جرَّ النفطُ على سكانِ مناطقِ “الجزيرة” السوريةِ الويلاتَ على مدارِ السنواتِ الـ14 الماضية، فهو لم يكن سوى “طاعونٍ أسودَ” بحسبِ وصفِ السكان، ولم يقتصر وجودُه في الشرقِ على جذبِ عديدِ القوى العسكريةِ للاقتتالِ والصراعِ عليه فحسب، بل تسبّبت تداعياتُ استخراجه بكوارثَ هائلةٍ من التلوثِ الخطيرِ وتدميرِ البيئة، وصولًا إلى الأمراضِ الخطيرةِ التي ألمّت بالسكان، وعلى رأسِها مرضُ السرطان.
خلال السنواتِ الـ 14 الماضية، وصولًا لليوم، تناوبت على إدارةِ مجالِ النفطِ والسيطرةِ عليه عدّةُ قوى، من النظامِ البائدِ إلى تنظيمِ “جبهة النُصرة”، ثم تنظيمِ الدولةِ الإسلاميةِ “داعش”، وصولًا إلى ميليشيا قواتِ سوريا الديمقراطية “قسد”، والتي يقودُها حزبُ الاتحادِ الديمقراطي “PYD”، الجناحُ السوريُّ لـ”حزبِ العمالِ الكردستاني” “PKK”. والأخيرةُ تُشرف منذ العام 2017 على “حرّاقاتِ النفط” في دير الزور، وقبلها منذ 2013 على بعضِ الحقولِ في محافظةِ الحسكة. (كانت بعضُ الآبارِ النفطيةِ تحت سيطرةِ حزبِ الاتحادِ الديمقراطي “PYD”، ولاحقًا تأسّست ميليشيا “قسد” في العام 2015 على هيكليةِ هذا الحزب، مع تحالفِ عدّةِ قوى عسكريةٍ أخرى).
طرق بدائية
تعتمد ما يُسمّى بـ”الإدارةِ الذاتيةِ” على طريقةٍ بدائيةٍ في تكريرِ النفطِ المُستخرجِ من محافظتَي دير الزور والحسكة، لتأمينِ المحروقاتِ “المازوت والبنزين” للسوقِ المحلية، وذلك باستخدام “حرّاقاتِ النفط” كما يُسميها السكانُ المحليون، وهي مصافٍ تقوم بتكريرِ النفطِ لاستخراجِ مشتقّاته، وانتشرت هذه الطريقةُ في دير الزور بعد طردِ قواتِ النظامِ من مناطقَ واسعةٍ من المحافظة عام 2012، ثم انتشرت في الحسكة مباشرةً، وريفِ حلب لاحقًا.
إلّا أن هذه العمليةَ تُعتبر خطِرةً جدًّا بسبب التلوثِ الناتجِ عنها، سواء الأبخرةِ والدخانِ المتصاعدَين منها، أو تسرّبِ فضلاتِ التكريرِ إلى التربةِ والأنهارِ والمراعي، والأخطرُ هو كونُها من أسبابِ مرضِ السرطانِ والأمراضِ التنفّسية، عدا عن كونِها قنبلةً موقوتةً بالنسبة للعاملينَ فيها، وتسبّبت بمقتلِ وتشويهِ المئاتِ منهم على مدارِ السنواتِ الماضية.
على ضفافِ “نهرِ الخابور” الجاف، تُصادفك على جانبَيه عشراتُ القرى والبلداتِ المنسيةِ الممتدةِ من شمالِ مدينةِ “البصيرة” وصولًا إلى بلدةِ الصوَر أقصى شمالِ ديرِ الزور، على الحدودِ الإداريةِ مع محافظةِ الحسكة. هذه المناطق، ومنذ انطلاقِ الثورةِ تقريبًا، تفتقر لأدنى مقوّماتِ الحياة، وازداد الوضعُ سوءًا وكارثيةً مع سيطرةِ ميليشيا “قسد” على المنطقة.
الزراعةُ شبهُ متوقفةٍ، وتلاشت المساحةُ المزروعةُ بشكلٍ شبهِ كاملٍ، والمشاريعُ الخدميةُ معدومةٌ. العملُ المتاحُ هنا للسكان هو “حرّاقاتُ النفط”، والتي تُعتبر سوقَ العملِ الوحيد، إذ إن العشراتُ من الشباب، من الذين لم يتمكنوا من الهجرةِ ومغادرةِ البلاد، يعملون في مجمّعاتِ النفطِ تلك المتراميةِ في الباديةِ والقريبةِ من المناطقِ المأهولة.
