ترجمة وتحرير: نون بوست
تبرّر إسرائيل المجازر الجماعية التي ترتكبها ضد سكان غزّة، والتجويع الذي تم تأكيده رسميًا كعملية مُدبرة، بسلسلة من الادعاءات الملفقة التي يمكن دحضها بسهولة، مثل قطع رؤوس الرضع، ووضع الأطفال في الأفران، وعمليات الاغتصاب الجماعي.
وليس من المفاجئ أن تستمر “إسرائيل” في الترويج لمثل هذه الأكاذيب الصادمة، بعد أن عملت – مثلما تفعل جميع أنظمة الإبادة الجماعية – على تفكيك البنية التحتية الأساسية للحياة في القطاع.
قطعت “إسرائيل” المساعدات الإنسانية التي تقدمها وكالة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ودمرت المستشفيات، وقتلت وسجنت وعذبت الطواقم الطبية.
زعم الاحتلال امتلاك وثائق تثبت أن الأمم المتحدة كانت واجهة لحماس، لكن هذه الوثائق لم تُقدَّم أبدًا. في الأثناء، تعرّضت جميع مستشفيات غزة البالغ عددها 36 لهجمات إسرائيلية، وكان المبرر الضمني أن هذه المستشفيات بُنيت فوق ما يُسمى “مراكز قيادة وسيطرة” لحماس، رغم أنه لم يتم العثور على أي من هذه المراكز.
وامتدادا لهذه الرواية، قامت إسرائيل باعتقال أبرز الأطباء الذين كانوا يعملون على مدار الساعة على علاج العدد المتزايد من الرجال والنساء والأطفال المصابين، بزعم أنهم “عناصر حماس” متنكرون.
وكما تفعل أي سلطة ترتكب إبادة جماعية، وخصوصًا تلك التي تسعى للحفاظ على صورة الدولة الديمقراطية التي تمتلك “أكثر الجيوش أخلاقية” في العالم، عملت “إسرائيل” باستمرار على التعتيم على فظائعها.
منعت الصحفيين الغربيين من دخول غزة، ثم استهدفت الصحفيين الفلسطينيين في القطاع واحدًا تلو الآخر، حيث قُتل أكثر من 200 منهم، بينهم 11 في الأسابيع القليلة الماضية. من بين القتلى مراسلون في موقع ميدل إيست آي وقناة الجزيرة. واضطر آخرون للفرار بحثًا عن الأمان في الخارج.
في المقابل، اكتفت الصحافة الغربية، التي أبدت بالكاد أي اعتراض على استبعادها طوال 22 شهرًا من الإبادة الجماعية، بتجاهل استهداف زملائهم في غزة، وكأن شيئًا لم يحدث.
استمر الصمت الغربي حتى الشهر الجاري، عندما احتفلت إسرائيل باغتيال ستة صحفيين فلسطينيين في غارة جوية، بينهم فريق مكون من خمسة أشخاص كان يغطي أحداث غزة لصالح قناة الجزيرة.
تم اختيار توقيت الضربة بعناية. استدعت “إسرائيل” 60,000 جندي لشن هجوم أخير على ما تبقى من مدينة غزة، حيث يوجد حوالي مليون فلسطيني، نصفهم من الأطفال، ويتعرضون للتجويع حتى الموت.
سيُقتل هؤلاء المدنيون أو يتم جمعهم في معسكر اعتقال تسميه إسرائيل “مدينة إنسانية”، قرب الحدود مع مصر، حيث سينتظرون ترحيلهم بشكل نهائي، ربما إلى جنوب السودان، وهي دولة غارقة في الفوضى زوّدتها إسرائيل بالأسلحة التي أشعلت الحرب الأهلية والعنف هناك.
حملة تشويه
بررت “إسرائيل” قتل طاقم الجزيرة بادعاء أن أنس الشريف، وهو مراسل حائز على جائزة بوليتزر، كان “إرهابيًا من حماس”، وهو ادعاء يوازي السخافة نفسها التي استُخدمت لتبرير استهداف طواقم الإغاثة وقتل وسجن مئات الطواقم الطبية.
