قررت الولايات المتحدة وبشكل مفاجئ وبدون أي مقدمات سحب قواتها من أهم موقعين عسكريين في العراق، الأول قاعدة “عين الأسد” في الأنبار غرب البلاد، والثاني “فكتوريا” قرب المطار الدولي، والانتقال تدريجيًا لنقل عناصرها إلى أربيل شمالا، لتٌنهي بذلك عشرة سنوات من التواجد داخل العاصمة العراقية، حين جاءت عام 2014 بطلب حكومة بغداد للتصدي لتنظيم “داعش”
تأتي تلك الخطوة التي فٌسرت على قراءات مختلفة في وقت حرج جدًا، حيث ارتفاع درجة حرارة المشهد الإيراني والحديث عن إمكانية تجدد العمليات العسكرية ضد طهران وأذرعها، متزامنًا مع العربدة الإسرائيلية ومخطط احتلال غزة وعدد من المناطق الأخرى، والإصرار على توسيع دائرة الصدام في لبنان واليمن وسوريا.
إضافة إلى التعقيدات الخاصة بالمشهد الأوكراني وحالة التأرجح بين الشد والجذب بين واشنطن من جانب، وموسكو ونيودلهي وبيجين من جانب أخر، جراء سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية، وتصاعد خطاب الاستقطاب الإقليمي والدولي، الأمر الذي فتح بورصة التكهنات على كافة السيناريوهات.
ورغم أن سحب الولايات المتحدة لقواتها من العراق كان مطلبًا سياسيًا وشعبيًا إلا أن الإسراع في تنفيذ تلك الخطوة قبل الموعد المتفق عليه، وفي هذا التوقيت حيث التموجات السياسية والأمنية التي تطوق المنطقة، أثار الكثير من التساؤلات حول دوافعه وأهدافه والسيناريوهات المزمع أن تٌلقي بظلالها على الساحة العراقية والإقليمية بصفة عامة.
خطوة استباقية للجدول الزمني
في سبتمبر/أيلول 2024 نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة والعراق توصلا إلى تفاهم بشأن خطط انسحاب قوات التحالف التي تقودها واشنطن من العراق، يتضمن إغلاق القاعدة الجوية في عين الأسد وسحب القوات من بغداد بحلول سبتمبر/أيلول 2025، على أن تستمر بعض القوات في أربيل حتى نهاية 2026 لدعم العمليات ضد تنظيم الدولة في سوريا، إلا أن تلك الخطة التي جرى التوافق عليها لم يتم تمريرها بشكل قانوني ورسمي بحسب المصادر.
وفي 27 سبتمبر/أيلول 2024 كشفت وكالة “أسوشيتد برس” على لسان مسؤولين عراقيين تحدثوا إليها أن الاتفاق على الانسحاب التدريجي تم بالفعل بين واشنطن وبغداد، لكن إدارة الرئيس السابق جو بايدن رفضت تقديم تفاصيل حول عدد الجنود الأميركيين، البالغ عددهم نحو 2500 جندي ما زالوا في العراق، الذين سيبقون هناك، كما لم تؤكد أن الخطوة تمثل انسحابًا كاملًا من البلاد.
نائبة المتحدث السابقة باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، في تصريحات لها للصحفيين قالت: “أعتقد أنه من العادل القول إن وجودنا سيتغير داخل البلاد”، دون أن تقدم تفاصيل إضافية، فيما نقلت الوكالة عن مسؤولين أمريكيين أن الاتفاق مع العراق ينص على انتقال القوات المتمركزة هناك عبر مرحلتين، المرحلة الأولى، والتي تستمر حتى سبتمبر/أيلول 2025، أما المرحلة الثانية، فستشهد استمرار الوجود الأميركي بشكل ما حتى عام 2026 لدعم عمليات مكافحة داعش في سوريا.
وبحسب ما نقلت “أسوشيتدبرس” عن المسؤولين العراقيين فإن القوات الأميركية كان مقررًا لها البدء في الانسحاب من قاعدة عين الأسد في غرب العراق ومن مطار بغداد الدولي، بعد الانتخابات الرئاسية نهاية العام الماضي، على أن تُنقل إلى قاعدة حرير في أربيل بإقليم كردستان شمالي البلاد، فيما ستتحول المهمة العسكرية للقوات الأمريكية المتبقية في العراق إلى علاقة أمنية ثنائية بين واشنطن وبغداد، لكنهم لم يحددوا ما قد يعنيه ذلك بالنسبة لعدد الجنود الأميركيين الذين سيبقون في العراق مستقبلاً.