يقول عدنان ذو الـ 38 عامًا: “أعمل هنا منذ (8) سنوات، حيث كنتُ قد تركتُ مقاعدَ الدراسة بسببِ الانخراطِ في الثورةِ السورية، ويساعدني شقيقي الأصغر ذو السنوات (17)”. ويضيف: “لقد تعرضتُ للتشوهِ في يديّ وصَدري بسبب انفجارِ إحدى الحرّاقاتِ عليَّ منذ سنوات، ولا أزالُ أعاني من شللٍ في بعضِ أصابعِ اليدين بسببِ توقفِ بعضِ الأعصاب. الحراقاتُ هي ما يوجد لدينا فقط كعمل، وهي قنابلُ موقوتةٌ وخطيرةٌ جدًّا. فقد العشراتُ حياتَهم فيها، وتعرضوا للتشوهِ ولأمراضٍ متعددةٍ، منها مشاكلُ تنفّسيةٌ نُسميها “التعليس”. وتصل إلى الاختناقِ بسببِ الغازاتِ التي يستنشقها العاملون، وهناك بعضُهم مَن يعاني من نوباتِ صرعٍ غيرِ مفهومةٍ، ومشاكلَ بضعفِ البصرِ كذلك. مناطقُنا بدونِ أيِّ خدمات، حتى المياهُ نشتريها بشكلٍ يومي، ولا عملَ موجودٌ سوى الحراقات ببساطة، رغم أن مردودَها الماليَّ قليلٌ، لكن هذا أعلى المتاحِ في سوقِ العمل”.
الانضمام لـ”قسد” أو العمل بـ”الحراقات”
في بلدةِ “ذيبان” شرقيَّ ديرِ الزور، التقينا بـ”حسن”، وهو اسمٌ وهميٌّ لأحدِ تجارِ النفط، حيث فضّل عدمَ الكشفِ عن اسمِه، ويُدير الرجلُ مُجمّعًا لحراقاتِ النفطِ في البادية، ولا يبتعدُ الموقعُ كثيرًا عن البلدة. يقول حسن: “تكريرُ النفطِ عبرَ الحراقاتِ بدأ منذ خروجِ قواتِ النظامِ من المنطقةِ في العام 2012، ويعمل في هذا المجالِ شريحةٌ كبيرةٌ من الشبابِ والأطفالِ، ويصل عددُ العاملين إلى أكثرَ من 1000 شخصٍ فقط في مجمعاتِ ذيبان، ونفسُ الأعدادِ نجدها في الريفَين الشمالي والغربي من دير الزور”.
العملُ خطيرٌ في هذا المجال، لكن هذا هو المتاحُ للشباب، لأن الفقرَ شديدٌ، والوضعَ الاقتصاديَّ في الحضيض. ليس لدى الناسِ خياراتٌ، إما حراقاتُ النفطِ، أو الانتسابُ لصفوفِ قواتِ سوريا الديمقراطية “قسد”، أو الهجرةُ ومغادرةُ البلاد.
وحول الاستثمارِ في مجالِ النفط، أضاف حسن: “كلُّ ما يتعلّق بالنفط تديره “الإدارةِ الذاتية” التابعةِ لحزبِ الاتحادِ الديمقراطي، ويُشرف عليه كوادرُ أكراد. في دير الزور، مثلًا، هناك خمسةٌ منهم، وهم مَن يُشرفون على الأمورِ المتعلقةِ ببيعِ النفطِ للتجّار، واختيارِ المُستثمرين، وإدارةِ بيعِ المحروقاتِ المستخرَجةِ كذلك.
وفي الريفِ الشرقي، كمثال، هناك كادران من كوادرِ حزبِ العمالِ الكردستاني “PKK” يُقيمان في حقلِ العُمر النفطيِّ شرقَ دير الزور، وهما المسؤولان هافال حجي، وهافال إبراهيم، وينوب عنهما فعليًّا مستثمرانِ في النفط، وهما من المحسوبين على ميليشيا “قسد”: الأوّل يُدعى حمزة السيد، والثاني هو محمد رمضان، المُلقب بـ”الضبع”. ويتشارك هؤلاء في كلِّ قضايا بيعِ النفط، وجَبيِ الأموالِ، وتوريدِه خارجَ دير الزور.
