ترجمة وتحرير: نون بوست
كما يعلم أي شخص يدرس جريمة الجرائم، فإن الإبادة الجماعية هي عملية وليست حدثًا. بالنسبة لبعض المنظمات غير الحكومية والسياسيين والشخصيات العامة الأخرى، فإن التوصل إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين كان أيضًا “عملية” استغرقت شهورًا، وفي بعض الأحيان ما يقرب من عامين، ليعترف البعض بأن إسرائيل انتهكت اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
كان هناك عامل واحد حاسم دفعهم إلى الاعتراف بذلك، وهذا العامل هو “التجويع”، أي تجويع إسرائيل المتعمدة لـ 2.1 مليون فلسطيني يعيشون في هذا الشريط الضيق المكتظ بالسكان من الأرض.
كثفت إسرائيل استخدامها طويل الأمد للتجويع كسلاح حرب في غزة مباشرة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبعد ما يقرب من ثلاثة وعشرين شهرًا، أدى مشروع التجويع الإسرائيلي إلى انتشار المجاعة المستمرة في القطاع؛ حيث توفي أكثر من 200 شخص، بما في ذلك أكثر من 100 طفل، بسبب الجوع منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وحدثت 61 بالمائة من هذه الوفيات منذ 20 يوليو/ تموز 2025، وتعتبر الوفيات المرتبطة بسوء التغذية والأمراض المرتبطة بسوء التغذية أعلى بكثير.
ولكن لماذا كان التجويع محوريًا إلى هذا الحد مقارنة بفظائع إسرائيل الأخرى التي تسبب في المزيد من الموت والدمار إلى غزة؟ من المفارقات أن تجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، الذي لا يزال يمنع البعض من الاعتراف بالإبادة الجماعية حتى الآن، هو ما يفسر الدور الحاسم الذي لعبه التجويع في تسمية أفعال إسرائيل.
رؤية الإبادة الجماعية في المجاعة
منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، منعت إسرائيل دخول المساعدات إلى غزة إما بشكل كامل أو جزئي، بما في ذلك الغذاء والماء، مما دفع الأممالمتحدة والمنظمات الإنسانية وخبراء آخرين إلى دق ناقوس الخطر مرارًا وتكرارًا بشأن انتشار المجاعة في القطاع، وقد فهم العديد من الخبراء والمجموعات الإنسانية أن هذه الممارسات التجويعية تشكل جزءًا هامًا من خطة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، ولكن بالنسبة لبعض الأفراد والمنظمات البارزة، كانت سياسات التجويع الإسرائيلية هي الدليل الأكثر أهمية، إن لم يكن الوحيد، على حدوث إبادة جماعية في غزة.
على سبيل المثال، كان التجويع عاملًا حاسمًا في إقناع أرييه نيير، المؤسس المشارك لمنظمة هيومن رايتس ووتش ومديرها التنفيذي السابق، بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة. ففي 6 يونيو/ حزيران 2024، كتب نيير مقالًا لمجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” بعنوان “هل ترتكب إسرائيل إبادة جماعية؟” حول صحوته لإدراك هذا الأمر.
ونُشر هذا المقال بعد حوالي 7 أشهر من اليوم الذي بدأ فيه هجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي، وجاء بعد أسبوع من إعلان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن سقوط أكثر من 36,000 قتيل و82,000 جريح في غزة، كنتيجة مباشرة للهجمات العسكرية الإسرائيلية. كما جاءت مقال نيير بعد ثلاثة أوامر تدابير مؤقتة من محكمة العدل الدولية في قضية إبادة جماعية رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.، وخلصت جميع تلك التدابير، التي صدرت بين يناير/ كانون الثاني ومايو/ أيار 2024، إلى وجود خطر معقول بأن إسرائيل تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية بناءً على مجموعة من الأدلة، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع.
ومع ذلك، لم يكن اقتناع نيير الجديد بإبادة إسرائيل له أي علاقة بقرارات محكمة العدل الدولية أو أي من الوفيات والإصابات المروعة التي حدثت في غزة خلال الأشهر السبعة السابقة، بل أعلن نير أن سياسات التجويع الإسرائيلية هي التي أقنعته بأن الإبادة الجماعية تجري على أرض الواقع، بحسب ما كتب:
“عندما قدمت جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية اتهامها بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، لم أنضم إلى بعض زملائي في حركة حقوق الإنسان الدولية في دعمهم لهذا الاتهام. لقد شعرت بأسى عميق إزاء حملة القصف الإسرائيلية، لا سيما استخدامها المتكرر للقنابل التي تزن 500 و2000 رطل في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية… والتي كانت تقتل أعدادًا كبيرة من المدنيين غير المقاتلين… مثل هذه الأسلحة غير مناسبة بوضوح للاستخدام في تلك الظروف. ومع ذلك، لم أكن مقتنعًا بأن هذا يشكل إبادة جماعية…
أنا مقتنع الآن بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وما غير رأيي هو سياستها المستمرة في عرقلة حركة المساعدات الإنسانية إلى المنطقة.”
