقة المتبادلة، والتواصل الواضح، والدعم العاطفي، إضافة إلى مشاركة الاهتمامات والقيم.
ومن المهم ملاحظة كيف تشعر بعد قضاء الوقت مع أصدقائك؛ فالأصدقاء الذين يمنحونك طاقة إيجابية ويشجّعونك على التطوّر هم الجديرون بالبقاء، بينما من يستنزفون طاقتك أو يقلّلون من قيمتك ينبغي وضع حدود واضحة معهم أو الابتعاد عنهم، وعادةً ما يكونون كثيري الانتقاد لك. كما أن الصديق الجيّد ليس قالبًا واحدًا؛ فهناك من يشاركك الضحك والمغامرات، وآخر يمنحك الأمان عند الحديث عن مخاوفك، وثالث يُلهمك ويحفّزك على النمو. إن تنوّع أدوار الأصدقاء يُثري حياتك ويجعل دائرتك شبكة متكاملة من العلاقات الإيجابية التي تمنحك السعادة والتوازن.
كيف أحافظ على صداقاتي الصحية لفترة طويلة؟
للحفاظ على العلاقات لفترة طويلة، فإن الإنسان يحتاج إلى عدة جوانب:
– التواصل المستمر والمبادرة في الحديث، والاهتمام بالأحداث المهمة في حياة الصديق، مثل أن تسأل صديقك كيف كانت امتحاناته، أو تحتفل بعيد ميلاده بما يناسبك، أو أن تحكي له قصة مضحكة عندما تجد مزاجه سيئًا.
– التسامح والتفاهم وتقبّل الاختلافات، وأن نتعلّم كيف نتصالح بعد الشجار بطريقة هادئة.
– إظهار المحبّة والحرص على التواصل حتى في الأوقات الصعبة، لأن الصديق الحقيقي لا يختفي عند الشدائد، بل يبقى بجانب صديقه. على سبيل المثال: إذا مرض صديقك يمكنك أن تزوره، أو ترسل له رسالة صوتية لطيفة تخبره أنك تتمنّى له الشفاء. وإذا خسر مباراة كرة القدم يمكنك أن تقول له: “لا يهم، جرّبنا معًا وكان الأمر ممتعًا”.
أشعر بالسوء عندما أتشاجر مع صديقي، كيف أتعامل مع مشاعري هذه؟
من المهم أن نعرف أن الخلافات في الصداقات أمر طبيعي، لكنها قد تثير مشاعر القلق أو الذنب. وعندما تهاجمك هذه الأفكار والمشاعر السلبية، من المفيد ممارسة تقنيات التهدئة الذاتية مثل: تغيير الطريقة التي تفكّر فيها بالموقف، والتفكير في وجهة نظر الطرف الآخر، والتعبير عن المشاعر بطرق بنّاءة. ومن المفيد أيضًا التواصل مع الصديق بعد فترة من الهدوء لمناقشة الخلاف بموضوعية. ومن الضروري تعلّم مهارات حلّ الخلافات، لأن المشاكل تحدث، لكن حلّها هو ما يقرّر مصير علاقة الصداقة.
وإذا نظرنا إلى هذه الخلافات كفرصة لتعزيز العلاقة وتعميق فهم الآخر، فسيخفّ قلقنا من حدوث أي أزمة.
كيف أعتذر إذا أخطأت في حق صديقي؟
لا بدّ أن يتضمّن الاعتذار المفيد عناصر أساسية، مثل الاعتراف بالخطأ لتوضيح التصرف الذي أدّى إلى الأذى. كما لا بدّ أن يكون التعبير عن الأسف صادقًا، بإظهار الندم دون تقديم مبرّرات دفاعية. كذلك الأمر، فإن من الضروري تصحيح الخطأ باقتراح سلوك يعوّض عن الضرر النفسي الذي حدث، لأن الاعتذار المدعوم بإجراءات تعويضية يعزّز فرص استعادة الثقة في العلاقة.
مثلًا، إذا استهزأت بصديقك أمام زملائكما وتسبّبت بإحراجه، يجب أن تصلح الخطأ بأكثر من أسلوب:
تعتذر منه وتعترف بالخطأ، ثم تحاول أن تعوّض ذلك بأن تمدحه أمام نفس الزملاء في موقف آخر، أو تساعده في شيء هو بارع فيه. وبهذا يشعر أن اعتذارك صادق، وأنك ترغب في ترميم صداقتكما.
الاعتذار عن الخطأ هو سلوك شجاع ويعبّر عن المسؤولية، لكن علينا أن ننتبه ألا يتحوّل هذا إلى ابتزاز مستمر لمشاعرنا، أو أن يرافقه شعور بالذنب يدفعنا لتقديم تنازلات لا تناسبنا ولا تتوافق مع مبادئنا.
لماذا لا يحبّني بعض الأصدقاء رغم أنني أحاول أن أكون لطيفًا؟
إن العلاقات بين الناس معقّدة، ولا تتشكّل دائمًا استنادًا إلى نوايانا الطيبة فقط. أحيانًا قد يكون سبب هذا الشعور مرتبطًا بكيفية رؤيتنا لأنفسنا، أو بطريقة تفسير الآخرين لتصرّفاتنا، فمثلًا اللطف المفرط أو محاولة إرضاء الجميع قد تُفهم على أنها سعي غير مريح لنيل القبول، مما يدفع البعض للابتعاد. وهنا تكمن الفكرة: علينا التعامل مع الآخرين بثقة، وراحة، وعفوية، دون إفراط في القلق من نظرتهم إلينا.