من هنا ووفق هذا الاتفاق كان من المقرر أن تنسحب القوات الأمريكية من القاعدتين العراقيتين الشهر المقبل، وليس الشهر الجاري، وهو الاستباق الذي أثار القلق والمخاوف ودفع الكثير من علامات الاستفهام لأن تٌطل برأسها باحثة عن إجابة حول هذا التبكير في الانسحاب وما وراءه وما دلالاته في هذا التوقيت وماذا يعنيه علميًا على أرض الواقع.
بداية.. لا انسحاب نهائي حاليًا
بادئ ذي بدء لا يمكن التعامل مع الخطوة الأمريكية على أنها انسحاب من الأراضي العراقية، إذ أن التواجد الأمريكي يستند في خلفيته لبعد قانوني مٌلزم، استنادًا إلى مذكرة التفاهم الموقعة بين بغداد وواشنطن في يونيو/حزيران 2014، بعد طلب الحكومة العراقية رسميًا من القوات الأمريكية وقوات التحالف مساعدتها في محاربة عناصر داعش في الداخل العراقي.
وفق هذه المذكرة يٌمنح جنود الولايات المتحدة والتحالف تأشيرات دبلوماسية يدخلون بها الأراضي العراقية، ويتمتعون بمزايا مادية وسياسية مٌعتبرة، على أن يصبح هذا الاتفاق ساريًا منذ إبرامه لحين طلب أي من الطرفين، بغداد وواشنطن، إنهائه بشكل رسمي، وذلك بموجب إشعار خطي يٌرسل من الطرف الراغب في إنهاء المذكرة للطرف الأخر قبل عام واحد على الأقل.
وهذا يعني أنه لأجل إنهاء التواجد الأمريكي والدولي في العراق لا بد وأن تقدم الحكومة العراقية إشعارًا رسميًا للحكومة الأمريكية بإنهاء هذا التواجد والاستغناء عن المساعدات المقدمة في محاربة التنظيم المسلح، وهو ما لم يحدث حتى كتابة تلك السطور، وعلى فرضية حدوثه اليوم فهناك عام على الأقل أمام الولايات المتحدة لسحب قواتها رسميًا ونهائيًا من الأراضي العراقية.
من هذا المنطلق لم يتمكن مجلس النواب (البرلمان) العراقي في 5 يناير/كانون الثاني عام 2020 في أعقاب عملية استهداف قائد فيلق القدس قاسم سليماني في مطار بغداد، من المطالبة بشكل رسمي وقانوني بإخراج القوات الأمريكية من العراق، لكنه طالب بإلزام حكومة بلاده إلغاء طلب المساعدة المقدم منها للتحالف الدولي لمحاربة داعش، استنادًا إلى الاتفاق الملزم بين واشنطن وبغداد ودول التحالف الدولي، لذلك طلب من العراق أولاً إلغاء هذا الاتفاق ليتسنى للحكومة العراقية إخراج القوات الأجنبية.
إعادة تموضع أم انسحاب تكتيكي؟
هناك قراءتان رئيسيتان في تفسير القرار الأمريكي المفاجئ من حيث التوقيت لا الإجراء:
أولها: إعادة التموضع. خلال الآونة الأخيرة تلقت القوات الأمريكية في العراق تهديدات مباشرة ومعلنة من قبل الفصائل المسلحة المدعومة من طهران، خاصة بعد حرب الـ 12 يومًا الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي والتي تكبدت فيها الجمهورية الإيرانية خسائر قوية، عسكريًا واستخباراتيًا واقتصاديًا.
ومن هنا قد يأتي هذا القرار في سياق إعادة تموضع للقوات الأمريكية في الداخل العراقي، وتقليص فرص الاحتكاك المباشر مع تلك الفصائل، ومحاولة اختزال الانتشار العسكري في أضيق الحدود وأبعد نقطة تماس ممكنة، حيث تتجنب واشنطن أن تكون قواتها في العراق هدفًا سهلا في مرمى الإيرانيين في حال نشوب أي توتر في العلاقات.
أما على الجانب الأخر فإن الانتقال إلى أربيل ومناطق أخرى ملاصقة للحدود العراقية، قد يمنح القوات الأمريكية قدرة ومرونة أكبر في ضرب بنك أهدافها في العراق وسوريا وإيران، وربما في الخليج والمنطقة إذا ما تطلب الأمر، مع خفض فاتورة الرد المحتمل طالما بعدت عن المرمى المباشر لطهران، مما يبقي قدراتها الردعية والجاهزية دون أي تأثير محتمل.