لم تكن الأعداد الكبيرة من المدنيين الذين قتلتهم إسرائيل باستخدام أسلحة عشوائية، بحسب نيير نفسه، بل كان فشل إسرائيل في السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة – وخاصة الطعام والماء – هو الذي شكل الدليل الحصري على خطتها الإبادة الجماعية.
قبل وقت قصير من نشر مقال نيير، قدم كريم خان، المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، طلبات إلى المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت. مرة أخرى، كانت أعمال التجويع حاسمة هنا، فبناءً على الأدلة المتاحة للجمهور، تدور مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت – التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في نهاية المطاف – حول التجويع والجرائم القائمة على التجويع، فقد اتهم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في طلبه لإصدار المذكرة غالانت ونتنياهو بجريمة الإبادة بناءً على سياساتهم التجويعية على وجه الخصوص. إن الإبادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإبادة الجماعية، ومثل نبير، كان التجويع حاسمًا في إثبات السعي إلى الإبادة، وبالتالي جريمة الإبادة الجماعية، بالنسبة للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
كان التجويع عنصرًا حاسمًا أيضًا في تحليل منظمة هيومن رايتس ووتش، وهي المنظمة التي ساعد نيير في تأسيسها قبل ما يقرب من 50 عامًا. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2024، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرًا خلص إلى أن إسرائيل ترتكب أعمالًا إبادة جماعية، وعلى الرغم من أن التقرير لم يصل إلى حد القول بأن إسرائيل لديها نية لارتكاب الإبادة الجماعية، إلا أن استنتاج هيومن رايتس ووتش بأن أعمال الإبادة الجماعية كانت تحدث استند إلى جهود إسرائيل المتعمدة لحرمان غزة من المياه الصالحة للشرب.
ومنذ أن فرضت إسرائيل حصارها الأخير في 2 مارس/ أذار 2025، تعرضت لإدانة واسعة وشاملة بسبب إطلاقها لمجاعة تهدف إلى إبادة جماعية في القطاع، ومع مقتل الفلسطينيين اليائسين أثناء انتظارهم للمساعدات في “حقل الموت” المعروف أيضًا بمؤسسة غزة الإنسانية، وتحذير وكالات الأمم المتحدة من أن عتبات المجاعة الرئيسية تم تجاوزها بالفعل، وصل بعض من أقرب حلفاء إسرائيل إلى نقطة الانهيار.
ومن بين هؤلاء الحلفاء الكاتب الإسرائيلي البارز ديفيد غروسمان، ففي أوائل أغسطس/ آب، أعلن غروسمان أنه مستعد أخيرًا لوصف أفعال إسرائيل في غزة بأنها إبادة جماعية. وإلى جانب تعليقاته التي تلقي باللوم على الفلسطينيين في غزة في مصيرهم الحالي، مؤكدًا أن حماس أيضًا “مسؤولة عن… الفظائع التي نشهدها”، ومشددًا على مدى “الألم الشخصي” الذي يمثله هذا الإدراك، اعترف غروسمان بأن سياسات التجويع الإسرائيلية تثبت أنها ترتكب إبادة جماعية، واستشهد جيريمي بن عامي، رئيس منظمة جي ستريت – وهي منظمة صهيونية ليبرالية – بمقابلة غروسمان أثناء اعترافه بعد بضعة أيام بأن إسرائيل من المحتمل أنها ترتكب إبادة جماعية في غزة.
“براءة” الجوعى
ويوضح أرييه نيير في مقاله أحد أسباب هذا التركيز على المجاعة، حسب قوله: “من غير المحتمل أن تؤثر عرقلة المساعدات الإنسانية بشكل مباشر على مقاتلي حماس. حتى في ظروف المجاعة، يجد الرجال المسلحون طريقة للحصول على الطعام، إن الذين يعانون أكثر هم أولئك الذين لا يتحملون أي مسؤولية عن جرائم حماس”.
“أولئك الذين لا يتحملون أي مسؤولية”….
في كتابه الجديد “الضحايا المثاليون وسياسات الاستعطاف“، يلقي الكاتب والشاعر الفلسطيني محمد الكرد بالضوء على الأثر الخطابي لهذا الإطار؛ حيث كتب الكرد: “نحن [الفلسطينيون] لا نعد بشرًا بشكل تلقائي، أو لمجرد كوننا بشرًا – بل تُقاس إنسانيتنا بمقدار قربنا من البراءة…”، ويواصل ملاحظته قائلاً: “هذه الشكل من الأنسنة يحول التدقيق النقدي بعيدًا عن المستعمِر وتوجهه نحو المستعمَر، مما يطمس مقدار الظلم المتأصل في الاستعمار، وبالتالي يحمي المشروع الاستعماري. وبتحويل تركيزهم إلى المكان الخاطئ، يلمّح المدافعون… إلى أن المظلومين يجب أن يثبتوا استحقاقهم للحرية والكرامة أولاً وقبل كل شيءـ وإلا فإن الاحتلال والقمع ووحشية الشرطة والحرمان والمراقبة و”الإعدامات خارج نطاق القانون” ستكون مبررة أو حتى ضرورية”.
