اليَمان.. صغيري الذي لم يكتمل عمره، لكن كماله كان في حضوره، في نظرةٍ تشبه سؤالًا أكبر من عمره، وأعمق من كل ما عرفتُه. عيناك لم تكونا نافذتين على العالم وحسب، بل كانتا نافذتين لعالمي؛ عالمي الذي لم يعرف أن يكون صامتًا أمام براءتك. كنتَ تجرّني إلى أسئلة لم أتوقّع أن يطرحها طفل بمثل عمرك: لماذا ننام؟ لماذا لا نمتلك جناحين مثل الطيور؟ لماذا لا نعيش في الجنة منذ البداية؟ هل الله يرانا كلنا؟
كنتَ تمشي في أيامي بخطوات صغيرة، لكن أثرها امتدّ إلى كل زوايا قلبي، وترك بصمة لا تُمحى. كنتَ ضحكةً، همسةً، ونبضًا خفيًّا يحرّك داخلي كل ما ظننتُ أنّه راكد. كنتَ حاضري ومستقبلي، طفولتي البريئة، وحلمي الذي لم يكتمل، وكل ذلك في كيان صغير بدا كأنه أوسع من الكون كلّه.
الفيلسوف الصغير
كنتُ أسمّيك “فيلسوفي الصغير”، ليس لأنك درستَ الفلسفة أو قرأتَ الكتب، بل لأنك كنتَ تسائل الحياة بدهشة لم أعُد أملكها. أنتَ كنتَ المعلّم، وأنا الأمّ التي تتظاهر بالمعرفة. كنتُ أحتضنك، وفي داخلي يقين أنّك تفوق عمرك بكثير، وكأنك تكبر خارج الزمن، وأشعر أنّ الله وهبني بك شيئًا لا يُعاد، وأنك أصفى من ضجيج هذا العالم الذي ينهش أرواحنا.
حين أفكّر بك اليوم، أشعر أنّ الله أرسلك لأتعلّم منك درسًا قصيرًا وكاملًا: أن البراءة أعمق من الحكمة، وأن الطفولة قد تكون أبلغ من أيّ فلسفة.
شغف ما وراء الأشياء
كان يَمان يخطو في طفولته كمن يعبر أعمارًا كثيرة في جسدٍ صغير. لم تكن اهتماماته تشبه من هم في مثل عمره؛ كان ينجذب إلى الأفلام الوثائقية عن عالم الحيوان، وإلى أسرار البحار التي لا تُرى، وإلى الفضاء الممتدّ حيث النجوم تلمع كعيون غامضة من بعيد. كان مأخوذًا بما وراء الأشياء، يبحث عن معنى أبعد من اللعب العابر، وكأن قلبه الصغير قد وُلد مثقَلًا بفضولٍ لا يهدأ.
وحين كان يجلس بجواري، كان يلاحقني بكلمته المعتادة: “ماما، تعالي نحكي”، ثم يُغرقني بالأسئلة: “هل الثلج حقيقة أم من صنع الخيال؟ هل كنا سنبقى في الجنة لو لم يأكل سيدنا آدم من الشجرة؟ ولماذا لا تسقط النجوم من السماء؟ وهل الله هناك فوقها جميعًا؟”. كانت عيناه، وهما تلمعان ببراءة، تُلقيان عليّ أسئلة أكبر من عمري أنا، لا من عمره.
أذكر مرّة، وكان لم يتجاوز الخامسة، سألني بصوته الطفولي: “لماذا تأكل الحيوانات بعضها؟ لماذا لا تعيش كلها على الأعشاب؟”.
ارتجف قلبي يومها، ولم أجرؤ أن أبوح له أنّ ما يفعله الحيوان بدافع البقاء، يفعله الإنسان بلا حاجة، ولا عذر.
لم أقل له إنّ الإنسان قد يقتل أخاه الإنسان، لا لأنه جائع، بل لأنه مسكونٌ بوحشيةٍ أعمق من أيّ غابة. كنتُ أُخفي عنه هذا الوجه القبيح للعالم، وأحاول أن أتركه في دائرة البراءة.
لكنني لم أكن أعلم أنّ الجواب الذي أخفيته عنه، ستُجيب عنه وحشية البشر بفظاعةٍ لا تُحتمل؛ وأنه هو نفسه سيُصبح شاهدًا وضحية على أن افتراس الإنسان يفوق افتراس الحيوان.
العمر الذي رسمتُه لك
في قلبي يا يَمان، كنتَ أكبر من سنواتك القليلة. كنتُ أراك تمشي أمامي في دروبٍ لم تطأها قدماك بعد، كنتَ مشروعي الأصدق، وكنتَ تسير فيه بخطى لا تخيب. رسمتُ لك حياةً كاملة في مخيّلتي، ملأتها بأحلامك، بإنجازاتك الكبيرة، بحكاياتك التي لم تُروَ بعد. تخيّلتُ لك أعياد ميلاد كثيرة، وضحكاتٍ تكبر معك عامًا بعد عام. تخيّلتك ترتدي ثوب التخرّج، وصوتي وأنا أصفّق لك بكل إنجاز، وكأنّه معجزة.
كنتُ أراك فتىً يافعًا، يتأمّل النجوم التي كان يسأل عنها، يكتب أحلامه في دفترٍ خفيّ، ويجادلني بأسئلته التي لا تنتهي: عن الله، عن الكون، عن الجنّة التي كنتُ أعدك أنّها أجمل مما تظن. وكنتُ أراك شابًا جميلًا يطرق أبواب الحياة بقلبٍ نقيّ، كأنّ العالم يمكن أن يطهُر بوجودك فيه.
