ترجمة وتحرير: نون بوست
“لقد دمرتم العراق”.. اضطررت إلى انتظار رفيقي، الصحفي العراقي غيث عبد الأحد، ليترجم هذه الكلمات، لكن النظرة الغاضبة في وجه ذلك الكهل كانت كافية لتحكي قصته.
كنا نقف في شارع حيفا، أحد الشوارع الرئيسية في بغداد، والذي يمتد على الضفة الغربية لنهر دجلة، وكان الرجل قد علم للتو أنني بريطاني.
قال متحدثا عن الاحتلال الأمريكي البريطاني: “لقد وعدوا بأن العراق سيكون جنة”. ثم روى قصة تكررت كثيرا في تلك الفترة، إذ تعرض للاختطاف على يد الميليشيات الطائفية التي انتشرت بعد الغزو عام 2003، وتم تعذيبه بشكل مروّع حتى كاد يفقد القدرة على المشي.
كنا قد ذهبنا إلى شارع حيفا لنستعيد ذكريات عاشها عبد الأحد في يوم مروع قبل 21 عامًا. بأزقته ومبانيه الشاهقة، كان هذا الشارع الذي يبلغ طوله ميلين، مكانا مثاليا لحرب المدن والقناصة، وسرعان ما عُرف بشارع الموت.
في صباح يوم أحد من سبتمبر/ أيلول 2004، هرع عبد الأحد من غرفته في الفندق بعد أن علم بوقوع انفجار. تجمّع حشدٌ من الناس في أعقاب الحادث، بينهم مدنيون. أطلقت مروحيتان أمريكيتان عددا من الصواريخ، فتناثرت الجثث والأشلاء. وبينما كان يلتقط الصور، مات عدد من الأشخاص أمام عينيه، بينما توسل إليه الناجون أن “يُظهر للعالم الديمقراطية الأمريكية”.
التقينا بالرجل الغاضب بينما كنا نبحث عن الكوخ الخرساني الذي احتمى خلفه عبد الأحد، ومع استمرار الحديث، خفت حدّة غضبه. لطالما وجدت العراقيين ودودين بطبعهم، يميزون بين غضبهم من حكومات الغرب وبين المواطنين الغربيين. لكن غضبهم مبرَّر، فعلى خارطة التاريخ، يمتد مسار دموي من شارع حيفا إلى مدينة غزة. إن فشل الغرب في مواجهة كارثة العراق هو ما جعل الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني ممكنة.
الحرب العدوانية التي وصفها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان بأنها غير قانونية، أغرقت العراق في فوضى قاتلة. ووفقًا لإحصاء متحفظ أعدّته منظمة “إحصاء قتلى العراق” بعد بحث دقيق، فقد لقي نحو 300 ألف عراقي حتفهم نتيجة أعمال العنف، ثلثاهم تقريبًا من المدنيين، وقد قُتل بعض الضحايا مباشرة على يد قوات الاحتلال.
ويشير عبد الأحد إلى أن المجزرة التي شهدها لم تكن استثناءً، بل كانت حدثًا معتادًا، لكنها حظيت بقدر أكبر من التغطية لأنه صحفي في “الغارديان” وكان شاهد عيان. وهناك مثال آخر: مجزرة حديثة عام 2005، حين قتل جنود المارينز 24 مدنيًا، أصغرهم طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات، لكن تم إسقاط جميع تهم القتل الموجهة إليهم.
لعلك تتساءل: كيف يمكن أن تُرتكب جريمة بشعة واضحة للعيان مثل جريمة غزة؟ قتلت إسرائيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين تصفهم بـ”الحيوانات البشرية“، ودَفعت غزة نحو مجاعة يصفها خبراء مدعومون من الأمم المتحدة بأنها “من صنع الإنسان بالكامل“. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تُبث الفظائع في أنحاء العالم يوميًا. مع ذلك، قدمت الولايات المتحدة وحدها ما يقرب من 18 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل في السنة الأولى من الإبادة، بينما تكتفي الدول الغربية بالتعبير عن مخاوفها بدلاً من فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل.
لكن حرب العراق أثبتت أن أرواح العرب رخيصة بالفعل، ولا يمكن أن تعود لها قيمتها إلا بالمحاسبة. إلى جانب القنابل ورصاص قوات التحالف، قُتل العديد من المدنيين على أيدي الميليشيات الطائفية والجهاديين. قد تتساءل لماذا يجب على الغرب أن يتحمل المسؤولية عن جرائمه، غير أن رواية عبد الأحد الرائعة، “غريب في مدينتك“، تقدم الجواب وتكشف كيف قام المحتلّون بإضفاء الطابع المؤسسي على الطائفية.
