على امتداد تاريخه، لم يكن المغرب في مأمن من موجات الجفاف التي تركت بصماتها العميقة على المجتمع، مما أدّى إلى مجاعات لم تقتصر آثارها على الجسد فقط، وإنما امتدّت إلى الاقتصاد والبنية الاجتماعية والعادات الغذائية.
وقد ساهمت الطبيعة الجغرافية للمغرب في جعل هذه الأزمات متكرّرة؛ فباستثناء الشمال ذي المناخ المتوسطي الرطب نسبيًا، تقع أغلب الأراضي في نطاق جاف أو شبه جاف. وحينما ينحبس المطر لسنوات متتالية، تجفّ العيون والآبار، وتتراجع الأنهار، لتتحول الحقول إلى أراضٍ قاحلة. ومع كل موسم زراعي فاشل، يتقلّص المحصول تدريجيًا حتى يختفي، لتبدأ رحلة المجتمع مع المجاعة.
ولأن المجتمع كان قادرًا على تجاوز سنة واحدة من انحباس الغيث، فإن الكارثة كانت تبدأ حين يطول الجفاف لعامين أو أكثر، لتتحوّل الأزمة إلى مجاعة عامة تفتك بالناس والماشية على حد سواء. ومع ذلك، لم يستسلم المغاربة تمامًا؛ فقد طوّروا عبر قرون خبرات لمواجهة السنوات العجاف، أبرزها تخزين الحبوب في “المطمورات”، وهي خزائن تحت الأرض تُملأ في سنوات الوفرة لتُستهلك عند الحاجة.
وقد أدّى توالي هذه الأزمات إلى قلب الموازين الغذائية رأسًا على عقب؛ فاضطر الناس إلى العودة إلى “مرحلة القطف”، حيث صاروا يبحثون في الغابات والجبال عن أي نبات يسكن آلام الجوع ويؤخّر انهيار الجسد. ومع مرور الزمن، شكّلت هذه المجاعاتُ الثقافةَ الغذائية للمجتمع المغربي، عبر تطوير ذائقةٍ غذائيةٍ مقاومةٍ وظيفتها النجاة والتأقلم، لعبت فيها النباتات البرية دورًا مهمًا، إذ كانت تُستهلك في أوقات الشدة، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى عناصر مألوفة في المطبخ المغربي.
تاريخ من المجاعات المتكررة
أدّت السنوات العجاف التي امتدت بين عامي 1721 و1724 إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية لتصل إلى مستويات قياسية، وعلى الرغم من قلة المصادر التي تحدثت عن هذه المجاعة، إلا أن المعلومات المتاحة تقول بأن الجوع بلغ بالناس مبلغه إلى حد أن منهم من صار ينهب عجين الخبز وهو في طريقه إلى الفرن، كما نقل الباحث المغربي محمد الأمين البزاز عن المؤرخ محمد بن الطيب القادري، في كتابه “تاريخ الأوبئة والمجاعات في المغرب في القرنين 18 و19”.
وبعد أن استردت البلاد عافيتها، وأخذت الحياة طريقها إلى الرخاء والانتعاش، وبعد وفاة السلطان المولى إسماعيل، سقطت في دوامة الحروب الأهلية وصراعات حول السلطة.
يورد البزاز في كتابه المذكور أن من أسباب مجاعة ما بين عامي 1737 و1738 تعرُّضُ المطامير التي كان الفلاحون يخزنون فيها بذور الحبوب والحيوانات للنهب، كما أن الحقول، طوال سنوات، صارت مسرحا للمعارك وممراتٍ لعبور وحدات الجيوش التي تمارس فيها سياسة الأرض المحروقة، مما أدى بالفلاحين إلى إهمال مزارعهم والاعتناء فقط “بالحد الأدنى الذي يكفيهم للغذاء”، فقُطع التموين عن المدن التي كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بالبوادي، وارتفعت الأسعار أمام قلة العرض وكثرة الطلب.
ومما أزّم الوضع أن تلك السنة عرفت انحباس المطر، لتبلغ الأزمة الغذائية ذروتها، وليتساقط سكان مدينتي فاس ومكناس في الأزقة من شدة الجوع، حتى أن الناس عجزوا عن دفن موتاهم، كما قال المؤرخ محمد الضعيف. يضاف إلى ذلك أن المغرب شهد حينذاك موجة نزوح من المدن الداخلية التي كانت أكثر تضررا، إلى المدن الساحلية، وانتشرت اللصوصية في الوسطين الحضرية والقروية.
