شجرة الزيتون في فلسطين تجسّد معنى الأرض والجذور، فهي مصدر رزق وذاكرة وهوية في آن واحد، وتغدو رمزًا للصمود حين يحرثها الفلاح الفلسطيني بيديه، ويصير حضورها شاهدًا على ارتباطه المتجذر بترابه، حتى غدت أيقونة انتماء يختصرها قول محمود درويش: “باقون ما بقي الزعتر والزيتون”.
لكن ماذا لو اقتلع الاحتلال الزيتون؟ أين يذهب الفلسطيني الذي يعتمد عليه كمصدر أساسي للعيش، في قرى معيشة أهلها تتوقف على هذه الأشجار؟ هنا تكمن السياسة الاستيطانية التي يدركها الاحتلال ومستوطنيه، فتركّزت اعتداءاتهم المتكررة على أشجار الزيتون والمزارعين كجزء من منهجية متعمدة تهدف إلى توسيع الاستيطان وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم. هذه الحملة لم تكن مجرد اعتداءات عشوائية، بل كانت جزءًا من استراتيجية مستمرة لفرض واقع جديد على الأرض.
ومن خلال هذا التقرير، نسلط الضوء على هذه المنهجية، ونفصل كيف تجسدت بشكل عملي في الحملة الأخيرة على قرية المغير شرق رام الله.
منهجية عمرها عقود
بدأت منهجية الاحتلال الإسرائيلي في اقتلاع أشجار الزيتون تتضح بشكل جلي منذ نكسة عام 1967، حينما استنفدت “إسرائيل” جميع مسوغاتها لاحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية، معتمدة على استراتيجية الاستيلاء على الجبال والمناطق الزراعية الواسعة، بهدف محاصرة الفلسطينيين داخل مدن وقرى خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، مما جعلهم في حالة من الاحتجاز الكامل، رهائن في أيدي الاحتلال.
في هذا الإطار، بدأت قوات الاحتلال تضييق الخناق على المزارعين الفلسطينيين ودفعهم بشكل منهجي للتخلي عن أراضيهم، فكان تركيز الاحتلال على اقتلاع أشجار الزيتون، التي تمثل أكبر نسبة من الأشجار في الضفة الغربية، خطوة استراتيجية لتفريغ الأرض من الفلسطينيين وفصلهم عن تاريخهم وجذورهم.
تشير الإحصائيات إلى أن الاحتلال اقتلع أكثر من 800 ألف شجرة زيتون منذ عام 1967، في إطار سياسة منهجية تهدف إلى ترسيخ الاستيطان وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
لا تمثل شجرة الزيتون للفلسطينيين مجرد مورد اقتصادي، بل هي رمز للانتماء والصمود. تنمو في التربة الفقيرة وتقاوم الجفاف، تمامًا كما يفعل أصحابها في وجه الاحتلال pic.twitter.com/qcaHIFshet
— نون بوست (@NoonPost) August 25, 2025
لم تقتصر تلك الممارسات على اقتلاع الأشجار فحسب، بل تحوّل موسم قطف الزيتون في الأراضي المحتلة إلى حالة من الرعب والتهديد المستمر للمزارعين الفلسطينيين، ففي كل موسم كان يرافقه هجمات مستوطنين مدعومين من جيش الاحتلال، إضافة إلى التوغلات العسكرية الإسرائيلية التي تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، وتفرض عليهم قيودًا على استخدام المياه وتدمير المحاصيل لتتحول الأرض الفلسطينية إلى ساحة حرب ضد مزارعي الزيتون.
وأكدت تقارير حقوقية، أبرزها تقرير “هيومن رايتس ووتش” لعام 2021، أن هذه الاعتداءات ليست أعمالًا عشوائية، بل هي جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى إفراغ الأرض من أهلها. وأوضح تقرير للأمم المتحدة أن قوات الاحتلال والمستوطنين دمروا في أيار/مايو 2022 نحو 650 شجرة زيتون، في إطار محاولاتهم للسيطرة على الأراضي الفلسطينية وإجبار المزارعين على مغادرتها.
