تتداول إدارة ترامب خطة لما بعد الحرب في غزة، تستند إلى تعهده بـ”السيطرة” على القطاع، وتقضي بتحويله إلى منطقة خاضعة لوصاية الولايات المتحدة لمدة لا تقل عن عشر سنوات، يتم خلالها تحويله إلى منتجع سياحي فاخر ومركز متطور للتصنيع والتكنولوجيا.
وتتضمن الوثيقة المكونة من 38 صفحة، والتي اطّلعت عليها صحيفة “واشنطن بوست”، تصوّرًا لإعادة توطين مؤقت لأكثر من مليوني نسمة، إما من خلال ما تصفه بـ”المغادرة الطوعية” إلى دول أخرى، أو عبر نقلهم إلى مناطق مغلقة ومؤمنة داخل القطاع خلال فترة إعادة الإعمار.
سيعرض الصندوق رمزا رقميا على أصحاب الأراضي في غزة مقابل حقوق إعادة تطوير ممتلكاتهم، يمكنهم استخدامه للعيش في مكان آخر، أو استبداله لاحقًا بشقة في واحدة من ست إلى ثماني “مدن مدعومة بالذكاء الاصطناعي” سيتم بناؤها في غزة. كما يُمنح كل فلسطيني يختار المغادرة مبلغًا قدره 5,000 دولار، بالإضافة إلى إعانات لتغطية تكاليف السكن لمدة أربع سنوات في مكان آخر، وعام كامل من المساعدات الغذائية.
وتُقدّر الخطة أن مغادرة كل فرد من غزة توفر على الصندوق مبلغًا قدره 23,000 دولار، مقارنةً بتكلفة الإسكان المؤقت وخدمات “دعم الحياة” في المناطق الآمنة لأولئك الذين يقررون البقاء.
ويُطلق على هذا المشروع اسم “صندوق إعادة إعمار غزة وتسريع النمو والتحول الاقتصادي”، أو اختصارًا “GREAT Trust” (غريت تراست)، وقد قام بصياغته عدد من الإسرائيليين الذين أطلقوا مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي توزع الغذاء حاليًا داخل القطاع. وقد تولّى التخطيط المالي فريق عمل كان في تلك الفترة يعمل لصالح مجموعة بوسطن الاستشارية.
تحدثت مصادر مطلعة على عملية التخطيط للصندوق وعلى مداولات الإدارة الأمريكية بشأن غزة ما بعد الحرب عن هذا الموضوع الحساس بشرط عدم الكشف عن هوياتهم، وأحال البيت الأبيض الأسئلة إلى وزارة الخارجية التي امتنعت عن التعليق. وأفادت مجموعة بوسطن الاستشارية بأنها لم تمنح الضوء الأخضر للعمل على خطة الصندوق، وأن اثنين من كبار الشركاء الذين قادوا النمذجة المالية تم فصلهم لاحقًا.
عقد ترامب اجتماعًا في البيت الأبيض يوم الأربعاء الماضي لمناقشة الأفكار المطروحة لإنهاء الحرب التي تقترب الآن من عامها الثاني، وما الذي سيأتي بعدها. شارك في الاجتماع وزير الخارجية ماركو روبيو، والمبعوث الرئاسي الخاص ستيف ويتكوف، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي طلبت الإدارة الأمريكية آراءه بشأن مستقبل غزة، بالإضافة إلى صهر ترامب جاريد كوشنر، الذي تولّى العديد من المبادرات المتعلقة بالشرق الأوسط خلال فترة ولاية الرئيس الأولى، وله مصالح خاصة واسعة في المنطقة.
ولم يصدر أي بيان رسمي بشأن الاجتماع أو القرارات التي تم اتخاذها خلاله، رغم أن ويتكوف صرّح في الليلة السابقة للاجتماع بأن الإدارة لديها “خطة شاملة للغاية”.
لم يتضح بعد ما إذا كانت خطة “صندوق إعادة إعمار غزة وتسريع النمو والتحول الاقتصادي” المفصلة والشاملة هي ما يدور في ذهن ترامب. لكن وفقًا لمصدرين مطلعين على الخطة، فقد تم تصميم أجزاء رئيسية منها خصيصًا لتحقيق رؤية الرئيس في تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
ومن أبرز ما يُروّج له في الخطة أنها لا تتطلب تمويلاً من الحكومة الأمريكية، وتُقدم أرباحًا كبيرة للمستثمرين. وعلى عكس مؤسسة غزة الإنسانية المثيرة للجدل والتي تعاني أحيانًا من نقص التمويل، وتستخدم متعاقدين أمنيين أمريكيين مسلحين لتوزيع الغذاء في أربعة مواقع جنوب غزة، فإن خطة الصندوق “لا تعتمد على التبرعات”، حسب الوثيقة. سيتم تمويل الصندوق من خلال استثمارات من القطاعين العام والخاص في ما يُسمى “المشاريع الضخمة”، من مصانع السيارات الكهربائية ومراكز البيانات إلى المنتجعات الشاطئية والمباني السكنية الشاهقة.
