في جريمة جديدة هزّت الضمير الإنساني، أسفرت غارتان جويتان إسرائيليتان مساء السبت 25 أغسطس/ آب عن استشهاد 20 مدنيًا، بينهم خمسة صحفيين، في استهداف مباشر لمحيط مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، إلى جانب إصابة عدد من الجرحى.
بحسب مصادر ميدانية، أسفرت الغارة الإسرائيلية الأولى عن استشهاد شخص واحد على الأقل، قبل أن تعاود القصف بعد دقائق، مستهدفة المكان ذاته أثناء تواجد المسعفين والصحفيين الذين هرعوا لتغطية الحدث وإنقاذ المصابين. في نمط هجومي متكرر يُعرف عسكريًا باسم “الضربة المزدوجة”، وهي تكتيك يضاعف عدد الضحايا عن عمد، ويستهدف المسعفين والصحفيين بشكل مباشر.
كان من بين الشهداء الذين قضوا في العملية، 5 صحفيين دأبوا على تغطية الحرب المستمرة على القطاع منذ بدايتها، حيث عملوا لصالح مؤسسات إعلامية دولية بارزة، وهم: معاذ أبو طه، محمد سلامة، حسام المصري، مريم أبو دقة، وأحمد أبو عزيز، قُتلوا جميعًا في الغارة الثانية، أثناء محاولتهم تغطية الحدث.
في هذا المقال، نرصد الخلفيات العسكرية لسياسة “الضربة المزدوجة”، ونستعرض وقائع وشهادات مماثلة لضحايا هذه الممارسة في غزة وساحات أخرى مثل باكستان وسوريا، مع التوقف عند أبعادها القانونية والإنسانية.
ما هي “الضربة المزدوجة”؟
تُعرف “الضربة المزدوجة” (Double Tap Strike) بأنها تكتيك عسكري يقوم على تنفيذ غارة أولى لاستهداف موقع معين، يعقبها قصف ثانٍ بعد دقائق معدودة يضرب نفس الموقع أو محيطه بينما يتوافد المسعفون، المدنيون، أو الصحفيون لإنقاذ الضحايا أو تغطية الحدث. الغاية غير المعلنة من هذا الأسلوب ليست فقط قتل من في الموقع لحظة الضربة الأولى، بل الإيقاع بمَن يسارعون لنجدة المصابين، ما يعني مضاعفة الخسائر البشرية عمدًا.
يُستخدم هذا النمط في النزاعات المسلحة كوسيلة ضغط نفسي وتكتيك رعب، إذ لا يكتفي بإيقاع الأذى المباشر، بل يزرع الخوف في نفوس من يقومون بأدوار إنسانية أو إعلامية، ويحولهم إلى أهداف محتملة. ومن هنا، فإن الضربة الثانية تُنفذ في توقيت محسوب بدقة، يُراهن فيه على طبيعة الاستجابة الفطرية لإنقاذ الأرواح أو توثيق الحدث.
وقد وثّقت منظمات حقوقية وإنسانية، بينها “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة أطباء بلا حدود”، استخدام هذا الأسلوب في مناطق عدة مثل باكستان واليمن وسوريا، من قبل أطراف مختلفة، أبرزها الطائرات الأميركية والروسية المسيّرة. واليوم، تعود هذه السياسة لتُمارس بشكل متكرر وممنهج في قطاع غزة، في ظل غياب المساءلة القانونية.
نمط متكرر وموثق
لم تكن مجزرة مستشفى ناصر، ولا استهداف الصحفيين والمسعفين فيها، حادثة استثنائية أو فردية. بل تندرج ضمن نمط عسكري متكرر وموثق، كشف تفاصيله تحقيق استقصائي مشترك أجرته مجلة “+972” الإسرائيلية وموقع “لوكال كول”، ونُشر في يوليو/ تموز الماضي، استنادًا إلى شهادات من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب روايات شهود عيان فلسطينيين وعمال إنقاذ، وتحليل عشرات الحالات.
يوثّق التحقيق استخدام الجيش الإسرائيلي المتكرر لأسلوب “الضربة المزدوجة”، ليس فقط في قصف الأهداف العسكرية، بل في قصف المواقع المدنية المكتظة، مع تعطيل متعمد لجهود الإغاثة. واحدة من أبرز هذه الحالات كانت هالة عرفات، 35 عامًا، التي ظهرت في مقطع مصور وهي تحاول الصراخ طلبًا للنجدة من تحت أنقاض منزل عائلتها شمال غزة بعد قصفه.
ورغم أن هالة بقيت على قيد الحياة لساعات، إلا أن الجيش الإسرائيلي تعمد استهداف كل من اقترب لإنقاذها عبر إطلاق نار من طائرات مسيّرة استمر قرابة ثماني ساعات. لحتى لم تتمكن فرق الإنقاذ من الوصول إليها، فاستشهدت تحت الركام، لتُضاف إلى 13 فردًا من عائلتها قضوا في الغارة نفسها، بينهم سبعة أطفال.
المصادر التي تحدثت لمجلة +972 من داخل “غرف تنسيق الهجمات” – المعروفة عسكريًا باسم “خلايا الضرب” – في القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، أكدت أن هذه الممارسة مقصودة ومعلومة النتائج. إذ صرح أحدهم بوضوح: “الجيش يعرف أن هذه السياسة تعني حكماً بالإعدام لعشرات، وأحيانًا مئات، من المدنيين العالقين والمصابين تحت الأنقاض، إلى جانب رجال الإنقاذ المحتملين”.