وعن آليةِ اختيارِ المستثمرين، فهي تتمُّ عبرَ الرشاوى والتزكيةِ من قبلِ كوادرِ حزبِ العمالِ الكردستاني، بحسب حسن؛ فمَن يدفع أكثر يُمنَح حقَّ الاستثمارِ وضخِّ النفطِ على حسابِه من الآبار، وبيعِه للتجّار ضمن اتفاقٍ محددٍ مع ما يُسمّى بـ”الإدارةِ الذاتية”، مقابلَ عائداتٍ ماليةٍ محددةٍ بالدولار. على سبيلِ المثال، تبلغ عائداتُ النفطِ المستخرجِ يوميًّا من أحدِ آبارِ حقلِ “العُمر” النفطي شرقَ دير الزور مليونَ دولار، ويضمُّ الحقلُ وحده عشراتِ الآبار، ناهيك عن بقيةِ الحقولِ التي تُديرها ميليشيا “قسد” في المحافظة، على غرارِ حقلِ التنك، الأحمر، الصيجان، الجفرة، الأزرق، وغيرها من حقولِ الحسكةِ الغنيةِ كذلك.
يُباع برميلُ النفطِ الواحدِ للتجّار بـ 15 دولارًا أميركيًّا للبرميلِ الواحد، ويبيعه التجّارُ بدورهم لبقيةِ الحراقات، أو يأخذونه لحراقاتٍ خاصةٍ بهم.
وبحسب عدّةِ دراسات، أهمُّها لمنظمةِ السلامِ الهولندية “بي إيه إكس” (PAX)، فالتقاريرُ القادمةُ من محافظتَي الحسكة ودير الزور تشيرُ إلى مشاكلَ صحيةٍ خطيرةٍ يُواجهها السكانُ المحليون القاطنونَ بالقربِ من تلك المصافي “الحراقات”، وكذلك العاملونَ فيها، وكثيرٌ منهم من الأطفال.
وتتراوح هذه المخاطرُ، بحسبِ التقييم، من الحادّةِ جدًّا الناجمةِ عن التعرّضِ للنفاياتِ السامة، وصولًا إلى المخاوفِ بشأنِ المشاكلِ الصحيةِ مثل السرطانِ وأمراضِ الجهازِ التنفسي، الناتجةِ عن التعرّضِ المزمنِ للموادِّ الكيميائيةِ الخطِرة، واستنشاقِ أبخرةِ النفطِ الخام.
وقد تضمّن تقريرٌ للمنظمةِ المذكورة في العام 2020، بعنوان: “الأرض المحروقة والحياة المتفحمة”، معلوماتٍ وبياناتٍ مرعبةً عن مدى الكارثةِ البيئيةِ في الحسكةِ ودير الزور بسبب هذه المصافي، والتي ترعاها ميليشيا “قسد” كونَها المورِّدَ الوحيدَ للمحروقاتِ في مناطقِ سيطرتها.
رغمَ كميّةِ الكارثةِ البيئيةِ الحاصلة، لم تُبدِ “قسد” أيَّ تحرّكٍ ملموسٍ حيالها، حيث ما زالت عشراتُ “حرّاقاتِ النفط” منتشرةً في نواحي رميلان، والسويدية، والشدادي وغيرها من المناطق، فيما يُعاني سكانُ عشراتِ القرى في نواحي القامشلي، واليعربية، والمالكية جراءَ هذا التلوث، حيث تسرّبت بقايا الحراقاتِ إلى مجاري الأنهار، والأراضي الزراعية، وتسبّبت سُحبُ الدخانِ الناتجةُ عن مُجمّعاتِ الحراقاتِ بنزوحٍ جماعيٍّ للعشراتِ من العوائل على مدارِ السنواتِ الماضية، وصولًا لليوم، حيث تسبّبت بأمراضٍ تنفّسيةٍ، وحالاتِ اختناقٍ، وإصاباتٍ بالسرطان، كما حصل في بعضِ قرى تل حميس، وتل مشحن، ووادي الرد، وتل تمر.
كوارث صحية وبيئية
في العام الماضي 2024، أدّى تسرّبٌ نفطيٌّ إلى مجرى “نهرِ جقجق” في الحسكة إلى حرمانِ المزارعين من سقايةِ أراضيهم من النهرِ الجاف، الذي يزدادُ منسوبُه في أوقاتٍ نادرةٍ من العام بفضلِ هطولِ الأمطارِ في تركيا، وكذلك تسبّبَ التسرّبُ النفطيُّ بنفوقِ كمياتٍ من الأسماكِ في سدِّ الحسكةِ الجنوبي.