وتتضمن الحسابات الواردة في الخطة توقعات بعائد يقارب أربعة أضعاف على استثمار بقيمة 100 مليار دولار خلال عشر سنوات، مع تدفق إيرادات مالية مستمرة “تُولد ذاتيًا”. وقد كانت صحيفة “فاينانشال تايمز” أول من نشر بعض الفقرات من هذه الخطة.
وقال أحد المطلعين على المناقشات الداخلية في الإدارة الأمريكية: “أعتقد أن [ترامب] سيتخذ قرارًا جريئًا عندما تنتهي المعارك”، مضيفًا: “هناك سيناريوهات مختلفة يمكن أن تتجه إليها الحكومة الأمريكية، وذلك حسب ما ستؤول إليه الأمور”.

مشاريع متعددة لمستقبل غزة
تدفقت المقترحات بشأن مستقبل غزة بعد الحرب منذ الأيام الأولى لاندلاعها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حينما شنّ مسلحو حركة حماس هجومًا على جنوب إسرائيل، أسفر عن مقتل نحو 1,200 شخص وأسر حوالي 250 آخرين.
ومع استمرار الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي حوّل القطاع إلى أنقاض بشكل ممنهج، متسببًا في تهجير مئات الآلاف من السكان، ومقتل أكثر من 60,000 فلسطيني، وتعرض ما يقرب من نصف مليون لما وصفه أحد مراقبي الأزمات العالمية بأنه “جوع كارثي”، بدأ الأكاديميون ومراكز الأبحاث والمنظمات الدولية والحكومات والأفراد في تقديم رؤى ومقترحات لإعادة إعمار غزة وإدارتها.
في وقت مبكر من الحرب، ظهرت في إسرائيل مقترحات لإنشاء مناطق خالية من حماس أو ما يُعرف بـ”الفقاعات”، تكون تحت حماية الجيش الإسرائيلي داخل غزة؛ حيث يمكن للفلسطينيين تلقي المساعدات الإنسانية والبدء تدريجيًا في إدارة شؤونهم مع اقتراب نهاية الصراع.
وفي يناير/ كانون الثاني، قبل أقل من أسبوع على تولي الرئيس ترامب منصبه، قدّم وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، أنتوني بلينكن، رؤية إدارة بايدن لما بعد الحرب، والتي تضمنت إنشاء “إدارة مؤقتة” لغزة تحت إشراف الأمم المتحدة، على أن يتولى الأمن فيها فلسطينيون تم التحقق من خلفياتهم، إلى جانب دول شريكة لم يحددها، على أن تُنقل إدارة القطاع لاحقًا إلى السلطة الفلسطينية “بعد إصلاحها”.
وقد طرحت السلطة الفلسطينية ومصر والإمارات العربية المتحدة خططًا أخرى، وقد أيد القادة العرب المقترح المصري في القمة التي عُقدت في مارس/ آذار الماضي، والذي ينص على تشكيل حكومة من التكنوقراط في غزة إلى جانب مسؤولين من السلطة الفلسطينية بتمويل من دول الخليج. كما ناقش المسؤولون في القاهرة إمكانية نشر قوات حفظ سلام عربية، وأشاروا إلى أن أفرادًا من قوات شرطة غزة، التي تم تفكيكها إلى حد كبير، يخضعون لتدريبات في مصر لتولي مهام الأمن بعد نزع سلاح حماس.
رفضت كل من إسرائيل والولايات المتحدة – وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تحدثتا علنًا عن احتمال نقل سكان القطاع مؤقتًا خارج غزة – المقترح العربي.
