هزّ المشهد الذي وقع يوم 25 أغسطس/آب في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، وجرت تفاصيله على الهواء مباشرة، وجدان الرأي العام العالمي، فقد كان واضحًا تمامًا أن القذيفة الثانية أو ما تُعرف عسكريًا بـ”الضربة المزدوجة” التي أطلقتها دبابة إسرائيلية، بعد أن هرع الصحفيون والمسعفون ورجال الدفاع المدني لنجدة الشهيد الصحفي حسام المصري الذي استهدفته القذيفة الأولى، كانت موجهة عمدًا بهدف القتل الجماعي لطاقم كامل من الصحفيين والمسعفين.
هذا المشهد، الذي أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 20 فلسطينيًا، بينهم أربعة من العاملين في القطاع الطبي وخمسة صحفيين، جاء بعد أيام قليلة فقط من مجزرة أخرى استهدفت خيمة للصحفيين عند بوابة ما تبقى من مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، وأسفرت عن استشهاد ستة صحفيين في قصف مباشر.
مع كل جريمة استهداف جديدة، ينكشف المزيد من صلف الاحتلال ووقاحته في تزييف الحقائق، عبر روايات كاذبة تهدف إلى التغطية على تعمد قتل ناقلي الصورة والصوت، لتأمين الصمت المطلوب لإتمام جرائم الإبادة بعيدًا عن أعين التوثيق والملاحقة، فغزة التي ترزح منذ نحو عامين تحت القتل والتدمير والتهجير والتجويع، تُراد لها أن تُعزل وتغييب عن العالم.
لا يقتصر الانكشاف على “إسرائيل” وحدها، بل يطال أيضًا ازدواجية المعايير العالمية، وانهيار المنظومة الأخلاقية لمؤسسات أممية ووكالات صحفية دولية واتحادات نقابية، تغاضت عمدًا عن جرائم الاحتلال، حتى عندما كان الضحايا من الصحفيين المتعاقدين معها، فبعضها تجنّب ذكر أسمائهم، بينما تلافى آخرون الإشارة إلى الجهة المسؤولة عن القتل، رغم أن الجريمة ارتُكبت على مرأى العالم، وأقر بها منفذها نفسه: جيش الاحتلال الإسرائيلي.
في هذا المشهد المتكرر، الذي حصد حتى الآن أكثر من 246 صحفيًا شهيدًا يجد الصحفي الفلسطيني نفسه أمام تحديات متراكمة، فهو يعيش لحظة الخطر الدائم بوصفه هدفًا مباشرًا للاستهداف، ويصارع من أجل النجاة كبقية أبناء شعبه، وفي الوقت ذاته يتحمل مسؤولية إنسانية ومهنية جسيمة، تتمثل في مواصلة نقل المأساة وتوثيقها رغم فقدان الزملاء وخذلان العالم.
هنا تفرض الأسئلة نفسها: كيف يعيش صحفيو القطاع هذا الواقع القاسي، تحت خطر الموت الذي يلاحقهم في كل لحظة؟ كيف يتعاملون إنسانيًا مع فقدان زملائهم واحدًا تلو الآخر؟ وإلى أي حد شكّل خذلان الصحافة العالمية لهم صدمة موازية للاستهداف نفسه؟
أن تكون صحفيًا في غزة يعني أن تُدرج تلقائيًا في قائمة الاستهداف
إسلام بدر – مراسل التلفزيون العربي
الاستهداف المباشر للصحفيين يترك أثرًا عميقًا على قدرتنا على الاستمرار في المهنة وعلى جودة التغطية. ومن الواضح أن جيش الاحتلال يسعى عبر هذه الهجمات المتكررة إلى كسر عزيمتنا وإضعاف إرادتنا ودفعنا للتوقف عن نقل الحقيقة، لكننا ندرك ذلك جيدًا.
الحياة في غزة صعبة بطبيعتها، سواء كنت مواطنًا عاديًا أو صحفيًا، لكن حين تكون الصحافة مهنتك تتضاعف المشقة، لأنك تُدرج تلقائيًا أنك في قائمة الاستهداف، وهذا ليس وهمًا بل واقع ملموس. والأثر لا يقتصر على الصحفي نفسه، بل يطال محيطه أيضًا، إذ يخشى الناس الاقتراب منه خشية أن يصبحوا في دائرة الاستهداف. حتى أشقائي حين حاولوا إيجاد مكان للإيواء، تراجع أصحاب البيوت عن استقبالهم بمجرد معرفتهم أنهم إخوة صحفي. لذلك فإن الاستهداف الإسرائيلي لا يقتصر على ضرب المهنة وعرقلة التغطية، بل يتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية ويثقلها بالخوف.
شعورنا بعد اغتيال الزملاء الصحفيين هو مزيج مرير من الفقد الشخصي والمهني؛ فقد كانوا رفاقًا أعزاء تقاسمنا معهم التغطية وتفاصيل الحياة اليومية لشهور طويلة. وهو أيضًا شعور بالغضب، لأن “إسرائيل” تقتل الصحفيين بدم بارد، بلا أي رادع أو موقف جاد يحميهم.