وتنطبق ملاحظات الكرد على العديد من الروايات التي تركز على التجويع في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، فلكي يكون الفلسطيني ضحية للإبادة الجماعية، يجب أن يكون “بريئًا”، ولكي يكون بريئًا، يجب ألا يكون “مسؤولًا”. لا يمكن للمرء أن يشارك في المقاومة، أو يتعاطف مع المقاومة، أو يكون قريبًا من المقاومة، ولا يمكنه أن يحاول الدفاع عن وطنه بنشاط أو حتى أن يكون لديه النية أو القدرة على القيام بذلك، يجب أن يكون المرء، على حد تعبير الكرد، “مطيعًا ومستسلمًا”، وإلا فإن “الإبادة الجماعية” التي يتعرض لها المرء ستكون “مبررة أو حتى ضرورية”.
المستشفيات التي قد تؤوي من يُزعم بأنهم مقاتلي “حماس” ليست “بريئة” بما فيه الكفاية، وسيارات الإسعاف والمسعفون الذين يعملون في الجهاز المدني لحكومة غزة – التي يديرها الجناح السياسي لحماس – ليسوا أبرياء، وأفراد عوائل مقاتلي حماس أو الذين يُزعم أنهم يعيشون في نفس المبنى مع أفراد عوائل مقاتلي حماس ليسوا بريئين بما يكفي أيضًا.
وحتى في الحالات التي لا يوجد فيها دليل حقيقي على أي ارتباط بحماس، فإن مجرد ادعاء ذلك يجرد الفلسطينيين من السلبية والوداعة الضرورية، ومن “البراءة” المطلوبة. ونتيجة لذلك، فإن الاستهداف المنهجي للمنازل والمدارس والمستشفيات وأماكن العبادة الفلسطينية، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين – رجالاً ونساءً وأطفالاً – لا يعد كافيًا لإثبات تهمة الإبادة الجماعية، لأن “حماس” قد تكون دائماً متواجدة في مكان ما، مما يلوث نقاء سلبية المستهدفين من قبل إسرائيل، ويجعل قتلهم أمرًا مقبولًا بدلاً من أن يكون محظورًا.
ولكن من الصعب تشويه براءة الجائعين، لأن الجوع بطيء وطويل، ولأنه ليس مكانًا بل حالة، ولأن الشخص عندما يصل إلى مرحلة الجوع يصبح خاضعًا وسهل الانقياد، ولأن الأشخاص الأكثر ضعفًا – الصغار والكبار والمرضى والضعفاء – هم الأكثر عرضة للتأثر بالجوع، كما يقترح آرييه نيير. ولأنهم ضعفاء، فهم الذين يحق لهم الحماية بموجب القانون الدولي، ولأنهم ضعفاء، فإنهم لا يشكلون عائقًا أو تهديدًا يذكر لمشروع إسرائيل الاستعماري، ولأنهم “ضحايا مثاليون”، نتيجة لضعفهم، يُسمح لهم بالعيش.
إن الحظر القانوني للإبادة الجماعية لا يميز بين المقاتلين أو غير المقاتلين، ولا بين المحاربين أو الأطفال. يمكنك ارتكاب إبادة جماعية ضد جيش دولة أخرى بالكامل طالما أنك ترتكب عملاً من أعمال الإبادة الجماعية – مثل حرمان السكان عمدًا من الغذاء والماء – ولديك النية المطلوبة لارتكاب الإبادة الجماعية، ولكن في الممارسة العملية، يعتقد البعض أن الإبادة الجماعية مسموحة عندما تُرتكب ضد مجموعات معينة أو مجموعات فرعية من السكان، فالعديد من الذين يعترفون بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، فقط لأن المجاعة قد بدأت، يؤيدون ضمنيًا هذا الاعتقاد، سواء أدركوا ذلك أم لا.
على مدى العقود القليلة الماضية، أصبح المجتمع الدولي أكثر صراحة بشأن الأضرار التي تلحق بالمدنيين خلال النزاعات المسلحة، وقد استجابت بعض الحكومات باستخدام التجويع كأداة لتحقيق نفس الأهداف دون الخوف من نفس مستوى الانتقاد، وقد انعكس هذا الاتجاه بشكل كبير في غزة. كما يلاحظ محمد الكرد: “يعيش الفلسطينيون في ثنائية زائفة وصارمة: نحن إما ضحايا أو إرهابيون”. بالنسبة للكثيرين الذين يرون أن التجويع هو جوهر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، تبقى حياة الفلسطينيين منقسمة إلى هاتين الفئتين – إرهابي وضحية – مما يفصل بين من أولئك الذين يمكن القضاء عليهم وأولئك الذين يجب حمايتهم، ويجعل التجويع أمرًا فظيعًا، بينما لا يُعد قصف المدنيين أمرًا يرقى إلى مستوى إبادة جماعية.
المصدر: موندويس