رغم مرور أكثر من 14 عامًا على سقوط نظام معمر القذافي، ما تزال ليبيا عالقة في دائرة الانقسام السياسي والعسكري بين سلطتين وجيشين متنازعين، أحدهما في الغرب بقيادة عبد الحميد الدبيبة، والآخر في الشرق حيث يفرض المشير المتقاعد خليفة حفتر نفوذه عبر قواته وشبكة ولاءات قبلية وإقليمية.
وفي قلب هذه الفوضى، فاجأ الجنرال الليبي الجميع بخطوة إضافية على سلّم “التوريث” داخل معسكر الشرق، حين دفع باثنين من أبنائه إلى موقعين مفصليين في هرم قواته، في إشارة لا تخلو من دلالة إلى ترتيبات الخلافة ما بعده، وطبيعة الصراع على السلطة ومستقبلها شرق ليبيا.
بدت هذه الخطوة أقرب إلى محاولة لتأصيل نفوذ عائلي منظم، وأعادت إلى الأذهان نموذج القذافي مع أبنائه، لتثير تساؤلات ملحَّة حول دوافع حفتر لترسيخ نفوذ أبنائه ، وما إذا كان سينجح مشروع “التوريث”، أم يتبدد تحت ضغوط الانقسامات الداخلية وخارطة الطريق الأممية التي تَعِد بانتخابات رئاسية وتشريعية طال انتظارها؟
تكليفات بالوراثة
في فبراير/ شباط الماضي، رافق صدام وخالد والدهما خليفة حفتر في زيارة إلى بيلاروسيا، في أول ظهور علني مشترك لهما معه خارج البلاد. ومنذ ذلك الحين، تكررت إطلالاتهما إلى أن تُوجت مؤخرًا بتعيينهما في مناصب حسّاسة بقيادة الجيش، تحت مظلة ما سُمّي بـ”رؤية 2030 لتطوير الجيش الليبي”.
في 12 أغسطس/ آب الجاري، وبمناسبة الذكرى الـ85 لتأسيس الجيش، أصدر حفتر قرارًا بترقية نجله صدام إلى فريق أول وتعيينه نائبًا للقائد العام بعد قيادته القوات البرية منذ مايو/ أيار 2024، في خطوة فُسّرت على أنها تمهيد لمرحلة ما بعد حفتر، ومحاولة لتكريس حكم عائلي يناقض مشروع الدولة المدنية.
القرار أثار جدلاً حول قانونيته لكون المنصب مستحدثًا، ما دفع برلمان طبرق إلى تعديل القانون رقم 1 لعام 2015 المتعلق بصلاحيات المستويات القيادية بالجيش، لإضفاء شرعية على المنصب الجديد، في دلالة على انسجام المؤسسة التشريعية مع مسار حفتر.
بعد أيام قليلة، وسَّع حفتر دائرة التوريث بتعيين نجله الآخر خالد رئيسًا لهيئة الأركان العامة بعد ترقيته لرتبة فريق أول ركن، مع نقل الفريق عبد الرزاق الناظوري إلى منصب استشاري فخري، في خطوة بدت كإعادة هيكلة تستهدف تثبيت نفوذ العائلة داخل المؤسسة العسكرية.
عمليًا، باتت القيادة العليا في يد حفتر ونجليه، بعد أن منح برلمان طبرق غطاءً سياسيًا لهذه الترتيبات. ويأتي ذلك في سياق مسار صاعد لصدام، الذي باشر – ومنذ أدائه اليمين – ملفّات خارجية حسّاسة، بينها استقبال وفود عسكرية تركية لبحث التعاون البحري والعسكري، رغم تناقضات أنقرة وبنغازي في ملفات سابقة، في إشارة لإثبات قدرته على تبريد خطوط التماس الإقليمي وفتح قنوات براغماتية.
ولم يكن صعود أبناء حفتر مفاجئًا، إذ برز صدَّام منذ تأسيسه “الكتيبة 106” ثم قيادته “لواء طارق بن زياد” السيء السمعة، وارتبط اسمه بالاستيلاء على أموال من خزائن البنك المركزي، والسيطرة على هيئة الاستثمار العسكري المعفاة من الضرائب، ما عزز نفوذه الاقتصادي إلى جانب قوته الميدانية.