ثانيًا: الانسحاب التكتيكي. في ذات السياق ربما تحاول الولايات المتحدة بهذا الانسحاب التكتيكي تخفيف الضغط نسبيًا على الحكومة العراقية التي تواجه انتقادات حادة بسبب التواجد الأمريكي المكثف، واتهامات خرق السيادة، ورفع الحرج عنها، ساعية إلى منحها انتصارًا سياسيًا قد يثقل حضورها الشعبي ويعزز فرص نجاحها في الانتخابات القادمة ويٌحسن من وضعيتها في مواجهة الفصائل الموالية لإيران.
جدير بالذكر أن حكومة السوداني كانت قد واجهت حملات قاسية بسبب التواجد الأمريكي واستخدام الأراضي العراقية في شن هجمات ضد طهران وبعض دول المنطقة، وهو ما وضع الحكومة في حرج سياسي وأخلاقي، فيما دفع مستشار الأمن لرئيس الوزراء حسين علوي، للتصريح بأن مهمة التحالف الدولي ضد داعش في عين الأسد وبغداد ستنتهي خلال سبتمبر/أيول 2025، وستبدأ مرحلة جديدة من التعاون الأمني القائم على التدريب والاستشارة، في محاولة لامتصاص الغضب الفصائلي والشعبي المتصاعد.
غير أن هذا الانسحاب وبصيغته التكتيكية تلك قد يعمق من مأزق الحكومة العراقية، التي تجد نفسها في حيرة كبيرة، بين ضغوط داخلية من القوى السياسية والفصائل المسلحة، وبين التزامات خارجية تجاه الولايات المتحدة والتحالف الدولي.
فاستمرار التواجد الأمريكي سيمنح خصوم السوداني هدية على طبق من ذهب لتوجيه الاتهامات بالخضوع للقرار الأمريكي وتعريض السيادة العراقية للخطر، وفي حال الانسحاب سريعًا يخشى أن يتعرض البلد إلى فراغ أمني يضعف الحكومة أمام خطر عودة تنظيم داعش أو تصاعد نفوذ الميليشيات المدعومة من إيران.
ويخشى السوداني أن يتحول الانسحاب الأمريكي – المنشود والمٌطالب به داخليًا منذ سنوات- إلى سلاح ذو حدين، غير أنه إذا نجح في أن يكون تدريجيًا ومنظّمًا، فإن ذلك ربما يساعده في الظهور كقائد قادر على تحقيق توازن سيادي دون انهيار أمني، مما يعزز فرصه داخليًا.
أما إذا كان الانسحاب بشكل مفاجئ وكلي – وهو أمر ربما لا ترغبه واشنطن ولا يصب في مصلحتها الحالية- فسيكون الانزلاق نحو الفوضى أو الصراع الداخلي هو السيناريو الأقرب واقعية، وحينها سيتم تحميل الحكومة المسؤولية كاملة أمام الشعب والمجتمع الدولي، مما يزيد من النفوذ الإيراني الذي ربما يصب هذا الانسحاب – ظاهريًا – في صالحه.
ما السيناريوهات المحتملة؟
إسراع الولايات المتحدة في سحب قواتها من قاعدتي “عين الأسد” و “فيكتوريا” واستباق الجدول الزمني المحدد سلفًا، وفي هذا التوقيت الحرج سياسيًا وأمنيًا، حيث الأجواء المتوترة على تخيم على المشهد الإقليمي، ينبئ بأحداث وشيكة، قد لا تصب في صالح العراق، يمكن تلخيصها في سيناريوهين:
أولا: توجبه ضربة مؤلمة للفصائل المسلحة الموالية لطهران في العراق. شهدت الأشهر الأخيرة تصعيدًا في لغة الخطاب بين واشنطن والفصائل، ففي مارس/آذار الماضي أبلغ وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، رئيس الوزراء العراقي عبر اتصال هاتفي بأن أي تدخل من الفصائل المسلحة العراقية في العمليات العسكرية الأمريكية ضد الحوثيين في اليمن “سيواجه بردًا عسكريًا مباشرًا داخل العراق” ، داعيًا إلى تسريع تفكيك الفصائل ونزع سلاحها.