في هذه الحرب، كل لحظة فارقة؛ سقوط شهيد من بين أكثر من 60 ألف شهيد، قصف، اجتياح… كلها محطات مؤلمة، لكن بالنسبة لي تبقى اللحظة الأشد تأثيرًا هي تلك التي يُعلن فيها وقف إطلاق نار شامل ودائم، لأنها وحدها ستعني توقف الإبادة في صورتها الدموية.
اليوم، بعد شهور طويلة من القصف والإصابات والملاحقات، لم يعد هناك ما أخشاه؛ فالتهديد بالاستهداف المباشر لم يعد يرعبنا أمام ما نعيشه يوميًا. وما يدفعني للاستمرار رغم الخطر هو مزيج من الدوافع الإنسانية والأخلاقية والمهنية والوطنية. هذه الدوافع الأربعة هي سندي، فلو توقفنا نحن الصحفيين عن التغطية، فمن سينقل قصص أهلنا وأحيائنا؟ ومن سيوثق صمود شعبنا، ومعاناته، ودماء أطفاله وجوع نسائه؟
الأعمار بيد الله، ومن يعيش في غزة وسط هذه الحرب يبقى دائمًا مرشحًا ليكون الضحية التالية. الأمر صعب بلا شك، لكننا نسأل الله السلامة، وإن كان قدرنا أن نكون ضمن الضحايا فأنا شخصيًا راضٍ به.
ما ننتظره من المؤسسات الصحفية في الخارج هو وقفة جادة تضغط على “إسرائيل” لوقف استهداف الصحفيين، وأن تتحمل هذه المؤسسات مسؤولياتها تجاه مراسليها والعاملين معها ومصادرها في غزة، بتوفير الحماية الحقيقية لهم ماديًا ومعنويًا وقانونيًا. فهذا أقل ما يمكن تقديمه لمن يخاطرون بحياتهم لنقل الحقيقة.
أمارس مهنتي بوعي دائم أن الموت يلاحقني في كل لحظة
كرم حسان – مصور صحفي مستقل
للأسف، كثير من المؤسسات الإعلامية في الخارج ما زالت تتبنى رواية الاحتلال. في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة مجاعة قاسية منذ أكثر من أربعة أشهر، أودت بحياة ما يزيد على 60 ألف فلسطينيًا، تؤكد الصور الموثقة وجود مجاعة حقيقية، بينما تواصل دعاية الاحتلال إنكارها عبر الترويج لصور المعابر التي يُدخل منها جزء ضئيل من المساعدات، لكن ما يدخل فعليًا لا يغطي سوى 10% من احتياجات القطاع. المجاعة قائمة، والواقع بالغ القسوة على الأهالي وعلى الصحفيين الذين ينقلون الحقيقة.
لذلك، ما نطالب به المؤسسات الإعلامية في الخارج هو أن تكف عن تبني رواية الاحتلال، وأن تتحلى بالدقة والمهنية في تغطية ما يجري، وأن تقدم أكثر من مجرد تضامن لفظي مع الصحفيين في غزة. فالاستهداف الذي وقع في مجمع ناصر الطبي، وأدى إلى استشهاد خمسة صحفيين أثناء تغطية القصف الأول، يثبت أن الهدف كان قتل الصورة ومنع الحقيقة من الوصول. الاحتلال يريد أن يرتكب جرائمه دون توثيق، ولهذا فإن توفير الحماية للصحفيين ضرورة ملحة.
والمؤلم أن أحد الصحفيين المستشهدين كان يعمل مع وكالة عالمية، لكن بيانها تجنّب حتى ذكر اسمه، واكتفى بالقول إن “أحد المتعاونين معها” قُتل في غزة. هذه أقصى درجات التواطؤ. نحن لسنا أرقامًا، بل بشر لنا أحلام وحياة، نستحق أن نعيشها ونستحق على الأقل الحماية في أثناء أداء رسالتنا.
شعور الخطر يلاحقنا في كل لحظة. بعد استشهاد زملاء أعزاء مثل أنس الشريف ومحمد قريقع وإبراهيم ظاهر، أصبح الإحساس بأن “الدور قد يكون دوري” هاجسًا لا يفارقني. حتى إنني عدت إلى منزلي وصارحت أمي بأنني أشعر أنني الهدف القادم، وكتبت وصيتي بالفعل وسلمتها إلى أصدقائي لينشروها إن استُشهدت. هذا الإحساس ليس مبالغة، بل واقع نعيشه نحن الصحفيين في غزة، حيث الجميع على قائمة الاستهداف.