الهجمات المنهجية ضد أشجار الزيتون زادت عامًا بعد عام، خاصة بعد السابع من أكتوبر، حيث أكد خبراء أمميون، أن موسم قطف الزيتون عام 2023 شهد أعلى مستوى من عنف المستوطنين الإسرائيليين واتّسم بتفاقم القيود المفروضة على الحركة، بما في ذلك الاعتداء على الفلسطينيين جسديًا، وإضرام النار في الممتلكات والمحاصيل وإتلافها، وسرقة الأغنام ومنع الوصول إلى الأراضي والمياه ومناطق الرعي، ما تسبب في تهجير عدد قياسي من الفلسطينيين بعد إجبارهم على مغادرة المنازل والأراضي.
اقتحموا القرية وهاجموا الفلسطينيين ثم أشعلوا النار في حقول الزيتون.. متطوعة في الضفة الغربية توثق هجوم المستوطنيين على قرية فلسطينية بحماية الجيش الإسرائيلي#الضفة_الغربية pic.twitter.com/FZiCfFxCgY
— نون بوست (@NoonPost) September 9, 2024
أما العام الماضي فوصف، بـ”الأخطر على الإطلاق”، فشهدت استخدام أساليب أشبه بالحرب تشمل حرق وقطع وسرقة وتسميم أشجار الزيتون، إذ تعرضت 46 قرية فلسطينية لاعتداءات شملت منع المزارعين من جني المحاصيل وتسببت بإتلاف نحو 600 شجرة.
لم يتوقف الأمر عند الضفة الغربية، بل امتد أيضًا إلى قطاع غزة الذي يعاني من إبادة جماعية متواصلة منذ عامين، حيث دمر الاحتلال أكثر من 75% من أشجار الزيتون في القطاع، ما يعادل حوالي 1.3 مليون شجرة.
حملة على زيتون المغير
قرية المغير كانت آخر ضحايا الحملة الإسرائيلية المستمرة على أشجار الزيتون، وتعد تجسيدًا عمليًا لكيفية توظيف الاحتلال لهذه الأشجار كأداة رئيسية لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ففي أواخر أغسطس/آب 2025، شهدت القرية حملة انتقامية غير مسبوقة، حيث فرض الجيش الإسرائيلي طوقًا أمنيًا وحظر تجول كاملًا على القرية، تخللته عمليات تجريف واسعة لحقول الزيتون بواسطة الجرافات العسكرية.
بحسب شهود العيان، انتشرت عدة جرافات عسكرية على تلال القرية، ترافقها آليات إسرائيلية، واقتلعت حوالي عشرة آلاف شجرة زيتون خلال ثلاثة أيام متواصلة. من بين هذه الأشجار، كان العديد منها قد بلغ عمره أكثر من 70 عامًا، مما جعل تدميرها يمثل خسارة عميقة للأهالي الذين يعتبرونها جزءًا من تاريخهم وإرثهم الزراعي العائلي.
وفي تعليقه على الحملة، أكد مرزوق أبو نعيم، نائب رئيس المجلس القروي، أن عمليات التجريف تجاوزت المساحة التي أعلن عنها الاحتلال باعتبارها “منطقة أمنية عازلة”، والتي قدرت بـ 296 دونمًا. وأضاف أن هذا الرقم لا يعكس حجم الدمار الفعلي الذي لحق بالأراضي، حيث أن المساحة التي تم تجريفها بالفعل تتجاوز ربع المساحة المعلن عنها.
كما أزال الاحتلال الغطاء النباتي المحيط بالطريق الاستيطاني المجاور للقرية، في خطوة اعتبرها رئيس الجمعية الزراعية، غسان أبو عليا، استهدافًا مباشرًا للأرض بهدف السيطرة عليها ودفع الأهالي إلى الرحيل.