خارجيًا، لعب دور “المبعوث غير الرسمي” لوالده، ففتح قنوات مع قوى إقليمية ودولية، وأدار ملفات حساسة في الجنوب والوسط حيث تتقاطع شبكات التهريب، ما مكَّنه من نسج شبكة تجارة غير مشروعة تمتد إلى المخدرات والذهب والنفط والمهاجرين لأوروبا، وشملت علاقاته أطرافًا مثل النظام السوري السابق وقوات الدعم السريع في السودان ومرتزقة “فاغنر” الروسية.
بعد فيضانات درنة 2023، تولى صدام رئاسة لجنة الاستجابة للكوارث، فيما عُهد لأحد إخوته برئاسة صندوق إعادة الإعمار، ما جعلهما واجهة للتعامل مع العالم في إدارة المساعدات، فيما يُعتقد أن صدَّام غيَّر اسمه لإخفائه أصوله وممتلكاته في أمريكا بعدما رُفعت قضايا هناك تتهم العائلة بارتكاب جرائم حرب.
أمَّا خالد، أصغر مَنْ تولى رئاسة الأركان في تاريخ ليبيا، فقد قاد لواء “حمزة بن عبدالمطلب”، ثم رُقي لرتبة فريق، ورافق والده في زيارات خارجية، وافتتح القنصلية الليبية في بيلاروسيا، لكن منصبه العسكري لديه بُعد آخر ضمن استراتيجية والده، وتتركز على بسط الأمن لفتح المجال أمام الاستثمار.
مع الإعلان عن التعيينات الأخيرة، تصاعد الجدل السياسي في ليبيا؛ إذ وجّه المجلس الأعلى للدولة بطرابلس خطابًا إلى بعثة الأمم المتحدة يرفض “الإجراءات الأحادية”، ويصفها بأنها “خرق للاتفاق السياسي”، معلنًا رفضه تعيين خالد حفتر رئيسًا للأركان.
كما دفعت خطوة توريث المناصب عضو المجلس الرئاسي عبدالله اللافي للدعوة لاجتماع عاجل، بوصف المجلس “القائد الأعلى” للجيش وفق اتفاق الصخيرات لعام 2015، وهو ما عكس قراءة الغرب الليبي للخطوة باعتبارها محاولة لفرض أمر واقع عسكري.
وربط البعض بين خطوة التعيينات الأخيرة لحفتر مع أحدث استطلاع للرأي أجرته بعثة الأمم المتحدة بمشاركة 26 ألف ليبي، وأظهر أن 42% يفضلون انتخابات رئاسية وتشريعية عاجلة لإنهاء الانقسام وتأسيس مؤسسات شرعية في البلاد.
دوافع ترسيخ نفوذ العائلة
لا يمكن قراءة التعيينات الأخيرة بمعزل عن السياق الليبي العام ولا عن الحسابات الشخصية لرجل تخطّى الثمانين، فهي تجمع بين بُعدين متداخلين: الاستجابة لتوازنات وضغوط داخلية معقّدة، والسعي لهندسة انتقال للسلطة على أساس عائلي مؤسسي.
يدرك حفتر أن نفوذه لا يقوم فقط على القوة العسكرية، بل على شبكة ولاءات قبلية ومناطقية وواجهات اقتصادية نشأت خلال الحرب وتحتاج إلى إعادة تثبيت. ويهدف منح أبنائه مواقع حساسة إلى ضمان ولاء القبائل، وطمأنة ضباط الصف الأول بأن القرار سيبقى محكومًا بعلاقة دم، لا خاضعًا لمعادلات تحالفات متغيرة.
كذلك يُسوّق حفتر تعيين أبنائه كضمانة للاستقرار بعده، ويُقدّمهم تدريجيًا كأقطاب فاعلة داخل شبكة النفوذ: صدَّام كقناة للقرار المالي والأمني، وخالد بسطوة ميدانية على الوحدات الأكثر تدريبًا وتسليحًا، وبهذا يصبح “التوريث العسكري” وسيلة لتقليل احتمالات الانشقاق أو صراع الخلافة بعد رحيل الأب.