تزعم “إسرائيل” أن أطباء غزة الذين يتعاملون يوميًا، منذ ما يقرب من عامين، مع عدد من القتلى والجرحى يفوق ما يُرى عادة خلال الكوارث الطبيعية الكبرى، وفي ظروف الحرمان من الأدوية والمعدات الأساسية، لديهم الوقت الكافي للتواطؤ مع مقاتلي حماس. هذا ما تريد “إسرائيل” منا أن نصدقه.
وتزعم أيضا أن أنس الشريف وجد وقتًا بين فترات الراحة أثناء عمله الصحفي المتواصل منذ 22 شهرًا، الكثير منه أمام الكاميرا، ليعمل قائدا في حماس “يوجه هجمات صاروخية على المدنيين الإسرائيليين”.
يُفترض أنه يمتلك قدرات خارقة، تمكّنه من البقاء بلا نوم لمدة عامين، وأن يكون في مكانين مختلفين في الوقت ذاته.
نعرف الآن بالضبط من أين جاءت هذه القصص السخيفة: من شيء تسميه إسرائيل “خلية إضفاء الشرعية”. اسم وحدة الاستخبارات، الذي لم يكن من المفترض أن يظهر للعلن، يكشف الهدف: كانت مهمتها إضفاء الشرعية على فظائع إسرائيل من خلال تشويه سمعة ضحاياها، وجعلالإبادة الجماعية أكثر قبولًا لدى الرأي العام الإسرائيلي والغربي.
كشف الموقع الإخباري الإسرائيلي +972 عن الخلية بعد أيام من مقتل أنس الشريف هذا الشهر، مشيرًا إلى أنها تشكلت بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اليوم الذي خرجت فيه حماس وفصائل أخرى من سجن غزة لتنشر الدمار، بعد 17 عامًا من الحصار الوحشي.
الهدف المحوري لوحدة إضفاء الشرعية كان مساعدة إسرائيل على ترويج أخبار في وسائل الإعلام الغربية تصور مستشفيات غزة كمراكز للإرهاب، وصحفييها كـ”عملاء سريين لحماس”.
أدلة ملفقة
استنادًا إلى ثلاثة مصادر استخباراتية إسرائيلية، أفادت +972 أن دافع “إسرائيل” لإنشاء خلية إضفاء الشرعية لم يكن أمنيًا، بل مدفوعًا بالكامل باحتياجات الدعاية، أو ما يُعرف في إسرائيل بـ”الهاسبارا”.
وذكرت التقارير أن الخلية كانت تبحث عن أي رابط بين الصحفيين في غزة وحماس، لزرع الشك في أذهان الجماهير الغربية، وتبرير قتل الطواقم الصحفية في القطاع ومنعهم من كشف الفظائع الإسرائيلية.
وتماشياً مع تحذيرات منتقدي إسرائيل منذ فترة طويلة، قال المسؤولون الاستخباراتيون لموقع +972 إن عمل الخلية كان يُعتبر “ضروريًا لتمكين إسرائيل من إطالة أمد الحرب”، بهدف وقف تصاعد المعارضة الشعبية في الغرب للإبادة الجماعية، إلى الحد الذي قد يضطر العواصم الغربية – التي ترعى تل أبيب – إلى وقف آلة القتل الإسرائيلية.
وأضاف مصدر آخر: “الفكرة كانت [السماح للجيش الإسرائيلي] بالعمل دون ضغوط، حتى لا تتوقف دول مثل أمريكا عن تزويده الأسلحة”.
ووفقًا لهذه المصادر، كان المسؤولون الإسرائيليون حريصين جدًا على إيصال رسائلهم التي تخدم الإبادة الجماعية إلى الجماهير الغربية لدرجة أنهم “تجاوزوا الحدود”، وهي عبارة مهذبة على ما يبدو للإشارة إلى أنهم ببساطة قاموا بتلفيق الأدلة.
بعد مقتل مراسل الجزيرة إسماعيل الغول ومصور الكاميرا الذي يعمل معه، في يوليو/ تموز 2024، استندت إسرائيل إلى وثيقة من عام 2021 زُعم أنها وُجدت على أحد “حواسيب حماس”، لتزعم أنه كان “مقاتلا في الجناح العسكري”، وأنه شارك في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على “إسرائيل”.
تنص الوثيقة المزعومة على أن الغول حصل على رتبته العسكرية عام 2007، عندما كان عمره 10 سنوات.