مع ذلك، يبقى الدافع للاستمرار أقوى من الخوف. إنه دافع إنساني بالدرجة الأولى. إن لم نوثق وننقل الحقيقة ونكون شهودًا على المجازر، فلن يعرف العالم شيئًا عما يجري. الاحتلال يحاول فرض روايته، ونحن الصوت والصرخة التي تفضحه. أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه شعبي وأهلي، فلا مجال للتراجع؛ فالصورة والكلمة هما سلاحنا لمحاولة وقف آلة القتل.
المؤلم حقًا أن العالم يتعامل معنا كأرقام؛ 100، 50، 60… مجرد إحصائيات أو محتوى عابر على مواقع التواصل. لكننا لسنا أرقامًا ولا محتوى للاستهلاك. نحن بشر لنا أحلامنا وطموحاتنا وإنجازاتنا. نحب الحياة مثل أي إنسان آخر، لكننا عالقون في محرقة وإبادة مستمرة منذ عامين. قبل الحرب، كنا شعبًا مفعمًا بالحياة والأمل والطموح لبناء مستقبل أفضل، أما اليوم فنصارع فقط للبقاء.
اليوم، يُقتل الصحفيون واحدًا تلو الآخر، ونفقد زملاء كانوا أعمدة للتغطية الإعلامية. نخشى أن ينجح الاحتلال في إسكات أصواتنا، فتُطمس الحقيقة وتُرتكب المزيد من الجرائم.
استشهاد محمد قريقع وإبراهيم ظاهر، وهما من أقرب أصدقائي قبل الحرب وأثناءها، كان ضربة قاسية جدًا، كما كان فقدان أنس الشريف الذي كان أكثر حضورًا في حياتي اليومية من عائلتي نفسها. غيابهم ترك فراغًا هائلًا، لكنه تحوّل أيضًا إلى دافع للاستمرار في نقل الرسالة وفاءً لهم.
أما اللحظة الأكثر قسوة في حياتي فكانت في سبتمبر/أيلول 2024، حين كنت في مهمة تغطية واكتشفت أن القصف استهدف منزل ابن عمي في بئر النعجة شمال غزة. هناك فوجئت باستشهاد زوجته إيمان –ابنة خالتي– مع معظم أبنائها. كنت قد رأيتها قبل يوم واحد فقط ووصيتها بالحذر. وعندما وصلت إلى البيت المدمر، لم أستطع تشغيل الكاميرا أو الاستمرار في التغطية، بل شاركت فرق الإنقاذ في انتشال الشهداء والجرحى. المشهد كان مروعًا، خاصة حين اضطررت لإبلاغ والدها بخبر استشهادها. ذلك اليوم غيّرني كثيرًا، وترك في داخلي يقينًا بأننا جميعًا قد نفقد أحبّتنا في أي لحظة.
أمارس مهنتي اليوم بوعي دائم أن الموت يلاحقني في كل لحظة، فالاحتلال لا يفرّق بين مدني وصحفي، الجميع أهداف بالنسبة له. ومع ذلك يبقى الأمل حاضرًا. أمل في وقف الإبادة، أمل في مستقبل أفضل، وأمل في أن ينتهي هذا الكابوس.
الصورة قد تكون سببًا كافيًا لاستهدافك
محمد أبو قمر – مراسل الجزيرة نت
الصحافة الفلسطينية بطبيعتها مهنة محفوفة بالمخاطر، وقد كان هذا واضحًا حتى قبل الحرب الأخيرة على غزة، فمنذ اندلاع الانتفاضة الثانية وحتى ما قبل هذه الحرب، استُشهد نحو 50 صحفيًا، ما يؤكد أن الاستهداف قديم وممنهج.
لكن وتيرة الاستهداف تسارعت مؤخرًا على نحو غير مسبوق، وكأن الاحتلال اتخذ قرارًا بإبادة غزة بعيدًا عن أعين العالم، من دون أي صورة أو تغطية إعلامية. وهذا ما يفسر الارتفاع الحاد في عدد الشهداء من الصحفيين، الذي تجاوز 246، بينهم من استُهدف على الهواء مباشرة، بلا أي خطوط حمراء.
يساعد الاحتلال في جرائمه هذا الصمت الدولي المطبق، سواء من اتحادات الصحفيين العالمية أو من المؤسسات الحقوقية والإنسانية. ومن أمن العقوبة أساء الأدب، فتحولت هذه البيئة إلى تهديد مباشر لكل صحفي فلسطيني، حتى بات المواطنون أنفسهم يخشون الاقتراب من الصحفيين أو التواجد بقربهم، خوفًا من أن يصبحوا أهدافًا لمجرد وجود صحفي بينهم.
بعد اغتيال الزملاء، يغدو الشعور السائد بيننا أننا نحن التاليون. كل صحفي يعيش تحت هاجس الاستهداف، سواء أثناء التغطية الميدانية أو حتى داخل بيته، إذ يتجاوز الخوف حدود المهنة ليطارد العائلة والأطفال الذين قد يصبحون ضحايا فقط لأن رب الأسرة صحفي.
