تتسارع وتيرة النقاش حول ملف نزع سلاح “حزب الله”، بعدما كلّف مجلس الوزراء اللبناني الجيش بوضع خطة تنفيذية قبل نهاية العام، في وقت يواصل الحزب رفضه القاطع لأي مساس بترسانته. آخر فصول هذا الحراك تمثّل في مذكرة حملها المبعوث الأميركي توم باراك قبل أيام، تتضمّن جدولًا زمنيًا وآلية نهائية للتنفيذ. وقد ناقش القصر الجمهوري هذه المذكرة في جلستين متتاليتين مطلع آب/أغسطس، لكن النقاش انتهى إلى انقسام حاد داخل الحكومة:
وزراء الثنائي الشيعي انسحبوا اعتراضًا على التوقيت والترتيبات، فيما لم يُتخذ أي قرار نهائي بشأن البنود التفصيلية. ومع ذلك، تقرر تكليف الجيش إعداد خطة شاملة لحصر السلاح بيد القوى الشرعية، على أن تُنجز وتُعرض على مجلس الوزراء في موعد أقصاه 31 آب/أغسطس الجاري لمناقشتها وإقرارها.
هذا التطور أعاد ترسانة “حزب الله” إلى صدارة النقاش الإقليمي والدولي، بعدما ظلّت لسنوات ملفًا معقدًا لا يخرج إلى العلن إلا مع كل جولة تصعيد. فالتقديرات حول حجم السلاح تتراوح بين مئة ألف ومئتي ألف صاروخ، فضلًا عن منظومات دقيقة وطائرات مسيّرة هجومية واستطلاعية، ما يجعلها محل قلق مستمر في تل أبيب وواشنطن على السواء.
في هذا المقال، نفتح ملف سلاح “حزب الله”: كم يملك الحزب فعلًا من ترسانة عسكرية؟ ماذا تتضمن الخطة الأميركية لنزعها؟ وما هي أبرز التحديات الإقليمية والداخلية التي تعترض تنفيذها؟
ما حجم الترسانة العسكرية للحزب؟
تتباين التقديرات بشكل واسع حول حجم الترسانة العسكرية لـ”حزب الله”، إذ تشير بعض الإحصائيات الإسرائيلية إلى امتلاكه نحو 75 ألف صاروخ، فيما ترفع مصادر أخرى الرقم إلى ما بين 130 و150 ألفًا، بينما تصل بعض التقديرات الغربية إلى سقف 200 ألف صاروخ وقذيفة. هذا التفاوت يعكس غياب الشفافية وصعوبة التحقق الميداني، لكنه يُجمع على أن الحزب يمتلك واحدة من أضخم الترسانات العسكرية خارج الجيوش النظامية في العالم.
تشير معظم التقارير أيضًا إلى أن الكتلة الأكبر من السلاح هي صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى غير موجهة، مثل غراد وفجر وفلق، إلى جانب عدد أقل من الصواريخ الثقيلة مثل زلزال وفاتح-110/M600. وإلى جانب هذه الصواريخ، يملك الحزب طائرات مسيّرة استطلاعية وهجومية، ومنظومات مضادة للدروع مثل الكورنيت والدهلاوية، إضافة إلى مضادات سفن أبرزها C-802 التي استخدمت في حرب تموز 2006 ضد السفينة الإسرائيلية “حانيت”.
غير أن النقطة الأكثر حساسية في الترسانة هي مشروع الصواريخ الموجهة بدقة، الذي تعتبره “إسرائيل” التهديد الاستراتيجي الأكبر بعد الملف النووي الإيراني. تقديرات أعداد هذه الصواريخ تتراوح بين بضع مئات وصولًا إلى نحو 1500 قطعة، وهو رقم محدود مقارنة بالمخزون الكمي الضخم، لكنه كفيل بتغيير معادلة الردع إذا استُخدم بكفاءة.
كما يمتلك الحزب منظومة مسيّرات متنوّعة، بعضها إيراني المنشأ، ما يمنحه قدرة على الاستطلاع وتنفيذ هجمات دقيقة نسبيًا. ورغم الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة التي كبّلت جزءًا من هذه القدرات، إلا أن تقارير دولية تشير إلى بقاء البنية الأساسية للمسيّرات فعّالة. أما في مجال الدفاع الجوي، فما يزال الاعتماد على أنظمة محمولة على الكتف ورشاشات مضادة للطائرات، فيما تظل القدرات البحرية قائمة على مضادات السفن المعروفة، مع مساعٍ إسرائيلية مستمرة لمنع تطويرها.