ووفق تقارير في أكتوبر/تشرين الأول 2024 بعث الأمريكيون برسائل شديدة اللهجة تحذر من استهداف الفصائل للمصالح الأمريكية سواء في العراق أو سوريا، أو حتى تصعيد العمليات ضد إسرائيل، الرسائل توعدت باستهداف الفصائل وقياداتها حال استمرار الهجمات.
وفي يوليو/تموز الماضي أدلت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تامي بروس ببيان قالت فيه إن الجماعات المسلحة التابعة للحشد الشعبي تمثل خطرًا على استقرار العراق وأمنه، داعية الحكومة العراقية إلى محاسبة قادة هذه الفصائل تقريبًا باعتبار أن سلوكهم “يقوّض” سيادة العراق.
تلك التحذيرات المتباينة بين الدبلوماسي والعسكري، رفعت من نسب ترجيح احتمال استهداف الولايات المتحدة لتلك الفصائل بضربة تٌخرجها عن المشهد بصفة أنها الذراع الأقوى المتبقي حاليًا لإيران في المنطقة بعد تحييد حزب الله وسقوط نظام الأسد والخسائر التي مٌني بها الحوثيون في اليمن.
ثانيًا: الإعداد لعملية عسكرية جديدة ضد إيران. هناك أصوات ترى أن هذا الانسحاب التكتيكي إلى أربيل يذهب باتجاه الاستعداد لعملية عسكرية جديدة ضد أهداف إيرانية، خاصة بعد التصعيد الأخير، وفشل حرب الـ 12 في تحقيق كامل أهدافها وفق التسريبات الإعلامية الأخيرة، وهو ما وضع إدارة ترامب في حرج لاسيما بعد تأكيده المتكرر أن العملية الماضية حققت كل الأهداف التي شٌنت لأجلها.
ومن هنا فإن الانسحاب من قاعدتي بغداد سيعمل حتمًا على قطع الطريق، أو على الأقل تصعيبه، أمام أي رد محتمل من الأذرع الإيرانية على أي هجوم جوي يستهدف مواقعهم، ومن ثم يفقد الإيرانيون أحد أهم أسلحتهم الردعية، عبر المسيرات والهاونات، والتي كانوا يستهدفون بها المعسكرات والقواعد الأميركية في العراق.
ما علاقة سوريا؟
هناك قراءة أخرى تذهب باتجاه أن ما يحدث على المستوى العراقي من انسحاب أمريكي مفاجئ من قواعد بغداد لا يمكن قراءته بمعزل عما يحدث على الساحة السورية، استنادًا إلى أن هذا الانسحاب إنما هو جزء من تحركات أمريكية إسرائيلية مكثفة لإقامة منطقة عازلة داخل سوريا، تمتد من السويداء وصولا إلى أطراف دير الزور بمحاذاة الحدود العراقية.
أنصار هذه القراءة يميليون إلى أن الهدف المعلن إعلاميًا وسياسيًا لتبرير إنشاء تلك المنطقة هو حماية الدروز، حيث الامتداد الجغرافي بمحاذاة البادية السورية حتى الحدود مع العراق، وهو ما يتناغم نسبيًا مع التطورات التي تشهدها محافظة السويداء مؤخرًا والتصعيد الدرزي هناك بقيادة الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، حكمت الهجري.
أما البعد الاستراتيجي لتلك المنطقة – بحسب أنصار هذا الرأي- فيتلخص في فصل الحدود العراقية بالكلية عن العمق السوري، وتقطيع أوصال العلاقات بين التنظيمات المسلحة في البلدين، سواء المنضوية تحت لواء داعش أو الموالية لطهران، مما يمنح تل أبيب وواشنطن الأريحية الكاملة في تنفيذ مخططاتهما بشأن سوريا الجديدة وقطع كل سبل الإمداد المحتملة.
في الأخير.. يبقى الانسحاب الأمريكي المفاجئ من قاعدتي عين الأسد وفكتوريا ليس إنهاءً بالكلية للوجود العسكري كما يصوره البعض، بل إعادة تموضع في أربيل وبعض المناطق الحدودية الأخرى، ضمن استراتيجية أوسع ترتبط بالتوازنات الإقليمية (إيران، سوريا، غزة) وبالضغوط الداخلية العراقية، الخطوة قد تعطي حكومة السوداني مكسبًا سياسيًا مؤقتًا، لكنها تضعها أيضًا أمام تحديات أمنية وسياسية معقدة في المستقبل.