في حالة الشريف، تم اتهامه قبل فترة من اغتياله. في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، زعمت إسرائيل أنه وخمسة صحفيين آخرين من قناة الجزيرة ينتمون سرًا إلى الأجنحة العسكرية لحماس أو الجهاد الإسلامي. وفي مارس/ آذار الماضي، تم اغتيال أحدهم، وهو حسام شبات.
خدعة “الأخبار الكاذبة”
لم يكن مراسلو الجزيرة في غزة وحدهم من يتعرض للتشهير. ادعت “إسرائيل” المولعة بالأكاذيب الفجة، أن القناة التي يقع مقرها في الدوحة تتلقى توجيهات تحريرية من حماس.
بعد أشهر من بدء الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”، صاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رواية لا تستند إلى أي أدلة تفيد بأن قناة الجزيرة “قناة إرهابية” وأنها “شاركت بنشاط في مذبحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”.
وقد وفّر هذا الادعاء ذريعة لإسرائيل لحظر قناة الجزيرة العام الماضي، وإغلاق مكاتبها في القدس الشرقية المحتلة بشكل غير قانوني، ثم في الضفة الغربية منذ سبتمبر/ أيلول.
كان هناك تشابه واضح مع استراتيجية “إسرائيل” ضد الأونروا، حيث استُخدمت الأكاذيب الفجة كسلاح لطردها من غزة، وبقي الشعب الفلسطيني هناك فريسة للجنود الإسرائيليين ومجموعة من المرتزقة المدعومين من “إسرائيل” والولايات المتحدة، تحمل الاسم المضلل “مؤسسة غزة الإنسانية“.
تقوم خطة مؤسسة غزة الإنسانية على ترويع السكان بالقرب مما يُسمى “مراكز المساعدة” بإطلاق النار على طالبي المساعدات. سمح ذلك لحملة التجويع الإسرائيلية – التي يُلاحَق بسببها نتنياهو من المحكمة الجنائية الدولية – بالاستمرار تحت غطاء المبادرة الإنسانية المزعومة.
منذ يوليو/ تموز، حذرت لجنة حماية الصحفيين من أن حياة الشريف في خطر وشيك، وأنه يتعرض لـ”حملة تشويه عسكرية إسرائيلية، يُعتقد أنها تمهيد لاغتياله”.
سلط المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي الضوء على المخاوف الإسرائيلية الشهر الماضي، حيث اتهم تقارير الشريف من مدينة غزة بتشويه صورة “إسرائيل” من خلال الترويج لـ”حملة حماس الكاذبة بشأن التجويع”.
جادل أدرعي بأن الشريف جزء من “الآلة العسكرية لحماس” لأنه يعد تقارير عن المجاعة المتصاعدة التي حذرت منها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمات حقوق الإنسان الكبرى منذ أشهر، والتي أعلن تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل الأسبوع الماضي أنها وصلت إلى أعلى مستوياتها.
بنفس الطريقة التي دبرت بها إسرائيل مجاعة غزة من خلال تشويه سمعة وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة واستبعادها، تمنع الآن التغطية الصحفية للمجاعة عن طريق تشويه سمعة الصحفيين الفلسطينيين واغتيالهم.
يوم الاثنين، قصفت إسرائيل مستشفى ناصر في خان يونس، مما أسفر عن مقتل 21 شخصًا، بينهم خمسة صحفيين يعملون مع موقع ميدل إيست آي ووكالتي رويترز وأسوشيتد برس، إلى جانب مؤسسات إعلامية أخرى.
وتخدم الادعاءات الكاذبة حول العلاقة مع حماس الهدف نفسه في الحالتين. فإذا أمكن إقناع الجماهير الغربية بأن الصحفيين الفلسطينيين يعدّون تقاريرهم تحت توجيهات حماس، يمكن عندها اعتبار التغطية الإعلامية للفظائع الإسرائيلية “أخبارًا زائفة”، وبالتالي إطالة أمد الإبادة الجماعية، حتى مع امتلاء شاشاتنا بصور الأطفال الذي يحتضرون بسبب المجاعة.