يستخدم هذا التكنيك أيضًا في حالات استهداف القادة العسكريين من المقاومة الفلسطينية، حيث تُنفّذ غارات ثانية متأخرة لمنع أي تدخل إنساني أو إخلاء طبي. في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تم تنفيذ ضربة مزدوجة أدت إلى اغتيال القيادي في حماس أحمد الغندور في مجمع تحت الأرض شمال غزة، لكنها أسفرت أيضًا عن مقتل ثلاثة رهائن إسرائيليين اختناقًا كانوا محتجزين في نفس الموقع.
إذ أكد مصدر عسكري شارك في تنفيذ الضربة، أن الغارة الثانية استهدفت مدنيين خرجوا من منزل قريب محاولين المساعدة، دون أي دليل على انتمائهم لأي تنظيم مسلح. وقال حرفيًا: “قصفناهم لأنهم اقتربوا. لم نكن نعرف من هم، لكننا لم نرد أن ينجو أحد”.
كما تم تطبيق هذا النموذج في مناطق مكتظة بالمدنيين، مثل المدارس التي لجأ إليها النازحون في قطاع غزة. ففي مايو/أيار الماضي، قصف الاحتلال مدرسة للبنات في جباليا، أعقبها قصف ثانٍ بعد دقائق. فيما أفاد شهود أن الجيش تعمّد تكرار الضربة لمنع أي محاولة إنقاذ للأطفال المصابين.
وعلى الرغم من أن بعضهم كان يعاني من حروق شديدة إلا أن أحد المنقذين كشف أن الجيش اتصل به هاتفيًا وأمره بمغادرة المدرسة فورًا لأن الغارة ستُستأنف. وخلال الضربة الثانية، كان لا يزال هناك جرحى تحت الأنقاض، بينهم أطفال، استشهدوا قبل أن يتمكن أحد من إنقاذهم.
فيما يُظهر تحول هذا التكنيك العسكري إلى سياسة إسرائيلية ممنهجة يُنفذها جيش الاحتلال على نطاق واسع ومستمر في حربه على قطاع غزة، رغم إدراكه المسبق لنتائجها الكارثية.
البعد القانوني للجريمة
تندرج سياسة “الضربة المزدوجة” كما تم توثيقها في غزة، تحت نطاق الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، وترقى إلى مستوى جريمة حرب، وفق تعريف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. فاستهداف موقع مدني، ثم قصفه مجددًا بقصد إصابة من يهبّون لتقديم الإسعاف أو تغطية الحدث إعلاميًا، يُعد جريمة مركبة: الأولى في الاستهداف غير المبرر، والثانية في الإمعان بقتل من يحميهم القانون.
كما يشمل البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، المسعفون باعتبارهم لا يشاركون في القتال، إذ ينص على ضرورة احترامهم وعدم التعرض لهم. أما الصحفيون، فيُعاملون كمدنيين طالما لم يرتكبوا أفعالًا عدائية مباشرة، ما يعني أن أي استهداف مباشر لهم هو انتهاك واضح، ويستوجب المحاسبة.
ظهر هذا الأسلوب الوحشي في عدة نزاعات دولية، واستخدمته قوى كبرى في حملاتها العسكرية، على رأسها الولايات المتحدة بين عامي 2009 و2012، حيث نفذت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) واحدة من أقوى الضربات الجوية على مسجد حسوخيل في شمال وزيرستان، في مايو/أيار 2012 بغارة أولى، أعقبها قصف ثانٍ بعد لحظات، بينما تجمع المصلّون وسكان المنطقة لإسعاف الجرحى وانتشال العالقين.
كما استخدمت روسيا الأسلوب ذاته في سوريا، حيث ألقت المروحيات الروسية صباح 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، براميل متفجرة على مستشفى بلدة الزعفرانة شمال شرق حمص حوالي الساعة 09:40، أعقبه قصف ثانٍ قرب وحدة غسيل الكلى أثناء معالجة المصابين، ثم ضربة ثالثة حوالي الساعة 10:30 استهدفت مدخل المستشفى الرئيسي.
ما أدى لمقتل 7 أشخاص وإصابة 47 آخرين، بينهم مسعفون ومرضى ونساء وأطفال. وهو ما اعتبرته منظمة أطباء بلا حدود مثالًا صريحًا على الضربة المزدوجة، ووصفته بـ “أسلوب تدمير متعمد يتجاوز حدود الفظاعة.”
نهايةً، تؤكد عشرات التحقيقات القديمة والحديثة، أن سياسة “الضربة المزدوجة” لم تبدأ مع عدوان 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل وُثقت أيضًا خلال عدوان 2014 على غزة، حين أكدت طواقم الهلال الأحمر أن هذا النمط كان سببًا مباشرًا في مقتل وإصابة عاملين طبيين.
دراسة لمنظمة “إيروورز” حللت أكثر من 600 غارة إسرائيلية خلال الشهر الأول من الحرب، وحددت أربع حالات مؤكدة لهجمات مزدوجة أسفرت عن مقتل ما بين 80 و 92 مدنيًا، مما يجعله نهج قتالي متعمد يمنع الاستجابة الإنسانية والتغطية الصحفية، في ظل صمت دولي متواصل.