وسط ركام غزة المحاصرة، حيث لا ظل إلا للخراب، ولا رائحة إلا للدخان والعوز، يستيقظ أحمد أبو الجديان، الشاب الكفيف، عند السابعة صباحًا على لهيب الحرّ الخانق داخل خيمته في دير البلح. لا يوقظه المنبّه، بل صوت الجوع في معدته ونداء الواجب تجاه أسرته التي تعيش على حافة الجوع والنسيان؛ أمّ مكلومة، وشقيقان من ذوي الإعاقة، ينتظرون عودته بما تيسّر من خبز أو ماء.
حال أحمد ليس استثناءً، فهذه الحكاية الفردية تختصر مأساة جماعية؛ ففي ظلّ الحرب المستمرة منذ ما يقارب العام، فإن نحو 1.9 مليون إنسان – أي ما يقارب 90% من سكان غزة – نازحين داخليًا بحسب بيانات الأمم المتحدة.
كما كشفت أحدث تحليلات الأمن الغذائي (IPC) الصادرة في 22 أغسطس/ آب 2025 أن أكثر من 640 ألف شخص يواجهون اليوم “مرحلة الجوع الكارثي” (IPC 5)، بينما يقف 1.14 مليون آخرون على حافة المجاعة (IPC 4).
يمضي أحمد بجسده النحيل في طرق مدمرة لا يرى ملامحها، ويصطدم بأزمات لا تنتهي؛ شحّ في البضائع وغلاء خانق وانعدام للمواصلات وأزمة سيولة تُثقِل كاهل الجميع. ورغم كل شيء، يعود إليهم بشيء، مهما كان ضئيلاً.. فقط ليبقيهم على قيد الحياة.
من الركام إلى خيمة النزوح
كان أحمد يعيش مع أسرته في منزل يقع على أطراف مخيم جباليا قرب شارع صلاح الدين. ومع اشتداد القصف في الأيام الأولى للحرب، اضطروا في اليوم الخامس للنزوح إلى منزل عمته في وسط المخيم.
في صباح اليوم التالي، سقط صاروخ على بيت جيران عمته، وعمّت الفوضى، حيث انشغل الجميع بإنقاذ الأطفال الذين حوصروا تحت الأنقاض، لكن أحمد، الكفيف، وجد نفسه محاطًا بالركام وسياخ الحديد، غير قادر على الحركة. لحظات مرت كالدّهر، حتى أنقذه أحد أفراد الدفاع المدني، ولاحظ حينها أن يديه غارقتان في الدم دون أن يشعر.
نزح بعدها مع أسرته إلى مدرسة في جباليا، لكنهم لم يجدوا مكانًا يؤويهم. اضطروا للانتقال إلى منزل قريب لهم في المنطقة ذاتها، إلا أن الخطر كان لا يزال محدقًا، فقرروا أخيرًا اللجوء إلى خيمة في دير البلح. ومنذ ذلك الحين، لا مأوى لهم سوى قطعة قماش مهترئة تحاول حمايتهم من شمس الصيف وقسوة النزوح، بعد أن دُمّر منزلهم في جباليا كليًا.
بحسب وزارة الأشغال العامة في غزة، فإن أكثر من 370 ألف وحدة سكنية تضررت كليًا أو جزئيًا منذ بداية الحرب، بينها ما يزيد على 85 ألف منزل غير صالح للسكن نهائيًا. وتشير تقارير الأونروا (UNRWA) الصادرة في أغسطس/آب 2025 إلى أن مئات آلاف النازحين ما زالوا يعيشون في مدارس أو خيام مؤقتة تفتقر للخصوصية والمرافق الصحية الأساسية.
خبز الحياة وماء البقاء
مع اندلاع العدوان ونزوح الأسرة إلى الجنوب، انفصل الأب عن أسرته الأصلية ليستقر مع زوجته الثانية وأطفاله الصغار، متحملاً مسؤوليتهم في ظل الظروف الصعبة. في المقابل، بقي أحمد مع والدته وشقيقه وشقيقته ذوي الإعاقة في دير البلح، ليقع على عاتقه عبء رعاية أسرته وتحمل مسؤولية إعالتهم، رغم إعاقته البصرية الكاملة.
يقول أحمد لـ”نون بوست”: “عندما كانت المخابز تعمل، كنت أستيقظ من الفجر لأسبق الطوابير الطويلة. الزحام شديد، والناس تدفع بعضها بلا رحمة، حتى الكفيف أو كبير السن لا يُراعى وجوده، وكثيرًا ما اضطر الأمن لإطلاق النار لتفريق التجمعات، لكني لم أكن أستسلم، كنت أصر على العودة بالخبز لعائلتي، مهما كلّف الأمر”.