إلى جانب هاتين المجاعتين، شهد المغرب مجاعة أخرى، وُصفت في بعض المصادر التاريخية بـ”المجاعة الكبرى“، وقد بدأت بوادرها سنة 1775 مع اجتياح أسراب الجراد لإقليمَي سوس والغرب، لتتفاقم الأوضاع بسبب موسم فلاحي ضعيف وغلاء متصاعد في الأسعار، ثم سرعان ما أصبحت الحبوب نادرة في الأسواق، وارتفعت الأسعار بشكل لم يعد بمقدور الفقراء تحمله، فانتشر الجوع حتى في كبريات المدن.
قبل أن تواجه البلاد جفافًا مدمرًا بين 1779 و1782، ترافق مع أسراب هائلة من الجراد أتت على المزروعات، فقد وصف القنصل الفرنسي شيني المشهد بقوله: “إن السماء أظلمت من كثافة الجراد، وإن البهائم نفقت بالآلاف”. وأمام انهيار المحاصيل، وصلت الأسعار إلى مستويات فاحشة، وانتشر الموت جوعًا في مختلف المناطق.
بعض الروايات تحدثت عن أن الناس اضطروا إلى أكل الجذور أو حتى لحوم الموتى، أما المراسلات الأجنبية من الرباط وسلا وفاس، فكانت تنقل صورًا مأساوية لأسر بكاملها هلكت على الطرقات.
وبلغت هذه المجاعة ذروتها سنة 1779، ومع أن الأمطار عادت في نهاية العام، إلا أنها لم تكن كافية لإنقاذ الموسم الفلاحي، فكان كثير من الجائعين ينهبون الغلال قبل نضجها، وهو ما تسبب في انتشار أمراض مرتبطة بسوء التغذية، قُدّر ضحاياها بالآلاف.
في حين عاش المغرب ما بين 1847 و1851 واحدة من أقسى أزماته الغذائية، وذلك نتيجة تراكم ظروف صعبة بدأت بمحصولين متتاليين ضعيفين خلال 1845 و1846، وهو ما أجبر الفلاحين على استنزاف ما ادخروه في مطاميرهم من حبوب، لتبلغ أسعارها مستويات قياسية.
وإذا كان من الملاحظ أن المجاعات في تاريخ المغرب تحدث إما بسبب الجفاف، أو بسبب الحروب الأهلية، أو بسبب غزو الجراد، فإن المجاعة التي شهدتها البلاد بين 1939 و1945 والتي عُرف أحد أعوامها شعبيًا بـ”عام البون“، لم تكن بفعل هذه الأسباب، وإنما بسبب السياسة الفرنسية التي صادرت محاصيل البلاد ومواشيها لتغذية جيشها خلال الحرب العالمية الثانية.
حينذاك فُرض على المغاربة نظام قاسٍ للتزود بالمواد الأساسية عبر قسائم شراء محدودة الكمية، بينما حُوّلت الأراضي الزراعية إلى يد المستوطنين الفرنسيين، وطلبت سلطات الحماية من السكان المقهورين تقديم تبرعات لصندوق دعم المقاومة الفرنسية.
وتروي شهادات أن اللحم غاب في البداية عن موائد الناس، ثم تبعته الخضروات، حتى انتهى الأمر بوجبة هزيلة أو بعض فتات الخبز في اليوم كله.
هذه الكارثة خلّفت آثارًا عميقة على المجتمع، حيث نزح كثير من سكان الداخل نحو السواحل طلبًا للغوث، وارتفعت أعداد الوفيات بشكل مهول؛ إذ تراوحت التقديرات بين 45 ألفًا بحسب فرنسا و300 ألفًا بحسب مصادر مغربية، إضافة إلى آلاف الضحايا الذين قضوا بسبب الأوبئة.
استراتيجيات في مواجهة المجاعات
دفع الجوع المغاربة خلال المجاعات إلى كسر المحرمات الغذائية، فأكلوا الجراد والطيور وحتى النباتات التي استُعمل بعضها كبديل للدقيق، في مشهد يعكس القسوة التي بلغتها الأزمة.