لقد غيّرتنا هذه الحرب كثيرًا، ليس فقط كصحفيين بل كأشخاص، فهي حرب مختلفة عن كل ما سبق، نعيش فيها الخوف والتهجير والنزوح، ونحمل همومًا إنسانية يومية موازية لثقل العمل. البحث عن الغذاء، تأمين الحد الأدنى من الأمان للعائلة، والتعايش مع تفاصيل موجعة باتت جزءًا من حياتنا.
ما نخشاه اليوم أن مسلسل قتل الصحفيين لن يتوقف؛ فالاستهداف لم يعد فرديًا، بل أصبح موجهًا إلى مجموعات كاملة من الصحفيين كما حدث في مجمع ناصر الطبي. هذه الحقيقة تضاعف حجم الخطر، إذ باتت الصورة نفسها أو مجرد التغطية سببًا كافيًا لاستهدافك.
مع ذلك، ما يدفعنا للاستمرار هو قناعتنا بأن رسالتنا سامية، ولا يمكن أن نتوقف عن حملها. التوقف عن التغطية سيكون خيانة للأمانة وتركًا للساحة فارغة أمام الاحتلال ليواصل جرائمه بلا شاهد أو رقيب.
ندرك تمامًا أن كل صحفي في غزة، بل كل مواطن في هذا القطاع، قد يكون التالي على قائمة الموت الإسرائيلية التي لا تفرّق بين أحد، لكننا مؤمنون بعدالة رسالتنا ومهنتنا، وواعون أن قدرنا قد يكون الموت في أي لحظة.
لم يعد لدينا أي رهان على العالم أو المؤسسات الدولية؛ فالجريمة واضحة أمام أعين الجميع، ولم يتحرك أحد. لذلك لم نعد ننتظر شيئًا من الخارج. الأمل انكسر… لكن الرسالة ستظل مستمرة.
إنها مذبحة يومية تقلّص عدد من يواصلون التغطية
صافيناز اللوح – صحفية ومراسلة
في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية، نواصل عملنا الصحفي رغم كل المخاطر. أتنقل بين التغطيات الميدانية وأجري المقابلات وأعد التقارير، دون أن يرهبني التهديد المستمر. أنا مؤمنة بقدر الله، وأدرك تمامًا أن مصيري قد يكون الشهادة في أي لحظة، لكن ذلك لا يغيّر من قناعتي، فما يدفعني للاستمرار هو حبي لغزة وفلسطين، وانتمائي العميق لهذه الأرض التي تستحق أن نتعب من أجلها.
الوطن بكى معنا وصمد معنا على مدار العقود، لذلك فإن وطنيتنا تفرض علينا أن نواصل الكفاح ونتمسك برسالتنا الصحفية مهما كان الثمن. أُبلغ أهلي دائمًا أنني قد أكون الشهيدة التالية، وأصارح أخي وأختي بشعوري أن دوري قد يكون قريبًا. هذا الإحساس يلازمني حتى في أحلامي، رغم الحزن الذي يسببه لعائلتي.
بعد نحو عامين من الإبادة وسقوط ما يقارب 250 شهيدًا من الصحفيين، لم أعد أنتظر أي تحرك جدي من المؤسسات الدولية أو الصحفية. في أفضل الأحوال، لا نجد سوى بيانات استنكار، بينما يستمر الاحتلال في استهدافنا عمدًا ويتفاخر باغتيال زملائنا. من قبل تفاخر باغتيال أخي المصور الشهيد أحمد اللوح، وكذلك أنس الشريف ومحمد قريقع، واليوم يدّعي أن بعض الاستهدافات “أخطاء”. لكنها ليست أخطاء، بل سياسة ممنهجة لإسكات الصوت وقتل الصورة، وما جرى في مجمع ناصر الطبي لم يكن استثناءً، بل حلقة في سلسلة متواصلة من الجرائم.
إنها حرب إبادة بحق الصحفيين، مذبحة يومية تقلّص عدد من يواصلون التغطية، فيما يسعى الاحتلال لطمس الصحافة في غزة ومحو الصورة والصوت، وارتكاب إبادة صامتة بعيدًا عن أعين العالم.
أما الشعور بعد استشهاد الزملاء فلا يوصف، فكل خبر اغتيال صاعقة لا يمكن الاعتياد عليها. لكل زميل فقدناه ذكريات وتجارب مهنية وإنسانية لا تُنسى. كان استشهاد حسام المصري ومحمد أبو سلامة صادمًا، لكن الصدمة الأكبر كانت عند رحيل صديقتي العزيزة مريم أبو دقة. كانت أختًا قريبة، شجاعة، معطاءة لا تهاب شيئًا. خبر استشهادها جعل الزمن يتوقف، وأغرقني في بكاء مرير.
ورغم كل ما عايشناه من لحظات قاسية واستهداف شديد وفقدان للأحبة، ما زلت على قناعتي أن رسالتنا يجب أن تستمر. فوطنيتنا ومهنيتنا تفرض علينا أن نواصل الطريق، وأن نحمل الصوت والصورة حتى النهاية، وفاءً للوطن ولمن سبقونا.