فالصداقات الحقيقية تُبنى على التقدير المتبادل والاحترام، لا على محاولة كسب رضا الجميع في كل لحظة. وتذكّر أن عدم تجاوب شخص ما مع لطفك لا ينتقص من قيمتك، وإنما يعكس اختلافًا طبيعيًا في الطباع والانسجام.
ماذا أفعل إذا شعرت أن صديقي يتجاهلني أو أن صداقتنا لم تعد كما كانت؟
بدايةً، من الطبيعي أن تتطوّر الصداقات وتتغيّر على مدار الزمن، فهي متغيّرة ومتجدّدة. وعليه، فبدلًا من التركيز على الشعور بالإقصاء والغرق في المشاعر السلبية والقلق، يمكن إعادة تقييم العلاقة وفهم ما إذا كانت هذه الصداقة لا تزال تمنحني مشاعر إيجابية، وأشعر بالسعادة والرضا عندما أكون مع صديقي.
في بعض الحالات، قد يساعدنا هذا التغيّر في صداقتنا مع شخص على الانطلاق، وتوسيع الدائرة الاجتماعية، وتطوير اهتمامات جديدة، وهذا يعزّز شعورنا بالانتماء دون الاعتماد على شخص واحد فقط.
من المهم أن نعرف أن تصرّفات الآخرين تعكس في كثير من الأحيان مخاوفهم أو مشاعرهم، وليس بالضرورة أن تكون هذه السلوكيات نتيجة أخطائنا.
أيضًا قد يتغيّر الصديق دون أسباب مبرَّرة أو واضحة، فبدلًا من الغوص بالتفكير عن الأسباب، لا بدّ من سؤال الصديق بشكل مباشر، وخصوصًا في حالة التغيير في سلوكه. وأحيانًا يكون السبب ضغوطًا شخصية أو مشاعر غير معبَّر عنها. وإذا استمر التجاهل دون تفسير، فمن الأفضل منح العلاقة بعض المساحة وإعادة تقييمها. فالصداقة عنصر حيوي في حياة الإنسان، لكنها تتطلّب وعيًا وفهمًا لمبادئ التفاعل الاجتماعي الصحي.
إن تكوين الصداقات والحفاظ عليها يتطلّبان جهدًا متبادلًا، واتباع نهج متوازن يعزّز العلاقات دون خلق اعتماد غير صحي على الآخرين. ومن خلال تطبيق هذه المبادئ النفسية، يمكن بناء علاقات صداقة متينة تساهم في تعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية السويّة.
ماذا أفعل إذا شعرت أن أصدقائي يستبعدونني ولا يدعونني للخروج معهم أو لمشاركتهم الأنشطة؟
عندما يشعر الإنسان أنه خارج مجموعة أصدقائه، أي لا ينتمي لهم، فالأمر لا يعني بالضرورة وجود خطأ فيه، بل قد يعكس ببساطة اختلافًا جوهريًا في منظومة القيم أو الاهتمامات أو حتى في أسلوب التواصل الاجتماعي. وقد يكون الأمر أنك لم تجد بعد المساحة التي تسمح لك بأن تكون على طبيعتك. أحيانًا نجد أنفسنا في وسط مجموعة تختلف اهتماماتها أو أسلوب تواصلها عن أسلوبنا، فنشعر وكأننا نقف على هامش الحديث. وقد يرتبط هذا الشعور بعدم التوافق الطبيعي بين الأفراد، وليس بنقص في قيمتك أو مهاراتك. ومن المهم أن تتذكّر أن الانتماء ليس فرضًا على نفسك ولا على الآخرين، بل هو نتيجة طبيعية للتلاقي الحقيقي بين القيم والتجارب المشتركة.
إذا كان وجودك ضمن هذه المجموعة مهمًا بالنسبة لك، ابدأ بالانتباه للحظات التي تشعر فيها بالراحة أو التقدير، حتى لو كانت مع شخص واحد فقط داخل المجموعة، ثم حاول أن تبني على هذه اللحظات جسورًا صغيرة من التفاعل، مثل مشاركة اهتمام مشترك، أو تقديم دعم في موقف معيّن.
وفي الوقت نفسه، لا تتردّد في توسيع دائرة معارفك والبحث عن مجموعات أو أنشطة تتيح لك التعبير عن نفسك بحرية أكبر. وتذكّر أنك لا تحتاج إلى تغيير جوهرك لتناسب الجميع، لأن الانتماء الذي يأتي من التكلّف مؤقّت، أمّا الانتماء الصادق فهو دائم ومغذٍّ للنفس. مثلًا قد يشارك الإنسان أصدقاءه في نزهة بحرية رغم أنه لا يحب السباحة، لكنه لا يمكن أن يجبر نفسه على المشاركة في كل الأنشطة والأحاديث والألعاب إذا كانت أغلبها بعيدة عن ثقافته وبيئته وتفضيلاته.