وقد أجرى متعاقدون أمنيون أمريكيون يعملون لصالح “مؤسسة غزة الإنسانية” محادثات مع إسرائيل وشركاء محتملين في المجال الإنساني حول خطة لتطهير غزة من الذخائر غير المنفجرة والأنقاض، وتأمين مناطق يعيش فيها الفلسطينيون مؤقتًا كجزء من خطة إعادة الإعمار.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فلم يطرح رؤية واضحة لمستقبل غزة، سوى تأكيده على ضرورة نزع سلاح حماس وإعادة جميع الرهائن. وقد شدد على أن إسرائيل يجب أن تحتفظ بالسيطرة الأمنية على غزة، ورفض أي إدارة مستقبلية للقطاع من السلطة الفلسطينية، كما رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية.
تقول إسرائيل إنها تسيطر الآن على 75 بالمائة من القطاع، وقد وافقت الحكومة على شن هجوم جديد للسيطرة على ما تبقى منه.
دعا وزراء من اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو الائتلافية إلى احتلال إسرائيلي دائم لقطاع غزة. وقال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي طالب بضم القطاع وإعادة توطين الإسرائيليين فيه، في مؤتمر صحفي عُقد يوم الخميس: “يجب على إسرائيل أن تسيطر بالكامل على القطاع بأكمله، إلى الأبد. سنقيم منطقة أمنية ونفتح أبواب غزة للهجرة الطوعية”.
وفي الأسابيع الأخيرة، صرّح نتنياهو بأنه يعتزم السيطرة على غزة ويجعلها خالية من حماس، لكنه أضاف: “لا نريد الاحتفاظ بها”.
البحث عن دول مضيفة
لطالما كان موضوع ترحيل الفلسطينيين من غزة – سواء بالإقناع أو التعويض أو القوة – محل جدل في السياسة الإسرائيلية منذ أن انتزعت إسرائيل القطاع من السيطرة المصرية واحتلته خلال حرب عام 1967. وقد عاش المستوطنون الإسرائيليون جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين هناك حتى عام 2005، حينما نص اتفاق سلام على مغادرتهم. أدى الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى صراع على السلطة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس، التي تمكنت من السيطرة على غزة بعد فوزها بالأغلبية البرلمانية في انتخابات عام 2006، وهي آخر انتخابات أُجريت في القطاع.
استمر هذا الوضع غير المستقر مع نشوب العديد من الحروب القصيرة بين إسرائيل وحماس وصولا إلى هجوم 2023، عندما اخترق آلاف المسلحين الحاجز الأمني الإسرائيلي الذي يحيط بغزة من جميع الجهات باستثناء حدودها الجنوبية الضيقة مع مصر، وباغتوا الجيش الإسرائيلي وقتلوا المدنيين.
وقد صرّح نتنياهو بأن إسرائيل “تتحدث إلى عدة دول” بشأن استقبال الفلسطينيين الذين سيتم ترحيلهم من غزة، ومن بين الدول التي ذُكرت كخيارات محتملة: ليبيا، إثيوبيا، جنوب السودان، إندونيسيا، وأرض الصومال. وجميع هذه الدول، باستثناء إندونيسيا – التي سبق أن أعلنت استعدادها لاستقبال بضعة آلاف من الفلسطينيين مؤقتًا للعمل أو العلاج – تقع في أفريقيا وتعاني من صراعات داخلية وتدهور أوضاع المدنيين.
تعيش ليبيا صراعا بين حكومتين متنافستين، بينما تشهد إثيوبيا حربًا أهلية متقطعة وصراعًا مع جيرانها. وقد أعلنت إسرائيل، التي قيدت المساعدات الإنسانية إلى غزة، أنها سترسل مساعدات طبية وإمدادات إنسانية إلى جنوب السودان هذا الشهر.
ولم تعترف أي دولة بأرض الصومال، وهي محمية بريطانية سابقة أعلنت استقلالها من جانب واحد عن الصومال الذي مزقته الحرب في عام 1991. وبعد أن عرضت حكومتها استقبال الفلسطينيين مقابل الاعتراف بالدولة، قال ترامب للصحفيين في وقت سابق من هذا الشهر “نحن ندرس ذلك حاليًا”.
ترامب يطرح رؤيته
خلال حملته الانتخابية عام 2024، صرّح ترامب بأنه سيوقف حرب غزة بسرعة، ولكن عندما تناول هذا الموضوع بعد توليه الرئاسة، ركّز في الغالب على كيفية توظيف خبراته كمطور عقاري بمجرد مغادرة سكان غزة القطاع.
وقال ترامب للصحفيين أثناء توقيعه مجموعة من الأوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي بعد يومين من تنصيبه: “نظرت إلى صورة لغزة، إنها أشبه بموقع هدم ضخم. يجب إعادة بنائها بطريقة مختلفة”. وأضاف أن غزة “موقع رائع.. تطل على البحر، وأجواؤها مثالية، كل شيء جيد. يمكن القيام بأشياء جميلة هناك”.