كل صحفي يتوقع أن يكون التالي
عماد زقوت – صحفي وناشط نقابي
منذ بداية الحرب يتعرض الصحفي الفلسطيني لمقتلة حقيقية واستهداف مباشر ومركّز. كل المبررات التي يسوقها الاحتلال عند استهداف أي صحفي أو مجموعة من الصحفيين ليست سوى ذرائع واهية وكاذبة، فالاحتلال يستخدم كل أدواته المتطورة، من أقمار صناعية وطائرات تجسس بمختلف أنواعها، مرورًا بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى وسائل الترصد والمتابعة، على رقعة جغرافية صغيرة كقطاع غزة.
لذلك فهو يعرف تمامًا من يستهدف وأين يستهدف. وكل حديث عن “أخطاء” أو “عدم العلم بوجود صحفيين” ليس إلا تضليلًا مقصودًا، فهذه عمليات تتم عن سبق إصرار وترصد.
الصحفيون الفلسطينيون يتعرضون لمتابعة لصيقة من وحدات إسرائيلية خاصة، مهمتها رصد نشاطهم، والتحريض عليهم، وشن حروب نفسية ضدهم، وكل ذلك لهدف واحد: طمس الحقيقة والمعلومة والصورة. ولأجل ذلك أيضًا يمنع الاحتلال دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، لأنه لا يريد أن تصل الصورة الحقيقية إلى العالم.
رغم ذلك، أثبت الصحفي الفلسطيني قدرته الاستثنائية على التغطية. لقد قدّم أطول تغطية إعلامية في المنطقة العربية، مستمرة منذ نحو عامين ليلًا ونهارًا، وفي أقسى الظروف الأمنية والإنسانية. ورغم القصف والخطر والتحريض، بقيت التغطية حاضرة. فإذا رحل صحفي، تولى زميله إكمال الرسالة، لتظل صورة ومعاناة الشعب الفلسطيني حاضرة أمام العالم.
نحن أمام مجزرة تاريخية بحق الصحفيين الفلسطينيين لم يشهد العالم مثيلًا لها. أكثر من 246 صحفيًا وصحفية استُشهدوا حتى الآن، بعضهم استُهدف على الهواء مباشرة كما حدث مؤخرًا في مجمع ناصر بخان يونس. ويستمر الاحتلال في استهدافهم لأنه يدرك تأثيرهم، ولأنهم يفضحون جرائمه.
الأوضاع صعبة للغاية؛ فالصحفي الفلسطيني مثل أي مواطن آخر في غزة يعيش مأساة النزوح المتكرر، متنقلًا من خيمة إلى أخرى بحثًا عن الأمان، وسط عذابات فقدان الطعام والماء والدواء والعلاج، وغياب التعليم لأطفاله، لكن فوق كل ذلك يحمل مسؤولية عامة، أن يواصل التغطية وكشف الجرائم، حتى لا تُطمس صورة شعبه عن شاشات ووكالات العالم.
إلى جانب ذلك، هناك صحفيون اختُطفوا من أماكن عملهم خلال العمليات العسكرية ويقبعون اليوم في سجون الاحتلال. أما من بقي، فيعملون من الخيام بعد أن دُمّرت مقراتهم الصحفية ومعداتهم بالكامل. ومع ذلك، يواصل الصحفي الفلسطيني عمله في بيئة غير صالحة للعمل إطلاقًا، ليصنع من المستحيل فعلًا مستمرًا.
أما الفقد الشخصي للزملاء، فهو جرح لا يندمل. نفقد إخوةً عملنا معهم كتفًا إلى كتف في أقسى الظروف، وفجأة يصبحون صورًا وذكريات. أسماء مثل أنس الشريف ومحمد قريقع وإسماعيل الغول وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة وغيرهم، رافقناهم وعايشناهم، والآن نفتقدهم
كان أنس الشريف نموذجًا بارزًا؛ عمل في أقسى الظروف وبأدوات متواضعة، لكنه نجح في إيصال صورة وصوت الشعب الفلسطيني إلى العالم، مؤثرًا في الإعلام الدولي. وهذا ما جعله خطًا أحمر بالنسبة للاحتلال، فاستُهدف مباشرة. “جريمة” الصحفي الفلسطيني أنه استطاع أن يخترق الإعلام الدولي بروايته الصادقة، ليحرّك الرأي العام ويكشف جرائم الاحتلال.
لقد أسس الصحفيون الفلسطينيون، بعملهم في أقسى الظروف، مدرسة خاصة هي “مدرسة أنس الشريف وزملاؤه”، مدرسة المراسل الحربي الميداني، التي غدت أيقونة عربية ودولية، ورمزًا فلسطينيًا في العمل الصحفي.