مسألة “التناسب”
عند اغتيال الشريف، زعمت إسرائيل أن لديها دليلًا على أنه كان “إرهابيًا نشطًا في حماس” و”رئيس خلية في كتيبة الصواريخ”. لكن حتى الوثائق التي نشرتها – والتي لم تكن متاحة للتحقق بشكل مستقل – أظهرت أنه تم تجنيده عام 2013 وغادر الحركة في 2017.
حتى لو قُبلت هذه الادعاءات، وهو أمر سخيف بالنظر إلى سجل إسرائيل الطويل في الكذب والتلفيق، فإنها تشير إلى أن الشريف بعيد عن حماس في آخر ثماني سنوات قبل أن تستهدفه إسرائيل.
بعبارة أخرى، حتى وفقًا لـ”الأدلة” الواهية التي قدمتها خلية إضفاء الشرعية، كان الشريف مدنيا عندما قُتل هو وخمسة صحفيين آخرين. وبالتالي، كان الهجوم على خيمة الصحفيين جريمة حرب مروعة.
وفي حين أن الكذب الإسرائيلي متوقع تمامًا، ضمن جهود الدعاية الإسرائيلية لتبرير حرب الإبادة، فإن الأمر المدهش هو استمرار تواطؤ الإعلام الغربي في الترويج للأكاذيب الإسرائيلية.
نشرت بيلد، الصحيفة الأشهر في ألمانيا، على صفحتها الأولى عنوانًا، بدا كأنه مكتوب بيد الجيش الإسرائيلي: “مقتل إرهابي متخفٍ كصحفي في غزة”، دون أي إشارة إلى أن هذا الأمر هو ما تدعيه إسرائيل. تم تسويق الخبر كأنه حقيقة لا تقبل الجدل.
لم يكن حال الإعلام البريطاني أفضل بكثير، حيث أبرزت معظم وسائل الإعلام الاتهامات الإسرائيلية غير المثبتة ضد الشريف في عناوينهاوتغطياتها.
ومن المثير للدهشة أن “بي بي سي” روجت في برنامجها الشهير “أخبار العاشرة” للرواية الإسرائيلية التي تزعم أن الشريف هدف مشروع، فضلًا عن الترويج – دون تمحيص – لفكرة أن “إسرائيل” كانت تستهدفه وحده.
وقد طرحت شبكة بي بي سي هذا السؤال الفج والمتحيز بشدة: “هناك مسألة التناسب. هل من المبرر قتل خمسة صحفيين عندما كنت تستهدف واحدًا فقط؟”.
يفترض “التناسب” ضمنيًا أن لإسرائيل الحق في الرد بالقوة القاتلة على العامل المحرض – الروابط المفترضة بين الشريف حماس – ويسأل فقط ما إذا كان هذا العامل يبرر حجم الرد القاتل.
لم يكن بإمكان إسرائيل أن تأمل في أكثر من ذلك. تماشيا مع جهود خلية إضفاء الشرعية، فقد تم تحويل تركيز بي بي سي من التنديد بجريمة حرب إسرائيلية ضد الصحفيين، نحو نقاش حول ما إذا كانت الضربة مدروسة أو حكيمة.
انقلاب الأدوار
يوضح بيرس مورغان، الذي أصبح برنامجه الشهير على الإنترنت “غير خاضع للرقابة” أحد المنصات الرئيسية للنقاش بين مؤيدي إسرائيل ومنتقديها، مدى السهولة التي يُسمح بها لإسرائيل بتشكيل الرواية السائدة.
ويوضح مورغان بشكل مثالي الطريقة التي يقبل بها الصحفيون الغربيون طواعية الافتراضات العنصرية حول الصحفيين غير الغربيين، حتى عندما يبدو أن الحقيقة مغايرة لتلك الافتراضات.
بعد وقت قصير من مقتل الشريف، دعا مورغان جمال الشيال، مدير منصة الجزيرة 360، لمواجهة جوتام كونفينو، الصحفي الذي عمل سابقًا في قناة آي 24 نيوز الإسرائيلية، والتي لعبت دورا محوريا في الترويج لكذبة “الأطفال مقطوعي الرؤوس”، ويكتب الآن في صحف يمينية مؤيدة بشدة لإسرائيل مثل التلغراف ونيويورك صن.