يقطع أحمد مسافات طويلة يوميًا ليصطف أمام التكية للحصول على وجبة طعام تسد رمق عائلته، رغم مخاطر التدافع واحتمال سقوط الوجبة الساخنة منه في الطريق المليء بالحفر والركام.
ويشير إلى أن تأمين المياه هو الآخر معركة يومية، إذ يعبئ المياه المالحة يدويًا من بئر قريبة، وينقلها إلى خيمته في حاويات ثقيلة، وهي مهمة شاقة، لكنها تمنحه شعورًا بالإنجاز.
أما المياه العذبة، فيؤكد أنها نادرة، وجودتها بالكاد مقبولة، ما يضطره لقطع مسافات طويلة والوقوف في طوابير مرهقة للحصول على جالون واحد فقط، بالكاد يكفي أسرته ليوم واحد.
هذه التجربة اليومية المريرة تعكس ما تقوله منظمة اليونيسف بأن 96% من الأسر في غزة لا تحصل على مياه صالحة للشرب، فيما تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) أن أكثر من 132 ألف طفل مهددون بالموت بسبب سوء التغذية الحاد، بحسب آخر تحديث في أغسطس/ آب 2025.
صبر لا يخلو من إنهاك
رغم صعوبة المسؤوليات التي يتحملها أحمد، إلا أنه لا يعتبرها عبئًا ثقيلًا، فقد اعتاد على الاستقلال منذ صغره حين عاش بعيدًا عن أسرته في مدرسة داخلية بالضفة الغربية. ومع ذلك، لا يخفي لحظات الضعف الإنساني، حيث يمر أحيانًا بنوبات من الغضب أو الإحباط أو التعب النفسي، فكما يقول: “لست آلة، أنا إنسان”.
ومن أصعب المواقف التي واجهها خلال النزوح، ما جرى في أعقاب هدنة 19 يناير/كانون الثاني، حين قرر نقل خيمته وكامل ممتلكاته إلى مكان أكثر أمانًا وهدوءًا، لكن في اليوم التالي، عاد سكان المكان السابق فجأة، واضطر إلى إعادة كل شيء إلى موقعه القديم، رغم مشقة النقل.
يعيش أحمد اليوم في خيمة لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، محاطًا بالقوارض والكلاب والقطط. وفي الفترة التي كان فيها المخيم مكتظًا قبل الهدنة، اضطر للسهر لساعات طويلة لحراسة خيمته من السرقات، معتمدًا فقط على حاسة السمع.
ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة (أغسطس/ آب 2025)، فإن أكثر من نصف النازحين يضطرون لمشاركة خيام مزدحمة أو مبانٍ مهدمة، ما يزيد المخاطر الصحية والنفسية ويضاعف الأعباء، خاصة على ذوي الإعاقة والفئات الأكثر هشاشة.
عزيمة مدفوعة بالحب والدعم
رغم القسوة اليومية التي يواجهها، يستمد أحمد قوته من شعوره العميق بالواجب تجاه والدته وشقيقه وشقيقته من ذوي الإعاقة. يقول: “لازم أظل قويًا عشانهم… ما لي خيار غير إني أتحمل”.
ولم يكن وحده تمامًا في مواجهة العتمة والخيمة؛ فقد خفّف صديقه وسيم من وطأة النزوح حين شاركه مرارة الأيام واستقر معه لبعض الوقت خلال الحرب، مما منحه شعورًا بالأمان والدعم النفسي. كما كان لقريبه أبو الجود دورٌ كبير في مرافقة أحمد إلى أماكن عديدة قبل هدنة 19 يناير/كانون الثاني، دون تردد أو ملل، وهو ما يصفه أحمد بأنه “كان عوني في وقت الكل فيه مشغول بنفسه”.
وتكشف تقارير “الإغاثة الدولية” (IRC) أن الدعم النفسي والاجتماعي بات ضرورة قصوى في غزة، حيث يعاني أكثر من 80% من السكان من صدمات نفسية مرتبطة بالحرب والنزوح المتكرر.
رغم العتمة والركام، لا يتوقف أحمد عن الحلم. أكثر ما يتمناه اليوم أن ينجو هو وعائلته من هذه الحرب الضروس، وأن يعيشوا حياة كريمة تحفظ لهم ما تبقى من إنسانيتهم.
يتطلع أحمد، خريج كلية الآداب – تخصص اللغة الإنجليزية من الجامعة الإسلامية، إلى استكمال دراسته العليا، وإيصال صوته إلى العالم، والحصول على وظيفة تليق بقدراته وتمنحه الاستقلالية التي لطالما ناضل لأجلها.
ورغم أن الطريق أمامه قد يبدو وعرًا، إلا أن قصته تختصر مشهد غزة كله: شعب مثخن بالجراح، لكنه لا يزال يقاوم بصبر وبحلم لم ينكسر.