وقبلها، في العام 2019، هاجرت عدّةُ عوائلَ من مناطقِ الجنيدية، وتل مشحن، والشعفانية، وتل تمر، جراءَ تلوّثِ مياهِ الشربِ نتيجةَ تسرّبٍ نفطيٍّ من الآبارِ النفطيةِ المجاورة.
كما يتحدّث السكانُ في ناحيةِ اليعربية بالحسكة عن تشوّهاتٍ خُلقيةٍ تطال بعضَ الأطفالِ المولودين، وعن نِسَبٍ مرتفعةٍ بإصاباتِ الاختناقِ نتيجةَ الدخانِ المُشبَعِ بالغازاتِ السامّةِ الذي يسود تلك القرى، والمُنبعثِ من “حرّاقاتِ النفط” القريبةِ من المناطقِ السكنية.
وللأسف، لا توجد إحصائياتٌ حقيقيةٌ لأعدادِ المصابينَ بالسرطانِ في المحافظاتِ الشرقيةِ بسوريا، إلا أن النِّسَبَ الكبيرةَ من المرضى الذين يُراجعون مشافي العاصمة “دمشق” تكشف جانبًا مرعبًا من مدى حجمِ الكارثةِ الإنسانيةِ التي تُهيمن على شرقي البلاد، بالأخص أن المصابين ينحدرون من محافظتَين رئيسيتَين هما دير الزور والحسكة.
في العاصمةِ دمشق، وفي ساحةِ “المرجة” الشهيرة، يُلفت الانتباهُ لمناظرِ العشراتِ من الأشخاصِ القادمين من شرقي سوريا، وهم يفترشون الأرصفةَ في الساحةِ وفي الأماكنِ العامةِ حولها. الغالبيةُ العظمى منهم هم مرضى جاؤوا من محافظاتِ دير الزور، والحسكة، والرقة، بقصدِ العلاجِ في مشافي العاصمة، حيث إن الوضعَ الصحيَّ في تلك المحافظاتِ متدهورٌ جدًّا، ونسبةً كبيرةً منهم من مرضى السرطان.
التقينا حينها بـ قاسم، وهو شابٌ في مقتبلِ العمر من دير الزور، قدِم مع زوجته وطفليه بقصدِ الحصولِ على جرعةٍ للكيماوي، كونه مُصابًا بورمٍ دماغي. في العام 2013، عمِلَ الشاب على حرّاقةٍ للنفط في شرقِ دير الزور، وبقي يعمل فيها لمدةِ ثلاثةِ أعوام، ثم بدأت صحتُه تتدهور.
يقول قاسم: “نوباتُ الصرعِ لم تفارقني، ولم أتمكن حينها من الكشفِ عن المرض إلا بعد وصولي إلى تركيا كلاجئ، بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على المنطقة عام 2014. وهناك، خضعتُ لعمليتين في الدماغ، لكن دون جدوى، وأخبرني الطبيب أن الورم ناجمٌ عن تعرضي لإشعاعات، بالغالب”.
بقي قاسم هناك حتى العام 2024، وعندما تفاقمت العنصرية ضد السوريين في تركيا، قامت دوريةٌ للشرطة في أنقرة بتوقيفِه، ثم ترحيلِه إلى سوريا، بالرغم من وضعِه الصحيِّ المتدهور.
في دير الزور، في القسمِ الخاضعِ لسيطرةِ ميليشيا “قسد”، لا يختلف الحال كثيرًا عن المرضى في مناطقِ سيطرةِ الحكومة السورية؛ ثمة شريحةٌ كبيرةٌ من المرضى علاجُها غيرُ متوفرٍ أبدًا في سوريا.
رحلة العلاج
في مشفى “البيروني” المتخصصِ بمعالجةِ الأورام السرطانية بدمشق، يمكن لأيِّ زائرٍ للمكانِ ملاحظةُ أن النسبةَ الأكبرَ من المصابينَ بالمرضِ هم من شرقي سوريا. يقول غسان، ذو الـ 45 عامًا، إنه يتعالج في المكان منذ عام تقريبًا، وبلغت كلفةُ علاجِه حتى اليوم أكثرَ من 70 مليون ليرةٍ سورية، حيث اضطر لبيعِ قطعةِ أرضٍ قبل التوجهِ إلى العاصمةِ دمشق وتأمينِ كلفةِ العلاج.