لكن المشروع محفوف بمخاطر داخليةـ فصدَّام يواجه رفضًا من بعض قادة الجيش بمعسكر والده، وخصومات مع بعض القبائل التي تميل لسيف الإسلام القذافي، كما يتصارع مع إخوته لتقاسم تركة النفوذ في شرق ليبيا، وتربطه علاقة متوترة برئيس برلمان الشرق بعقيلة صالح الذي حاول عزله لولا تدخل القاهرة، وإلى جانب ذلك، يثير تسريع تمكينه على حساب إخوته الأكبر سنًا خشية من صراع عائلي داخلي.
خارجيًا، حملت التعيينات رسالة متعدّدة العناوين لطمأنة داعمي الشرق الإقليميين (مصر والإمارات وغيرهما من داعمي الشرق) بأن انتقال القيادة سيكون منضبطًا، ولن يترك فراغًا أمنيًا عند غياب الأب قد تستفيد منه قوى منافسة أو جماعات مسلحة.
تبدو مصر – التي زارها صدَّام مؤخرًا، والتقى قياداتها العسكرية – الأكثر حرصًا على بقاء الشرق الليبي تحت قيادة موحَّدة، وهو ما برز في حفاوة استقباله في القاهرة، وتلقيه تهنئة عسكرية رسمية على منصبه الجديد، في انعكاس لاعتبارات أمنية مرتبطة بالحدود، ومصالح اقتصادية تشمل إعمار درنة والتعاون الحدودي.
أمَّا الإمارات، التي ترى في حفتر أداة رئيسية لمواجهة الإسلام السياسي، فتنظر إلى صعود صدّام كضمانة لاستمرار النهج نفسه، خاصة أن اسمه ارتبط منذ حرب طرابلس (2019–2020) بكونه الذراع الفعّالة لأبوظبي في الشرق، وقاد بدعمها محارولات للتقارب مع حكومة الدبيبة.
حتى “إسرائيل”، التي زارها صدام سرًا في 2021 في خطوة مثيرة للجدل، قد ترى في هذا الترتيب فرصة لفتح قنوات اتصال استراتيجية مع قيادة مستقبلية في ليبيا، بعيدًا عن تقلبات الصراع الداخلي، لكن هذا المسار يعكس توجهًا براغماتيًا في التواصل مع طيف واسع من الفاعلين سعيًا إلى شرعية دولية أو ترتيبات أمنية سياسية.
وفي خلفية هذه التحركات يلوح الدافع الصحي والسياسي، فحفتر يعاني وضعًا صحيًا هشًا، ويدرك أن لحظة الخروج تقترب مع تعقّد المشهد الإقليمي والدولي (أزمات السودان وتشاد والصراع الروسي الغربي على النفوذ في ليبيا)، ما يجعل تقويض طموحه السياسي وتفويض بعض صلاحياته لأبنائه ضرورة لبقاء الإرث السياسي والعسكري ضمن دائرة مغلقة قبل وقوع المفاجآت.
إذًا، ما يقوم به حفتر ليس مجرد إعادة تدوير للمناصب أو استجابة لضغوط ظرفية، بل محاولة لهندسة انتقال محسوب للسلطة العسكرية في الشرق الليبي، غير أن هذه المحاولة، رغم ما تمنحه من انضباط ظاهري، تكشف هشاشة البنية السياسية والعسكرية، وتعيد التساؤل: هل تستطيع ليبيا تجاوز منطق التوريث العائلي أم تعيد إنتاجه؟
إعادة إنتاج نموذج عائلة القذافي
تستحضر خطوة حفتر في الدفع بأبنائه إلى صدارة المشهد العسكري والسياسي إلى الأذهان تجربة معمر القذافي في بناء سلطة عائلية طاغية، غير أن اختلاف السياقات يجعل المقارنة ضرورية لفهم ما إذا كان الشرق الليبي يتجه نحو “نسخة مبتورة” من حكم العائلة أم مجرد ترتيبات انتقالية محدودة.