وبعد أسبوعين، قال ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “ستتولى الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة”، ووصف ذلك بأنه “ملكية طويلة الأمد”، مضيفًا أن كل من تحدث إليهم حول هذا الأمر “أحبوا الفكرة”.
وقال ترامب: “لقد درست هذا الأمر عن كثب على مدار أشهر طويلة، واطلعت عليه من جميع الزوايا الممكنة. لا أريد أن أبدو شخصًا ذكيًا، لكن ريفييرا الشرق الأوسط قد تكون شيئًا رائعًا للغاية”.
ابتسم نتنياهو واصفًا الأمر بأنه “رؤية جريئة”، مؤكّدًا أن إسرائيل والولايات المتحدة لديهما “استراتيجية مشتركة”.
وعندما سُئل ترامب في وقت لاحق من ذلك اليوم، خلال مقابلة مع قناة فوكس نيوز، عن إمكانية عودة سكان غزة بعد إعادة الإعمار، أجاب: “لا، لن يعودوا، لأنهم سيحصلون على مساكن أفضل في مكان آخر”.
وفي غضون ساعات، تراجع وزير الخارجية ماركو روبيو والمتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت عن تلك التصريحات. وأوضح روبيو أن جزءًا من “المقترح السخي” الذي قدّمه ترامب يتضمن ضرورة إيجاد مكان مؤقت لإقامة الفلسطينيين “خلال فترة إعادة الإعمار”. ومن جهتها، شددت ليفيت على أن “الرئيس أوضح أن الفلسطينيين بحاجة إلى إعادة توطين مؤقت خارج غزة”.
وبعد أسبوع واحد فقط، عاد ترامب للحديث عن الموضوع خلال جلسة في المكتب البيضاوي بحضور الملك عبد الله الثاني ملك الأردن، الذي بدا عليه الانزعاج. وقال ترامب في إشارة إلى غزة: “مع سيطرة الولايات المتحدة على تلك القطعة من الأرض، سيكون هناك استقرار في الشرق الأوسط لأول مرة. أما الفلسطينيون، أو من يعيشون الآن في غزة، فإنهم سيعيشون بشكل جميل في مكان آخر”.
وبعد تعهده في فبراير/ شباط بالسيطرة على غزة، نشر ترامب مقطع فيديو مُولّد بالذكاء الاصطناعي على حسابه في منصة “تروث سوشيال”، يُجسّد رؤيته المستقبلية للقطاع. ويبدأ الفيديو بمشاهد لأطفال يبحثون بين الأنقاض وسط مسلحين يحملون البنادق، ثم يتحوّل بسرعة إلى مشهد خيالي لمدينة ساحلية متلألئة، تضم أبراجًا شاهقة وشواطئ نظيفة وأموالًا تتساقط من السماء. ويظهر ترامب ونتنياهو وهما يستجمان على شاطئ غزة، بينما يتوسط المشهد تمثال ذهبي ضخم لترامب يطلّ على مدينة نابضة بالحياة والنظام.
يصاحب الفيديو أغنية تقول كلماتها: “دونالد قادم ليحرّركم.. يجلب البهجة لكل ما ترونه. لا مزيد من الأنفاق، لا مزيد من الخوف.. غزة ترامب تحققت أخيرًا”.
وفي ظل موجة الغضب العربي والاتهامات الواسعة بأن أي عملية ترحيل قسري تُعدّ انتهاكًا للقانون الدولي، شدّد كل من ترامب ونتنياهو مؤخرًا على أن أي إعادة توطين للفلسطينيين بعد الحرب ستكون طوعية، ومؤقتة إذا اختار الفلسطينيون ذلك. وفي الوقت نفسه، شرعت إسرائيل في حصار حوالي 2 نسمة في شريط ساحلي ضيّق في الجنوب، بينما تستعد لشنّ هجومها العسكري في شمال غزة، وتحديدًا في مدينة غزة.
تُقدّر الأمم المتحدة أن 90 بالمائة من المساكن في القطاع قد دُمِّرت. وتبقى مسألة التعامل مع سكان غزة خلال فترة إعادة الإعمار، ومن سيتولى إدارة القطاع مستقبلًا، من القضايا المحورية بغض النظر عن الخطة التي سيتم اعتمادها.