من اللحظات الفارقة التي غيّرتنا، الأشهر الأولى للحرب حين كنا نغطي من المستشفيات. رأينا جثث الشهداء متراكمة في الساحات، وجرحى يفوق عددهم قدرة الأطباء على الاستيعاب. كنا ننام قرب الجثامين، ونستمع لأنين الجرحى، وشهدنا مقابر جماعية تعذّر دفن أصحابها بسبب شدة القصف. مشاهد لا تُنسى، لكنها كانت دافعًا أقوى لمواصلة التغطية وإيصال الصورة إلى العالم.
اليوم أكثر ما نخشاه هو استمرار الحرب واستمرار تدمير ما تبقى من القطاع. لقد طال أمد الحرب بشكل غير مسبوق، والمعاناة تضاعفت، والناس أصبحوا هزيلين بلا طاقة، يرحلون من نزوح إلى آخر.
والصحفي، وهو إنسان قبل كل شيء، يعيش هذه المعاناة ويفكر بعائلته، لكنه يفكر أيضًا في رسالته المهنية والوطنية. ما يدفعه للاستمرار هو ما يراه يوميًا من قصف ودمار وجثامين وجرحى وأسرى وخراب شامل لمقومات الحياة. أمام ذلك، لا يجد سوى أن يصرخ بطريقته الخاصة، عبر الكلمة والصورة والتغطية المستمرة.
قافلة الشهداء من الصحفيين توقفت الآن عند الرقم 246، وكل صحفي في غزة يتوقع أن يكون الرقم التالي. استمرار الحرب يعني استمرار القتل والاستهداف والمعاناة والرعب والإبادة الجماعية.
إن ما ننتظره من المؤسسات الإعلامية العالمية كثير؛ فالصحفي الفلسطيني قدّم كل شيء؛ حياته، عائلته، معداته، مؤسساته، وحتى حريته. لذلك فإن المطلوب من هذه المؤسسات ليس فقط حماية الصحفيين، رغم أهميتها، بل رفع الصوت عاليًا لوقف المقتلة بحق الشعب الفلسطيني كله، فالصحفي الفلسطيني لا يريد حماية لنفسه فقط، بل يريد وقف شلال الدم وإنهاء الحرب. وواجب المؤسسات الإعلامية أن تعلي صوت الشعب الفلسطيني، معاناته وقهره، لا أن تكتفي ببيانات الشجب والاستنكار.
كل لحظة قد تكون الأخيرة.. ومع ذلك ما زلنا مستمرين
عامر الفرا – مراسل قناة اليوم
في جريمة إسرائيلية جديدة، اغتالت قوات الاحتلال خمسة من الزملاء الصحفيين أثناء قيامهم بواجبهم المهني في مجمع ناصر الطبي بخان يونس. منذ بداية الحرب أخذنا على عاتقنا الاستمرار في عملنا ونقل جرائم الاحتلال إلى العالم، رغم المخاطر الكبيرة والظروف القاسية من تدمير المكاتب والمقار والمعدات، والعمل في ظروف استثنائية تتسم بالنزوح المتكرر لنا ولعائلاتنا، ما جعلنا نعيش بلا استقرار أو مأوى ثابت.
مع ذلك، أواصل عملي يوميًا وعلى مدار الساعة؛ أنقل الأحداث أولًا بأول، وأتنقل بين خيام النازحين لتوثيق معاناتهم عن قرب، وأعد التقارير التلفزيونية لبثها عبر القناة. وكلما استُهدف الصحفيون بشكل مباشر، ازداد إصراري على المضي قدمًا في أداء رسالتي وواجبي المهني في نقل معاناة شعبي.
كان وقع اغتيال زملائي في مجمع ناصر كالصاعقة؛ فكل زميل نفقده خسارة كبيرة لنا كصحفيين وخسارة أكبر لوطننا، لأنهم كانوا صوت الناس إلى العالم الخارجي الصمّ. عشنا معًا أيامًا طويلة تقاسمنا فيها الألم والجوع والخوف، ووثقنا الجرائم في شوارع خان يونس المدمرة. اقتسمنا رغيف الخبز في عز المجاعة، وسهرنا لليالٍ طويلة على وقع القصف، نخاف على بعضنا ونواسي بعضنا، لكننا صمدنا واستمرينا بالعمل. رحلوا إلى رحمة الله وتركوا في القلب غصّة وحزنًا كبيرًا.
كل صحفي في غزة يعيش تحت الاستهداف المباشر أو غير المباشر؛ قد يُغتال أثناء عمله، أو تصيبه شظية أو رصاصة وهو يوثق الحدث. جميعنا مستهدفون، نحمل أرواحنا على أكفنا ونسير بها في الميدان، مدركين أننا قد نفقد حياتنا في أي لحظة. نخشى أن نكون الهدف القادم، لكننا مؤمنون أن ما يصيبنا لن يكون إلا ما كتبه الله لنا.
ما يمنحني القوة للاستمرار رغم الخطر هو إيماني برسالتي الصحفية وواجبي الوطني تجاه أبناء شعبي. الناس علّقت آمالها علينا لنكون صوتها ولسانها أمام العالم. والصحافة بالنسبة لي مهنة إنسانية سامية، تسلّط الضوء على معاناة الناس، ولا يمكن أن أتخلى عنها.