وخلالَ سيطرةِ النظامِ السابق، كانت رحلةُ العلاجِ شاقةً فعليًّا. يضيف غسان: “غالبيةُ الأدويةِ الخاصةِ بالسرطان، والتي كانت متوفرةً حينها، هي بغالبيتِها منتهيةُ الصلاحية، ويضطرُّ المرضى لشراءِ الدواء من سماسرةٍ خارج مشفى “البيروني”. ممرضونَ داخلَ المشفى متفقون مع صيدلياتٍ مجاورة، وهي من تبيعُ جرعاتِ الكيماوي بأسعارٍ مضاعفة، حيث تتفق تلك الصيدليات مع مسؤولين في “البيروني” وأعضاء في وزارةِ الصحة، لتجميدِ وصولِ الأدويةِ إلى المشفى. وكذلك، يقومون بسرقةِ الجرعاتِ من داخلِ المشفى وبيعِها في تلك الصيدليات بأسعارٍ مضاعفة”.
بعد (12) يومًا من لقائنا الأول بقاسم، علمنا أنه دخل العنايةَ المركزةَ في أحدِ مشافي دمشق الخاصة، فذهبنا لزيارته هناك. تتحدث زوجتُه أنه اضطر للخضوعِ لعملٍ جراحيٍّ في الدماغ، وبلغت كلفةُ بقائِه في المشفى أكثرَ من 10 آلافِ دولار خلال أسبوعٍ فقط، الليلةُ الواحدةُ في غرفةِ العنايةِ تصل إلى 400 دولارٍ أميركي، واضطرت عائلتُه لجمعِ المالِ من أقاربه في الخارج. لم يمضِ يومان على تلك الزيارة حتى علمنا أنه توفّي في المشفى.
في شرقِ سوريا عمومًا، وديرِ الزور خصوصًا، تشرحُ سماءُ المنطقةِ السوداءُ وأطلالُ الدمارِ حالَ تلك المناطقِ البائسةِ التي تُشبه المقابر. وتفاقمُ ميليشيا «قسد» اليوم بسياساتها وضعَ السكانِ المتدهورَ أصلًا. ليس الدمارُ الناجمُ عن القصفِ الروسيِّ وقصفِ النظامِ والتحالفِ هو فقط مَن دمّر حياةَ السكان، بل ما زال الدمارُ متواصلًا بفعلِ التلوثِ والإشعاعاتِ الناجمةِ عن النفط. جميعُ المحروقاتِ المتوفرةِ في الأسواقِ هي من إنتاجِ “حرّاقاتِ النفطِ القاتلة” وبطرقٍ بدائيةٍ، والمواد، سواء “المازوت والبنزين”، غيرُ نظاميةٍ وصحيّةٍ بالمطلق.
وفي الحسكة ودير الزور، تجثمُ القرى الصغيرةُ فوق أراضٍ ملوثةٍ بالنفط؛ الأراضي الزراعية، والمياه، والهواء، كلُّه ملوّث. وهذا ما يفسّر النِّسبَ الهائلةَ من مرضى السرطان، والذين تتصدرُهم تلك المحافظات.
تحتاجُ المنطقةُ لتدخّلٍ عاجلٍ وحاسمٍ لوقفِ هذه الممارساتِ القاتلة، لكنّ الوضعَ السياسيَّ في الجزيرة، مثلًا، لا يخدم اليوم، في ظلِّ تعنّتِ ميليشيا “قسد” في الاندماجِ مع الحكومةِ السورية. أمّا في دير الزور، حيث تسيطر الحكومة، فتحتاجُ المنطقةُ إلى دعمٍ كبيرٍ في قطاعِ الصحة؛ الواقعُ الصعبُ اليوم يضعُ الحكومةَ الحاليةَ في مهمّةٍ عسيرة، حيث ورثت العديدَ من الكوارث، وعلى رأسِها القطاعُ الصحيُّ المُتهالكُ والفاسدُ منذ عقود.
المباني المستخدمةُ كمستشفياتٍ في دير الزور، في غالبيتِها، مدمّرةٌ وأطلالٌ، والأجهزةُ الطبيةُ مفقودةٌ، وجرعاتُ السرطان يتعذّرُ الحصولُ عليها، مع ذلك في أغسطس/آب الماضي، افتتحت وزارةُ الصحةِ السوريةُ، بدعمٍ من الجمعيةِ الطبيةِ السوريةِ الأميركية “SAMS”، مركزَ الدمِ والأورامِ في المنطقة، وهو الأولُ من نوعِه في المحافظة. ولكن ما تزالُ دير الزور بحاجةٍ لما هو أكبرُ من مركزٍ، نظرًا للعددِ الكبيرِ من المرضى.