لكن قبل ذلك ابتكروا أساليب مكّنتهم من تخزين الطعام لفترات طويلة، وطوّروا عبر قرون خبرات لمواجهة السنوات العجاف، أبرزها تخزين الحبوب في “المطمورات”، وهي خزائن تحت الأرض تُملأ في سنوات الوفرة لتُستهلك عند الحاجة، وتكون مصممة لحماية الحبوب من الرطوبة والحشرات، وتُغلق بإحكام بعد ملئها. فكانت بمثابة “بنوك غذائية” للأسر والقبائل، بحيث تُمكّن من الادخار الجماعي لمواجهة سنوات الشدة.
وهي نفسها الغاية التي بُنيت من أجلها المخازن الجماعية (إگودار) في بعض القبائل، خاصة الأمازيغية منها، والتي كانت استجابة ذكية لحاجتين ملحتين في حياة المجتمعات المحلية. فمن جهة، مثلت حصونًا لحماية المؤونة والثروات في أزمنة التوتر بين السكان المستقرين والرحل، خصوصًا حين تدفع سنوات القحط البدو إلى غزو القرى طلبًا للقوت.
ومن جهة أخرى، جسّدت هذه المنشآت وسيلة عملية لإدارة الموارد الزراعية في منطقة تتميز بتناوب الدورات المناخية ما بين السنين الماطرة والجافة، وما يفرضه ذلك من ضرورة تدبير الموارد وتوزيع استهلاكها بين هذه السنوات. غير أن أنظمة التخزين هذه، لم تجدِ نفعا حين كانت فترة الجفاف تمتد لسنوات طويلة، مما أجبر الناس على اللجوء إلى الطبيعة البرية.
اللجوء إلى البرية
في مواجهة هذه المجاعات، لم يجد المغاربة أمامهم سوى اللجوء إلى الطبيعة البرية، حيث الأعشاب والنباتات الجبلية والتين الشوكي. كلها أصبحت عناصر أساسية في الموائد المغربية.
هذه “النباتية القسرية”، أو “النباتية العفوية” كما سماها المؤرخ محمد حبيدة، كانت ضرورة للبقاء، قبل أن يستوعبها المجتمع تدريجيًا لتصبح جزءًا من هويته الغذائية.
في هذا السياق يشير المؤرخ محمد الأمين البزاز في كتابه المذكور إلى قائمة من الأطعمة التي ارتبطت بأزمنة القحط، وأطلق عليها “أطعمة الجوع”، فقد لجأ الناس حينها إلى استهلاك جذور نبتة “يرني” التي كانت تُسلق وتجفف ثم تُطحن لتتحول إلى دقيق أبيض يُخبز منه، إضافة إلى الخروب والنبق والبلوط والخبيزة والدوم، بل وحتى الجراد.
بعض هذه البدائل الغريبة صارت جزءًا من ذاكرة المغاربة كلما عادت صور المجاعات، وبعضها الآخر ما زال حاضرا في الموائد إلى اليوم. وترتبط تلك الذاكرة الشعبية بما يسميه محمد حبيدة في كتابه “المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار” بظاهرة “التسمية بالقوت”، حيث يُخلّد كل عام من أعوام القحط بما ميّزه من غذاء بديل أو ظاهرة طبيعية مرتبطة بالجوع، فإلى جانب “عام البقول”، نجد “عام البون” و”عام يرني”.
أما الباحث عبد الرحيم العطري، في مؤلفه “قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام”، فيوضح أن مواجهة المجاعة أفرزت أطباقًا جديدة؛ مثل اعتماد سكان بعض القبائل على “الكمأة”، أو ابتكار نوع من الخبز بشرق المغرب انطلاقا من جذور النباتات، فضلًا عن ظهور وصفات مثل “الحرشة” الممزوجة بالأعشاب العطرية.
عموما، ففي فترات الشدة، كان الناس يأكلون ما تفرضه الحاجة لا ما يشتهونه، والمائدة المغربية ليست بالضرورة انعكاسًا لذائقة المغاربة أو اختياراتهم الحرة، إذ غالبًا ما تحدد الأوضاع الاقتصادية والبيئية ما يُستهلك يوميًا أكثر مما يحدده الميل الفردي أو الجماعي للطعام، وحين وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى استهلاك النباتات البرية، سعوا إلى تهيئتها بطرق تتماشى مع عاداتهم، إما عن طريق طبخها أو عجنها أو خبزها، في محاولة للحفاظ على استمرارية الذوق حتى في ظروف الجوع.