لقد نسجتُ لك عمرًا كاملًا طويلًا، كنتُ أعيش معك حيواتٍ لم تحدث، لكنني صدّقتها حتى كأنها وقعت بالفعل. وما أقسى أن ينهدم العمر كلّه في لحظة واحدة، أن يُختزل المستقبل الذي رسمته لك في ومضة موت، وأن أُترك وحيدة مع فراغٍ أكبر من الكون الذي كنتَ تحاول فهمه.
لحظة الفقد والغياب
تلك اللحظة يا يَمان، ما زالت تطرق جدران قلبي كما لو أنها لم تنتهِ بعد، لحظة سقط فيها كلّ شيء دفعةً واحدة: البيت، الحلم، واليقين بأنني أستطيع أن أحميك من شرور هذا العالم. لا شيء يشبه أن ترى الأم طفلها يتحوّل في لحظة من كائن يملأ الدنيا حياةً إلى صمتٍ مطبق، صمتٍ لا يفسّره سوى الفقد.
شعرتُ أن الزمن انكسر، وأن الساعة لم تعد تمضي، وأن كلّ ما بعدك ليس امتدادًا لما قبلك. كأن الحرب لم تقتل جسدك وحدك، بل قتلت فيّ يقين الأمومة بأن صدرها حصنٌ لا يُخترق. ما أصعب أن تواجه الأم عجزها عن حماية صغارها، وما أقسى أن أدرك أنّ ذراعيَّ اللتين احتضنتاك لسبع سنواتٍ ونصف، وكلّ القصص التي قرأتها لك لتنام، وصوتي وأنا أغنّي لك “سيّد الحبايب يا ضنايا انت”، وكلّ أحلامي التي رسمتها لك، لم تكن كافيةً لتردّ عنك سقف الغرفة الذي سقط فوقك وأنت نائم بجواري.
في لحظة فقدك يا يَمان، لم يمت طفلٌ صغير فحسب، بل انهار عالمٌ بأكمله، انهارت صورة الكون التي كنتَ تسأل عنها، واختفى المنطق الذي كنتُ أحاول أن أبنيه حول أسئلتك.
كنتَ تسألني عن الله، والجنة، والسماء، وها أنا أستيقن أكثر من أيّ وقت مضى أنّ عين الله لم تغفل عنك لحظة، وأنّ رحمته وسعتك حين ضاقت بك الأرض، فانتقلتَ من قسوة الدنيا إلى رحابة الخلود.
أخيرًا: رسالة إلى يمان
إلى يَماني الحبيب،
يا صغيري الذي لم يكبر، لكنه ترك في داخلي عمرًا كاملًا، يا فلسفتي الصغيرة التي علّمتني كيف يمكن للطفولة أن تضيء أعمق من أيّ كتاب.
أكتب لك يا بُني، لأبقى قريبة من روحك رغم البعد. أكتب لأقول ما تعجز الكلمات عن حمله، كلّما ناديتُ اسمك شعرتُ بصدى يجيبني بصمتٍ دافئ، كأن قلبك يهمس لي بلغته الخاصة، وكأنّ بيننا لغة لا يعرفها سوانا.
أردتُ لك أن تعيش حياة طويلة، لكنك رحلتَ قبل أن تتفتّح الأحلام. ومع ذلك، تركتَ في حياتي وعيًا جديدًا بالحبّ، بالصبر، وبالخلود. كنتَ ابني، وصرتَ معلّمي ودليلي إلى معنى أكبر من كلّ ما ظننت أنّي أعرفه.
أذكر أمنياتك في الأيام الأخيرة التي سبقت الحرب: حين أخبرتني أنّك تريد بيتًا واسعًا أمامه مسبح، وكأنك كنت تبحث عن فسحة أكبر للحياة التي بدأت تضيق من حولك. وقلتَ إنك حين تكبر ستسافر لترى الثلج، ذلك البياض البعيد الذي يشبه نقاء روحك. كانت أمانيك بسيطة كالأطفال، لكنها حملت ثِقلًا غريبًا في قلبي، كأن روحك الصغيرة كانت تستعجل الحلم قبل أن ترحل، ثم استعجلت الرحيل إلى حيث تتحقق الأحلام بسهولة.
أعدك أن أبقي ذكراك مشتعلة، لا كجرحٍ فقط، بل كمنارة. سأحدّث العالم عنك، عن أسئلتك التي ما زالت تحفر في عقلي، عن ضحكتك التي لم يقدر الخراب أن يمحوها من ذاكرتي. سأروي أنّ طفلًا صغيرًا اسمه “اليَمان” مرَّ من هنا، فترك أثرًا لا يُمحى. فبعدك أدركتُ، يا حبيبي، أن العلامات الأعمق لا تُصنع بالزمن، بل بالحبّ الذي لا يُنسى، وبالأثر الذي يبقى ولو غاب الجسد.
فيا حلمي الذي اختصر، ونبضي الذي لا يخفت، وألمي الذي لا يشيخ، نَم هادئًا في رحاب الجنّة حيث لا حرب ولا وجع. أمّا أنا، فسأظلّ أمشي في هذه الأرض مثقلةً بالغياب، لكنّي أحمل يقينًا واحدًا يخفّف عني: أننا سنلتقي من جديد، هناك حيث تكتمل الأجوبة، وتزول كلّ الأسئلة.
* اليمان (سبع سنوات ونصف) هو طفلي البكر، قتله الاحتلال الإسرائيلي هو وشقيقه الرضيع رَيان (51 يومًا)، وخالاته ربا وراما بعد قصف منزلنا من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية في الخامس عشر من يناير 2024.