منذ عام 2010 وأنا أمارس العمل الصحفي، غطيت خلالها كل الحروب السابقة والتصعيدات ومسيرات العودة، ولم أتقاعس يومًا عن واجبي المهني والأخلاقي، لكن هذه الحرب مختلفة كليًا؛ ظروفها استثنائية، بلا مكان ثابت لنا، نعمل من الخيام والطرقات والشوارع، ومع ذلك ما زلنا مستمرين بإذن الله.
هل أُجهز نفسي لاحتمال أن أكون التالي؟ بالطبع، فكل أبناء غزة معرّضون لذلك، ليس فقط الصحفيون. من اليوم الرابع للحرب، حين اغتيل الزملاء سعيد الطويل ومحمد صبح وهشام النواجحة، كنا معهم في المكتب بمدينة غزة، وعلى بعد أمتار قليلة منهم. منذ تلك اللحظة أيقنت أن الصحفيين باتوا هدفًا مباشرًا لـ”إسرائيل”، ومنذ ذلك الحين وأنا أستيقظ كل يوم متوقعًا أن أكون القادم. نحن اليوم نتحدث عن أكثر من 246 شهيدًا من الصحفيين، وهو رقم غير مسبوق عالميًا، ورغم ذلك ما زلنا مستمرين.
ما نطالب به الاتحاد الدولي للصحفيين، والمؤسسات الإعلامية، وكافة النقابات حول العالم، هو أن تضغط باتجاه توفير الحماية الدولية للصحفيين وتطبيق القوانين التي تكفل لهم حرية العمل والتنقل، فالصحفي يعمل بحيادية وموضوعية، ومهمته نقل الأحداث وتوثيقها، وهذا حق مكفول له. لماذا إذن يُقتل ويُرهب؟ يجب أن يُحاسب قادة “إسرائيل” الذين ارتكبوا الجرائم بحق الصحفيين. نأمل أن يكون هناك تحرك عاجل من المؤسسات الإعلامية والحقوقية الدولية لدعم صحفيي غزة، والعمل على وقف استهدافهم وتوفير الحماية لهم.
أخشى أن أصبح مجرد رقم يتلاشى في خضم الإبادة
باسل أبو حسان – صحفي
أعيش كل يوم وأنا أخشى أن أفقد حياتي كما حدث لزملائي، فأتحول إلى مجرد رقم يُذاع للحظات ثم يتلاشى في خضم الإبادة. بعد اغتيالهم، أشعر أن العالم لا يحاول حتى منع الاحتلال أو إلزامه بوقف الحرب، أو على الأقل حماية الصحفيين.
لم تكن هناك لحظة واحدة غيرتني، بل كل فقد ومأساة ترك في داخلي انقباضًا واختناقًا. انهرت باكيًا عند استشهاد زملائي أنس الشريف ومحمد قريقع. كان محمد صديقًا عزيزًا قبل أن يكون مراسلًا للجزيرة، وأعرف جيدًا بساطة حياته ومعاناته.
أكثر ما أخشى أن تكبر طفلتي بلا حنان أبيها ودفء حضنه. لا حضن في الدنيا يشبه حضن الأب.
ما يدفعني للاستمرار أنني لا أملك خيارًا آخر. لا أستطيع أن أتوقف عن نقل صورة معاناة شعبي الذي يُقتل أمام عيني، ولا أن أصمت عن صراخ المعذَّبين، لأنهم مني وأنا منهم.
لا أتهيأ للشهادة، لكنني أعيش هذا الإحساس في كل لحظة. لا أحد يفهم معنى هذا الشعور إلا من يعيش وسط الإبادة ويمشي في شوارع غزة.
وعندما يُسأل: ماذا ننتظر من المؤسسات الإعلامية في الخارج؟ أضحكني السؤال بقدر ما آلمني. إن تحركت الحكومات، ستتحرك المؤسسات، ثم الشعوب. وحتى ذلك الحين، ما نطلبه هو أن يتحلوا بالشجاعة لمرة واحدة فقط، ويقولوا الحقيقة مهما كان الثمن.
اليوم، ورغم أن قافلة الشهداء من الصحفيين تقترب من تجاوز 246 شهيدًا، ورغم الخوف الذي يلاحق كل صحفي في كل لحظة، ظل الصحفي الفلسطيني شاهدًا حيًا، يقاوم بالصورة والكلمة، ويصر على أن يكون صوت الناس إلى العالم. هذه الشهادات لا تفضح فقط جرائم الاحتلال، بل تكشف أيضًا عجز المؤسسات الدولية والنقابية والإعلامية العالمية عن القيام بواجبها الأدنى في الحماية، تاركة الصحفي الفلسطيني يواجه الموت وحيدًا.