على غرار القذافي، الذي عمد إلى توزيع مفاصل القوة بين أبنائه (سيف الإسلام كواجهة سياسية، والمعتصم في الأمن، وخميس في الكتائب العسكرية، والساعدي في الرياضة والأعمال)، يسعى حفتر إلى إعادة إنتاج المنطق ذاته، فقد بدأ منذ عدة سنوات بتصدير أبنائه الستة كسفراء إلى العالم، موكلاً لكل منهم أدوارًا متنامية تتنوع بين السياسة والعسكر والاقتصاد.
إلى جانب صدام وخالد، برز نجله بلقاسم في المجال الاقتصادي عبر ترؤس وفود خارجية، وتوسَّع دوره مع تعيينه رئيسًا، ما أتاح له الوصول إلى مبالغ طائلة تُدار بطريقة غامضة، فيما اضطلع الابن الأكبر الصدِّيق بملفات المصالحة والشؤون الاجتماعية والتفاوض، أمَّا عمر والعجمي وأصهار آخرون من العائلة، فتقلدوا مواقع متفاوتة الحضور، ما يعكس تمدد نفوذ العائلة في مختلف مفاصل القرار شرق ليبيا.
لكن الفارق الجوهري أن القذافي حكم دولة موحَّدة، سيطر على مؤسساتها وأجهزتها الأمنية لعقود، وكان قادرًا على فرض مشروعه العائلي على كامل ليبيا، واستند إلى أيديولوجيا صاغها في “الكتاب الأخضر” لتبرير سلطته، بينما يقود حفتر سلطة عسكرية أمنية في إقليم منقسم، دون اعتراف دولي بشرعيته، ما يجعل مشروعه العائلي أضيق نطاقًا وأكثر هشاشة.
ويختلف الأبناء في الحالتين في الخبرة والتأهيل، فأبناء القذافي نشأوا في ظل موارد دولة نفطية ثرية وواجهات سياسية ودبلوماسية، بينما يفتقر أبناء حفتر إلى رصيد سياسي أو عسكري مستقل، وتُحصر شرعيتهم في كونهم “ورثة القائد”، يضاف إلى ذلك سجل مثير للجدل، خاصة صدَّام الذي ارتبط اسمه بوحدات عسكرية مثل لواء “طارق بن زياد” المتهم بارتكاب انتهاكات، ما يضعف إمكانية قبوله كقائد جامع.
ومنذ 2011 أيضًا، تغيّر المزاج الشعبي الليبي، وأصبح أكثر حساسية تجاه أي مشروع لإحياء الحكم العائلي، في حين يبدو المجتمع والساحة الليبية اليوم أكثر تشظيًا وتعددية سلاحًا وولاءات، ما يجعل أي محاولة لتكريس “بيت حفتر” كمرجع أوحد قد تصطدم برفض داخلي وخارجي، خصوصًا في ظل دعوات دولية متكررة إلى إجراء انتخابات وتوحيد المؤسسة العسكرية.
وإذا كان القذافي قد أسس سلطة عائلية على نطاق الدولة، فإن حفتر – المتهم بالسعي لحكم عسكري وتوسيع نفوذه، ويثير الجدل في الأوساط الليبية حول المؤسسة العسكرية – لا يبدو قادرًا إلا على بناء “نسخة محلية مصغّرة” داخل بنية عسكرية متنازع عليها، ما يعكس محدودية مشروعه، ويعيد طرح السؤال الأهم: هل يمكن لليبيا أن تتجاوز منطق الزعامات العائلية، أم أنها محكومة بإعادة إنتاجها في كل مرة؟
الجواب لن تحدده إرادة حفتر وحده، بل أيضًا خيارات الليبيين وموازين القوى الإقليمية والدولية، ومدى جدية الالتزام بخارطة الطريق الأممية، فإما أن تدخل ليبيا مرحلة جديدة تُكرَّس فيها سلطة العائلة داخل الجيش، أو أن تُفتح صفحة وطنية تضع حدًا لانقسامات عقد كامل، وتعيد الاعتبار إلى الدولة باسم الوطن لا باسم السلالة.