وقال يوسف منير، الباحث البارز في المركز العربي في واشنطن: “حجم الدمار هائل وغير مسبوق، حتى في سياق الحديث عن غزة. يتطلب الوضع استجابة عاجلة، ومشروع إعادة الإعمار سيكون ضخمًا للغاية، بينما تبقى الأسئلة السياسية أكثر غموضًا من أي وقت مضى”.
مشروع “ريفييرا” الجديدة
كان تعهّد ترامب في فبراير/ شباط بالسيطرة على غزة وإعادة إعمارها بمثابة ضوء أخضر وخارطة طريق لمجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين، بقيادة رجل الأعمال الإسرائيلي الأمريكي مايكل آيزنبرغ، وضابط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق ليران تانكمان. وبحسب مصادر مطّلعة على الخطة، فقد سلّم هؤلاء المستثمرون مشروع “مؤسسة غزة الإنسانية” إلى الجهات المنفّذة، وانتقلوا للتركيز على مرحلة ما بعد الحرب، بالتشاور مع خبراء دوليين في الشؤون المالية والإنسانية، ومستثمرين محتملين، بالإضافة إلى عدد من الفلسطينيين.
بحلول فصل الربيع، كان فريق من “مجموعة بوسطن للاستشارات”، ومقرها واشنطن، والتي تم التعاقد معها بشكل مستقل للعمل مع المقاول الأمريكي الرئيسي المسؤول عن برنامج توزيع الغذاء التابع لمؤسسة غزة الإنسانية، تعمل على إعداد خطط تفصيلية ونماذج مالية خاصة لـ”صندوق إعادة إعمار غزة وتسريع النمو والتحول الاقتصادي”.
ورفض كل من آيزنبرغ وتانكمان التعليق. وأفاد مصدر مطّلع على عملية التخطيط بأن الوثيقة الترويجية أُنجزت في شهر أبريل/ نيسان، ولم يطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة منذ ذلك الحين، مع وجود مساحة واسعة لإجراء تعديلات محتملة.
وقال المصدر: “الأمر ليس إلزاميًا، بل يستكشف ما يمكن تحقيقه. يجب تمكين سكان غزة من بناء واقع جديد، كما قال الرئيس، ومنحهم فرصة لحياة أفضل”.
وقارن مطّلعون على هذه المبادرة، في كل من واشنطن وإسرائيل، بين المشروع المقترح وبين نظام الوصاية الأمريكية على جزر المحيط الهادئ بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك بالأدوار السياسية والاقتصادية التي اضطلع بها الجنرال دوغلاس ماكارثر في اليابان، ووزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال في ألمانيا.
حظيت مناطق الوصاية الأمريكية في المحيط الهادئ بموافقة الأمم المتحدة، لكن يُستبعد أن توافق على علاقة وصاية مماثلة في غزة. مع ذلك، يؤكد مخططو المشروع الحالي أن إسرائيل، بموجب مبدأ القانون الدولي العرفي، المعروف بـ”مبدأ الحدود الموروثة”، وبالنظر إلى القيود المفروضة على الحكم الذاتي الفلسطيني بموجب اتفاقيات أوسلو لعام 1993، تحتفظ بالسيطرة الإدارية على الأراضي المحتلة ولها صلاحية التنازل عنها.
وورد في وثيقة مشروع الوصاية، أن إسرائيل ستقوم بنقل “الصلاحيات والمسؤوليات الإدارية في غزة إلى صندوق (غريت تراست) بموجب اتفاق ثنائي بين الولايات المتحدة وإسرائيل”، على أن “يتطور” هذا الترتيب لاحقًا إلى وصاية رسمية. وتتوقع الوثيقة أن تُسهم “دول عربية ودول أخرى” في استثمارات مستقبلية من شأنها تحويل هذا المشروع إلى “مؤسسة متعددة الأطراف”. وفي المقابل، اعتبر مسؤولون في إدارة ترامب أن إصرار الحكومات العربية، لا سيما في منطقة الخليج، على أن دعمها لأي خطة لما بعد الحرب مشروط بقيام دولة فلسطينية، لا يعدو كونه خطابًا دعائيا.
ستحتفظ إسرائيل بـ”حقوق شاملة لتلبية احتياجاتها الأمنية” خلال السنة الأولى من تنفيذ الخطة، في حين ستتولى جهات أمنية داخلية غير محددة، من “رعايا دول ثالثة” ومتعاقدين عسكريين من دول غربية، مسؤولية الأمن الداخلي بشكل شبه كامل. ومن المقرر أن يتراجع دور هذه الجهات تدريجيًا على مدى عشر سنوات، مع انتقال المهام الأمنية تدريجيًا إلى “شرطة محلية” مدرّبة.