مع ذلك، لم ينكسر الصحفيون في غزة. بل على العكس، صنعت دماؤهم وأقلامهم مدرسة خاصة في التغطية الميدانية، أثبتت أن الصوت الفلسطيني سيبقى حاضرًا مهما حاول الاحتلال إسكاتَه. إنهم يؤكدون بدمهم وصمودهم أن الحقيقة لا تُقتل، وأن الصورة، مهما حجبها الاحتلال، ستجد طريقها إلى العالم لتكون الشاهد الأصدق على واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث.
عامان من المناشدات ولم نرَ سوى بيانات شجب واستنكار
ولاء أبو جامع – مراسلة إذاعية ومُعدة قصص مصورة
نعيش مهنتنا كصحفيين بين الخوف من الاستهداف وبين أمانة الرسالة المهنية والوطنية والإنسانية: أن نواصل عملنا الإعلامي رغم تصاعد الهجمات بحق المدنيين والصحفيين على حد سواء.
اليوم نتحدث عن أكثر من 246 صحفية وصحفي استُهدفوا بشكل مباشر، وكل “جريمتهم” كانت الكاميرا والقلم والصورة التي سلّطت الضوء على معاناة غزة في ظل حرب الإبادة المستمرة منذ ما يقارب العامين.
الوجع كبير بفقد الزملاء والزميلات الذين عاشرناهم وتقاسمنا معهم أقسى الظروف لشهور طويلة. في الميدان، على موائد الطعام البسيطة، في ليالي الخوف والقصف والمجاعة. فقدنا الصحفية مريم أبو دقة بينما كانت توثق جريمة استهداف زميلنا حسام المصري؛ كانت تغطي الحدث فأصبحت هي الحدث. إنه شعور موجع لا يوصف.
شعورنا اليوم خليط من الخوف والصمود. في بداية الحرب تغيّرت نظرتي تمامًا، فلم أعد فقط أوثق معاناة شعبي، بل أيقنت أن الألم لن ينتهي حتى لو توقفت الحرب، بل ربما يتكشف بشكل أكبر بعد انتهائها.
كل يوم أشعر أننا نقترب من أن نكون “الدفعة القادمة” من الشهداء الصحفيين. ومع طول أمد الحرب باتت النفوس مثقلة باليأس وانعدام الأفق. ومع ذلك، نحن نحب الحياة، لنا أحلامنا وطموحاتنا، لكنها طُمست تحت عبء النجاة وتأمين أساسيات العيش لعائلاتنا.
فقدتُ أربعة من إخوتي، بينهم طفل صغير هو حفيدنا الأول محمد (4 سنوات). هذا الفقد مزّقني وأمي معًا، حتى قالت لي باكية إنها من كثرة الدموع بدأت تفقد بصرها: “بطلت أشوف زي زمان”. منذ ذلك الحين لم أعد أخشى على نفسي بقدر خوفي على أمي من المزيد من الفقد.
لا أريد أن أكون رقمًا آخر في قوائم وزارة الصحة، ولا مجرد إحصائية في بيانات الصحفيين الشهداء. لي طموحاتي وأحلامي، فقدتُ حياتي التي بنيتها، لكنني أؤمن أن شعبنا قادر على إعادة البناء من جديد.
كل يوم أتعامل معه وكأنه الأخير؛ أحاول ألا أقصّر مع أحد، وأتجنب ترك أي أثر من العتب أو الفقد. وأتمنى إن استشهدت أن أبقى كاملة الجسد والملامح، بحجابي الكامل. حاولت كتابة وصيتي لكنني لم أستطع، لأنني خائفة على أمي؛ فالأصدقاء ينسون سريعًا، أما الأم فحزنها لا يُضاهيه شيء.
ورغم كل هذا الألم، ما يدفعني للاستمرار هو أن هناك قصصًا إنسانية كثيرة في غزة يجب أن تصل إلى العالم؛ قصص أطفال ونساء وعائلات معذبة تستحق التوثيق. أحيانًا شعرت بسعادة لأنني استطعت أن أكون سببًا في إنقاذ حياة طفل عبر نشر قصته، أو في وصول مساعدة لعائلة محتاجة. هذه النماذج الصغيرة، رغم بساطتها أمام هول المأساة، تمنحني الإيمان بأن الصورة والكلمة قادرتان على إحداث فرق.
لم نعد ننتظر شيئًا من المؤسسات الإعلامية الدولية؛ لعامين كاملين ونحن نناشد ونطالب بحماية الصحفيين دون جدوى، فلم نرَ سوى بيانات شجب واستنكار لم تغيّر شيئًا ولم توقف الإبادة. وحتى على صعيد الحقوق، عملت منذ بداية الحرب مع وكالة الـ BBC، لكنني لم أتقاضَ كامل مستحقاتي المالية، بذريعة التعقيدات البنكية والمماطلة. حقوقي لن أتنازل عنها، حتى لو استشهدت، ستبقى حقوقًا مُستحقة، ولن أسامح من انتقصها.