كان دور كونفينو في النقاش تعزيز الرواية الإسرائيلية المتعلقة بالشكوك حول أن الشريف كان إرهابيًا من حماس. ورد الشيال بسرد سجل إسرائيل الطويل في اغتيال الصحفيين الذين يحرجونها، خاصة الفلسطينيين، مشيرًا إلى الاغتيال الشهير للصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة عام 2022، والكشف لاحقًا عن الأكاذيب المتسلسلة التي حاولت إخفاء دور “إسرائيل” في مقتلها.
كما سلّط الضوء أيضًا على المخاطر المترتبة على التواطؤ في حملات التضليل، مثل تلك التي استهدفت الشريف، والقائمة على فرضية أن اغتيال الصحفيين الذين يحملون آراء سياسية مناوئة للمنفذين أمر مبرر.
وكما كان متوقعا، مرّ مورغان على هذه الحجة مرور الكرام.
في غياب أي دليل على أن الشريف كان قائد خلية في حماس، حوّل كونفينو النقاش إلى ادعاءات بأن صحفي الجزيرة ربما كان متعاطفًا مع حماس.
لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل وجّه انتقاداته نحو الشيال، مجادلاً أنه ليس في موقع يسمح له بالدفاع عن الشريف، لأنه أعرب عن آراء مناهضة لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبشكل مدهش، انضم مورغان إلى كونفينو في استجواب الشيال حول آرائه السياسية، مطالبًا إياه بإدانة حماس بسبب هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ومن اللافت أنه لم يطلب من كونفينو إدانة إسرائيل على ارتكاب مجازرها الأشد فظاعة.
كان الافتراض الضمني في هذا الحوار المزعج والعنصري أن الصحفيين العرب يجب أن يثبتوا مصداقيتهم الأيديولوجية للصحفيين الغربيين قبل أن تُحترم آراؤهم، وحقهم في الحياة.
لم يكن الشيال هناك للدفاع عن الشريف فحسب، بل عن حق الصحفيين في نقل الوقائع بحرية دون تهديد بالاغتيال، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية. وبدلاً من ذلك، وجد نفسه مضطرًا للدفاع عن حقه في المشاركة في النقاش، بناءً على مواقفه السياسية الخاصة.
برنامج يستضيفه صحفي بريطاني بارز، كان ينبغي أن يدين بوضوح جريمة الحرب الإسرائيلية المتمثلة في القتل الممنهج للصحفيين في غزة، انحرف بسرعة إلى حملة ضد الصحفيين المنتقدين لإسرائيل.
حياة الصحفيين بلا قيمة
السياق الغائب عن التغطية الغربية هو التالي: إسرائيل قتلت أكثر من 240 صحفيًا فلسطينيًا في غزة خلال العامين الماضيين، وهو رقم يفوق مجموع الصحفيين الذين قُتلوا في الحربين العالميتين والحرب الكورية وحرب فيتنام والحروب في يوغوسلافيا السابقة وحرب أفغانستان مجتمعة.
هذا نمط واضح، لكن يبدو أن الصحفيين الغربيين يتجاهلونه تماما، حتى مع استمرار إسرائيل في منعهم من تغطية الحرب في غزة، بعد ما يقرب من عامين من الإبادة الجماعية.
إيرين خان، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحرية الرأي والتعبير، لاحظت مؤخرًا أن إسرائيل “تدير برنامج اغتيال مخططًا بعناية لاستبعاد أي تقارير مستقلة عن غزة”.
إن ترويج الإعلام الغربي لأكاذيب إسرائيل الصارخة لا يعد إخلالا بأسس أخلاقيات الصحافة فحسب، بل يضع أيضًا جميع الصحفيين الذين لا يزالون يغطون الأحداث في غزة تحت تهديد مباشر. يبعث ذلك برسالة إلى “إسرائيل” مفادها أن حياة صحفيي غزة بلا قيمة، وأنه يمكن قبول أي مبررات لقتلهم مهما كانت واهية.
الأكثر غرابة، هو أن الصحفيين الغربيين يكرسون بذلك سابقة خطيرة قد تهدد حياتهم مستقبلا، سواء من الدول المارقة أو خلال تغطية الحروب في المستقبل.
نمط الأكاذيب
تنجح روايات “إضفاء الشرعية” الإسرائيلية فقط بسبب تقبل الصحفيين الغربيين لهذه الحملات التضليلية، وتهيئة الرأي العام لقبولها. هي ناجحة بسبب العنصرية المتجذرة التي زرعها الغرب جيلًا بعد جيل في دوائر السياسة والإعلام.