لقد جلبوا سياسيين من المنفى وزعموا أنهم يمثلون الشيعة والسنة، مما أدى إلى تقسيم المجتمع. كان سوء معاملة الأقلية السنية عاملًا أساسيًا في صعود تنظيم الدولة وكل الفوضى التي أعقبت ذلك.
ثبت أن غياب المحاسبة يؤدي إلى نتائج كارثية. صحيح أن بريطانيا شهدت عام 2016 نشر نتائج تحقيق تشيلكوت، الذي خلص إلى أن توني بلير “قرر الانضمام إلى غزو العراق قبل استنفاد الخيارات السلمية لنزع السلاح”، وأنه تعمّد المبالغة في تقدير حجم التهديد الذي يمثله صدام حسين، لكن العراق ظل محفورًا في الذاكرة الغربية باعتباره خطأً فادحًا، وليس جريمة تستوجب العقاب.
ازدهرت مسيرة توني بلير المهنية بعد أن ترك رئاسة الوزراء، حيث جنى ملايين الدولارات من دول استبدادية مثل السعودية وكازاخستان. تتعامل معه وسائل الإعلام باحترام، بصفته رجل دولة مخضرمًا. وفي الولايات المتحدة، يحتفي الليبراليون الأمريكيون بجورج بوش الابن باعتباره جمهوريًا “محترما” مقارنةً بدونالد ترامب، على الأرجح لأنه لا ينشر تغريدات مسيئة. يشكل ترامب بلا شك تهديدًا أكبر للديمقراطية الأميركية، لكن بوش الابن ارتكب مذابح أكبر منه بكثير في الخارج. في الوقت نفسه، لم يتعرض الصحفيون الذين شجعوا على إراقة الدماء في العراق لأي عواقب تمس مسيرتهم أو سمعتهم.
لم يستوعب الغرب حتى الآن حقيقة أن حروبه الرئيسية الثلاث في القرن الحادي والعشرين – العراق وأفغانستان وليبيا – انتهت جميعها بشكل كارثي. وفقًا لدراسة أجرتها جامعة براون، مات أكثر من 4.5 مليون إنسان بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الصراعات وغيرها، بما في ذلك الحرب في سوريا.
في عالم يتسم بالحكمة، كان يجب أن تؤدي هذه الحروب إلى أزمة كبيرة، أن يُسجن السياسيون ويُطرد الصحفيون المحرّضون من مواقعهم، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. ولو حدث ذلك، هل كنا سنشهد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة؟ هذه الجريمة التاريخية لم تكن لتحدث لولا الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي الغربي. ولولا دفاع معظم وسائل الإعلام الغربية عن فظائع إسرائيل أو تبريرها، لما تمكنت الحكومات من تأييد الإبادة الجماعية.
لم ينسَ العراق مأساته. عاصمته تبدو الآن هادئة، وأفقها مليء بالرافعات التي تشهد على طفرة عمرانية، رغم أن جزءًا من هذه المشاريع يغذيه الفساد ويؤدي إلى إقصاء الفئات الهشة بسبب ارتفاع الأسعار.
لكن الميليشيات الطائفية باتت متغلغلة في مؤسسات الدولة، تترصد منتقديها وتهددهم. وعلى امتداد المدينة، تنتشر لافتات تخلد ذكرى ضحايا الحرب، جنبًا إلى جنب مع لوحات الإعلانات “التجارية. كُتب على إحدى اللافتات بالقرب من الفندق: “استشهدوا بالقصف الأمريكي الغادر”.
لطالما جرّد الغرب ضحاياه من القيمة الإنسانية والمعنى، وكان هذا التجريد من الإنسانية شرطًا أساسيًا لإخضاعهم، سواء على يد الغزاة في الأمريكيتين، أو البلجيكيين في الكونغو، أو البريطانيين في الهند.
وبما أنه لم تحدث محاسبة حقيقية على هذه الجرائم، قد يتساءل البعض: لماذا تكون غزة استثناءً؟ الإجابة تكمن في أن الغرب أمضى القرن الحادي والعشرين في حالة انحدار، سواء على صعيد القوة العسكرية أو النفوذ الاقتصادي أو المكانة الأخلاقية.
إبادة جماعية تُبث مباشرة في كل أنحاء العالم تعني أن كثيرين قد شاهدوا وسمعوا وقرأوا ما يكفي. هذه المرة، على عكس المذابح في العراق، لا بد من محاسبة السياسيين ووسائل الإعلام المتورطة في محو غزة من خريطة العالم، وفي ذبح شعبها وتشويهه وتجويعه. وكما يوضح تاريخنا القريب، فإن غياب المساءلة لا يجعل الجرائم المقبلة ممكنة فحسب، بل حتمية.
المصدر: الغارديان