من جهة أخرى، يعتمد الحزب على خطوط تهريب عبر سوريا لتأمين الإمدادات، بالتوازي مع عمليات إنتاج محلية محدودة عبر ما يُعرف بمجموعات التحويل التي تجعل الصواريخ أكثر دقة. الضربات الإسرائيلية المتكررة، مثل عملية استهداف منشآت في مصياف عام 2024، كشفت عن عمق هذا النشاط وعن حجم التحدي في تعطيله.
وقدّرت مصادر دبلوماسية غربية أن الحزب خسر نحو 20 إلى 25 بالمئة من قدرته الصاروخية بفعل الغارات الواسعة خلال العام الماضي، فيما ذهبت مصادر إسرائيلية أبعد من ذلك بالحديث عن بقاء ما لا يزيد على 30 بالمئة من الترسانة، وهي أرقام تبقى محل تشكيك لغياب أدلة مستقلة.
في المجمل، تُظهر الصورة العامة أن الكتلة الصاروخية الضخمة لحزب الله تعتمد في معظمها على صواريخ قصيرة وغير دقيقة، بينما يكمن التهديد النوعي الحقيقي في الترسانة الأصغر من الصواريخ الموجهة بدقة، وهي التي تشكل محور الاستهداف الإسرائيلي والقلق الدولي.
ما هي الخطة الأمريكية؟
قانونيًا: تتحرك الخطة الأمريكية الجديدة ضمن إطار القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن عام 2006، والذي يشكّل المرجعية الدولية لكل الترتيبات المتعلقة بجنوب لبنان. فالقرار ينص على وقف الأعمال العدائية، انسحاب القوات الإسرائيلية خلف الخط الأزرق، انتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني بالتوازي مع تعزيز قوات اليونيفيل، ومنع أي سلاح أو وجود مسلّح خارج سلطة الدولة.
وبحسب العرض الأمريكي الذي نقلته مصادر لبنانية ودولية، ترسم الورقة مراحل زمنية متدرجة تبدأ بتعهد حكومي خلال 15 يومًا بإتمام نزع السلاح قبل نهاية 2025، يليها وضع خطة انتشار للجيش وتحديد أهداف تفكيك، ثم انسحاب متدرج لـ”إسرائيل” من (النقاط الخمس) داخل جنوب لبنان، وصولًا إلى تفكيك الصواريخ والمسيّرات الثقيلة خلال 120 يومًا من بدء التنفيذ.
فيما تتواكب هذه الخطوات مع إطلاق تمويل لإزالة الأنقاض وإعادة التأهيل، إضافة إلى مؤتمر اقتصادي تشارك فيه الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقطر ودول أخرى.
دبلوماسيًا، يربط المبعوث الأمريكي توماس باراك، المكلّف بملف سوريا ولبنان، تقديم بيروت خطتها في 31 آب/أغسطس بخطوة مقابلة من تل أبيب لتقديم “إطار” انسحاب. ويؤكد أن المسار “إقناعي” لا “قسري”، وأن جزءًا حاسمًا منه يتصل بمعالجة الأثر الاقتصادي على مقاتلي الحزب عبر حزمة استثمارات جنوبية بدعم قطري سعودي.
يبرز الدور الأوروبي في هذه النقاشات بقوة، حيث نقلت رويترز عن دبلوماسيين غربيين أن فرنسا أبدت استعدادًا لإرسال بعثة تقنية تساعد الجيش اللبناني في عمليات التفتيش والمراقبة، فيما دار نقاش آخر حول إمكانية زيادة عديد قوات اليونيفيل ومنحها تفويضًا أوسع يسمح لها بالتحقق المباشر من عملية تفكيك الصواريخ.
بالتوازي، تضع واشنطن ثقلها في البعد الاقتصادي، حيث تعمل على تنظيم “مؤتمر لإعادة إعمار الجنوب” يكون مشروطًا بتقدم الخطة، مع تعهدات أولية من قطر والسعودية بتمويل مشاريع في البنى التحتية والكهرباء. بهدف تعويض المجتمعات المحلية عن أي فراغ مالي يخلّفه تراجع تمويل الحزب، وخلق بديل تنموي يغري بقبول الخطة.