وتدعم هذه الحقيقة الحملة الدعائية التحريضية التي رافقت اعتداءات المستوطنين، حيث نشر المستوطنون صورًا لشاحنات نقل وهم يروجون لاستعدادهم لنقل سكان المغير “مجانًا” إذا قرروا الرحيل. كما وثق الأهالي تهديدات مباشرة من ضباط المخابرات الإسرائيلية خلال اقتحام منازلهم، حيث أخبرهم بعض الضباط أن “المغير ستصبح مثل رفح”، في إشارة إلى تهجير الفلسطينيين.
وفي خطوة تكشف عن نوايا الاحتلال، بدأ المستوطنون في اليوم الثاني من الاقتحام والحصار بشق طريق استيطاني جديد على أراضي القرية. ويتوقع الأهالي أن يكون الهدف من هذا الطريق هو ربط القرية بالبؤر الاستيطانية في مستوطنة “عادي عاد”، وصولًا إلى شارع آلون الاستيطاني، وهو ما أكده أبو نعيم في تصريحاته.
“المغير”.. عقبة أمام الاستيطان
الحملة الانتقامية على قرية المغير ليست الأولى من نوعها، بل تعرضت القرية لاعتداءات شبه مستمرة، استهدفت أهاليها بشكل متكرر وأدت إلى سقوط شهداء في صفوفهم، آخرها كان قبل الحملة الأخيرة بأربعة أيام، حينما اقتحمت القوات الإسرائيلية القرية وأطلقت الرصاص الحي على الشاب أبو عليا، مما أسفر عن إصابته في ظهره قبل أن يتم الاعتداء عليه بالضرب.

يثير هذا الاستهداف تساؤلات حول دوافع الاحتلال وراء اعتداءاته المتكررة على القرية. وفي هذا السياق، يجيب أمين أبو عليا، رئيس المجلس القروي الذي اعتقلته قوات الاحتلال خلال حملتها الأخيرة، بأن موقع القرية الاستراتيجي وجغرافيتها هما ما يجعلها هدفًا دائمًا للاعتداءات. فالمغير تقع في منطقة حيوية كإحدى بوابات الضفة الشرقية، على حافة منطقة الأغوار، التي يسعى الاحتلال لضمها عمليًا عبر مخطط “آلون”، رغم إعلان وقف هذا المخطط رسميًا. إذ يواصل الاحتلال السلب البطيء للأراضي في المنطقة، وتبدو المغير ثغرة أمام هذا المخطط.
يتفق معه عبد الله أبو رحمة، مدير عام العمل الشعبي في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، مشيرًا إلى أن الاحتلال يعتمد في خطته للضم على السيطرة على منطقة شرق رام الله، المعروفة بشفا الغور، والتي يشير إليها الاحتلال بمصطلح “شرقي شارع آلون”. هذا الشارع الذي فصل ثلثي أراضي المغير عن باقي القرية، وأدى إلى تهجير معظم التجمعات البدوية في المنطقة الشرقية على مدار 22 شهرًا، بهدف إفراغ المنطقة من الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم. وقد بدأت سلسلة من الاعتداءات على القرية في الجهة الغربية للشارع.
وفيما يخص استخدام الاحتلال أساليب الحصار والاعتداءات المستمرة، بما في ذلك اقتلاع أشجار الزيتون، يوضح أبو رحمة أن السبب يكمن في صعوبة السيطرة على الأراضي بالإجراءات القانونية، حيث أن الأراضي مسجلة بأسماء أصحابها وبأوراق “طابو” رسمية. لذلك، يلجأ الاحتلال إلى أساليب القوة والعنف، من خلال العربدة والبلطجة، وتكرار مشاهد الإرهاب التي استخدمتها العصابات الصهيونية خلال احتلال فلسطين عام 1948، بهدف فرض أمر واقع جديد وإخضاع الفلسطينيين لسلطته.