أنشأت إسرائيل خلية إضفاء الشرعية لأنها تعرف مدى سهولة استغلال المخاوف الغربية. تقدم قضيتها من خلال متحدثين غربيين، بلغات الرأي العام الغربي، مستغلين المخاوف الاستعمارية القديمة من “البرابرة” والتهديدات المتربصة بـ”الحضارة الغربية”.
ومع استمرار المجازر التي ترتكبها إسرائيل شهرًا بعد شهر، أصبح من الصعب بشكل متزايد على الجماهير الغربية تصديق هذه الروايات. كلما استمر القصف المكثف على غزة وتجويع سكانها بشكل جماعي، أصبح من الأصعب إخفاء الأكاذيب الإسرائيلية، مع ظهور صورة أكبر تشير إلى أن هذه ليست حربًا “للدفاع عن النفس”، بل حرب إبادة جماعية.
الصور الصادمة للأطفال الذين تحولوا إلى هياكل عظمية، بعد أشهر من اعتراف “إسرائيل” علنًا بأنها تجوّع سكان غزة، تروي القصة كاملة، ولا تحتاج إلى تأكيد رسمي من اللجنة الدولية لتصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل.
في الأسبوع الماضي، كشف موقع +972 أن أرقام الجيش الإسرائيلي تُظهر – خلافًا للادعاءات الإسرائيلية بأن أغلب القتلى هم عناصر حماس – أن أكثر من أربعة من كل خمسة قتلى مدنيون.
من الواضح أن ذلك متعمد. في تسجيل صوتي مسرّب مؤخرًا إلى القناة 12 الإسرائيلية، يمكن سماع اللواء أهارون هاليفا، الذي قاد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في الأشهر الستة الأولى للرد على هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يقول إن قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين “ضروري للأجيال القادمة”.
ويضيف: “مقابل كل شخص [قُتل] في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يجب أن يموت 50 فلسطينيًا. لا يهم الآن إذا كانوا أطفالًا”.
بعبارة أخرى، كان هدف الجيش الإسرائيلي منذ البداية القتل الجماعي العشوائي لإجبار الفلسطينيين على الاستسلام الدائم وقبول العبودية إلى أجل غير مسمى.
مع استمرار الرأي العام العالمي في مشاهدة صور الدمار الشامل في غزة، وتدمير مستشفيات القطاع، والمجاعة التي هندستها إسرائيل، لا يمكنه إلا أن يتساءل كيف لم يرتفع عدد القتلى بشكل ملحوظ خلال العام الماضي.
ادعاء “إسرائيل” بأن عدد القتلى البالغ 62,000، هو رقم مبالغ فيه من وزارة الصحة التي تسيطر عليها حماس، يبدو سخيفًا. دمرت “إسرائيل” مكاتب الحكومة في غزة، مما جعلها عاجزة إلى حد كبير عن إحصاء القتلى.
بدأ معظم الجمهور يعتقد تماشيًا مع الخبراء بأن العدد الحقيقي للقتلى قد يكون بمئات الآلاف.
كل تلك الحقائق كانت ستتضح في وقت أقصر لو استمعنا إلى الصحفيين الفلسطينيين، بدل ألاعيب ومناورات بي بي سي وبيرس مورغان.
هم وبقية الصحافة الغربية كانوا جزءًا لا يتجزأ من “إضفاء الشرعية” على الإبادة التي ترتكبها “إسرائيل”. لقد أثبت الصحفيون الغربيون أنهم لا يتمتعون بالمصداقية لنقل حقيقة ما يحدث في غزة.
لكن الإبادة الجماعية تقدم درسًا أوسع حول ما يُعتبر خبرًا، على الصعيدين المحلي والعالمي، وحول من يُسمح له بتشكيل الأخبار، ولماذا. التعتيم على الإبادة في غزة – وعلى التواطؤ الغربي فيها – يقدم صورة واضحة وعالية الدقة للأجندات العنصرية والاستعمارية التي تهيمن على ما نسميه أخبارا.
هل نحن مستعدون لتعلم هذا الدرس؟
المصدر: ميدل إيست آي