في المقابل، يتمسّك “حزب الله” برفض أي تسليم للسلاح في ظل استمرار القصف والتوغل العسكري، ويشترط انسحابًا كاملًا واحترام وقف النار قبل الدخول في نقاش حول “استراتيجية دفاع وطني”. كما يصف القرار بأنه “خطيئة كبرى” وأنه “يخدم مصالح إسرائيل كليًا”.
عُقد التنفيذ وتحدياته
1. زاوية إقليمية دولية
يتجاوز أي حديث عن نزع سلاح “حزب الله” الساحة اللبنانية إلى قلب التوازنات الإقليمية. فالحزب يشكل الذراع الأقوى لإيران خارج حدودها، وبالتالي فإن أي تفكيك لترسانته يعني تقليص النفوذ الإيراني على حدود “إسرائيل”. ما يجعل طهران في موقع الرافض لأي تسوية تُفقدها ورقة الضغط الأساسية في المشرق.
تقارير دبلوماسية غربية أوضحت أن إيران تُتابع الخطة عن كثب، وتُعتبر عمليًا الطرف غير المعلن في المفاوضات. من الجانب الإسرائيلي، ترى القيادة العسكرية أن نزع سلاح الحزب هو الهدف الاستراتيجي الأول لمرحلة ما بعد الحرب، إذ إن بقاء عشرات آلاف الصواريخ في حوزته يُبقي “إسرائيل” عرضة لتهديد مستمر. لكن في المقابل، تعي تل أبيب أن الضغط الميداني وحده لن يكفي، وأن أي اتفاق يحتاج إلى غطاء دولي وتنازلات متبادلة.
ولهذا، تبرز الأمم المتحدة وقوات “اليونيفيل” كأداة أساسية للتحقق، مع نقاشات أوروبية حول زيادة عددها ومنحها تفويضًا أوسع للتفتيش والمراقبة. غير أن هذا الخيار يثير مخاوف من انزلاق القوة الدولية إلى مواجهة مباشرة مع الحزب، وهو ما تسعى باريس وواشنطن إلى تفاديه.
2. زاوية داخلية لبنانية
في الداخل، تبدو المعضلة أكثر تعقيدًا. فالحكومة اللبنانية منقسمة بحدة، إذ انسحب وزراء الثنائي الشيعي من جلسات بعبدا بداية الشهر الجاري، رفضًا لتبني الأهداف الأميركية، واعتبر الحزب القرار “خطيئة كبرى تخدم إسرائيل بالكامل”. أما الجيش اللبناني، المكلّف بوضع خطة الحصر، فيواجه تحديات تتعلق بضعف التمويل والتسليح، واعتماده الميداني على تنسيق دائم مع قوات اليونيفيل.
إلى جانب ذلك، تبرز الكلفة الاجتماعية والاقتصادية. فالحزب يُشكّل مشغّلًا أساسيًا في الجنوب والبقاع، ويؤمّن رواتب لعشرات آلاف المقاتلين والموظفين. أي أن تراجع في هذا الدور سيخلق فراغًا هائلًا، ما لم تُنجز وعود “المؤتمر الاقتصادي لإعمار الجنوب” الذي تروج له واشنطن ودول الخليج. مما يطرح تحدي جوهري حول ما إن كانت الدولة اللبنانية تستطيع أن تحل محل الحزب في تأمين الخدمات والأمن والوظائف.
تُظهر تفاصيل الخطة الأمريكية والتقديرات المختلفة لحجم ترسانة “حزب الله” أن الملف يتجاوز كونه قضية لبنانية داخلية، ليغدو ساحة اختبار لإرادات دولية وإقليمية متشابكة. فبينما تحاول واشنطن إعادة إحياء القرار 1701 لتحويله إلى خارطة طريق عملية، يواجه المسار عقبات داخلية من الانقسام السياسي وضعف مؤسسات الدولة، وإقليمية من ارتباط الحزب بإيران وموقعه في معادلة الردع مع “إسرائيل”. وفي ظل رفض الحزب المطلق لأي مساس بسلاحه، تبدو الخطة أقرب إلى ورقة ضغط تفاوضية منه إلى مسار قابل للتنفيذ في المدى القريب.