وسيتولى صندوق الوصاية إدارة قطاع غزة لعدة سنوات، يُقدَّر أن تصل إلى 10 سنوات، وذلك “إلى حين إعداد سلطة فلسطينية معدّلة وغير متطرفة لتولي زمام المسؤولية”.
ولا تتضمن الوثيقة أي إشارة إلى قيام دولة فلسطينية مستقبلًا. ووفقًا لما ورد في الوثيقة، فإن الكيان الفلسطيني المبهم “سينضم إلى اتفاقات أبراهام”، وهي المبادرة التي أطلقها ترامب خلال ولايته الأولى، وأسفرت عن إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وأربع دول عربية. وقد صرّح ترامب بأنه يتوقع توسيع هذه الاتفاقات قبل مغادرته منصبه.
وتشير الخطة إلى موقع غزة باعتباره “نقطة التقاء” في منطقة يُتوقع أن تصبح “حليفة للولايات المتحدة”، ما يمنح واشنطن حق الوصول إلى موارد الطاقة والمعادن الحيوية، ويجعل من القطاع مركزًا لوجستيًا لممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا الاقتصادي، الذي أُعلن عنه لأول مرة خلال إدارة بايدن، لكنه تعرّض لانتكاسة بسبب حرب إسرائيل وغزة.
ستبدأ عملية إعادة إعمار غزة بإزالة كميات هائلة من الركام والذخائر غير المنفجرة، إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية والخدمات الأساسية، بما في ذلك شبكة الكهرباء.
سيتم تمويل التكاليف الأولية باستخدام 30 بالمائة من أراضي غزة كضمان، وهي النسبة التي يقول المخططون إنها “ملكية عامة”، وستؤول مباشرة إلى صندوق الوصاية. وعلّق تانكمان في هامش إحدى الوثائق التي اطّلعت عليها صحيفة واشنطن بوست قائلاً: “هذه هي الأكبر والأسهل. لا حاجة لطلب الإذن من أحد”. رد عليه آيزنبرغ في مذكرة قائلاً: “أخشى أن أكتب ذلك، لأنه قد يبدو وكأنه استيلاء على الأراضي”.
وتشمل “المشاريع الضخمة” الممولة من المستثمرين تعبيد طريق دائري وخط ترام حول محيط قطاع غزة، أطلق عليه المخططون اسم “طريق إم بي إس السريع” تيمّنًا بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في خطوة يُنظر إليها على أنها مفتاح لقبول الخطة إقليميا.
كما يتضمن المخطط إنشاء طريق حديث يمتد من الشمال إلى الجنوب عبر وسط القطاع، يحمل اسم رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. ومن المقرر أيضًا بناء ميناء ومطار جديدين في أقصى جنوب غزة، مع روابط برية مباشرة نحو مصر والسعودية وإسرائيل.
تلتزم كل من السعودية والإمارات في العلن بالمبادرة المصرية بشأن غزة وإقامة دولة فلسطينية، دون أي مؤشرات تفيد بموافقتهما على أي من عناصر خطة صندوق الوصاية.
ويتضمن تصور صندوق “غريت تراست” إنشاء محطة لتحلية المياه ومزرعة للطاقة الشمسية في شبه جزيرة سيناء المصرية، بهدف تزويد غزة بالمياه والكهرباء. كما يتضمن المشروع تحويل حدود القطاع الشرقية مع إسرائيل إلى منطقة صناعية “ذكية”، تضم شركات أمريكية لصناعة المركبات الكهربائية ومراكز بيانات إقليمية تخدم إسرائيل ودول الخليج. أما الواجهة البحرية الغربية، فإنها ستُخصص لما يُعرف بـ”ريفييرا ترامب غزة”، والتي ستضم منتجعات عالمية، مع إمكانية إنشاء جزر اصطناعية مشابهة لتلك المصممة على شكل نخلة قبالة سواحل مدينة دبي.
وفي قلب القطاع، بين المنتجعات الساحلية والمنطقة الصناعية التي من المتوقع حسب المشروع أن توفر مليون فرصة عمل، سيتم تشييد مبانٍ يصل ارتفاعها إلى عشرين طابقًا، تشكّل ما بين 6 إلى 8 “مدن ذكية منظمة، ديناميكية، حديثة، ومدعومة بالذكاء الاصطناعي”. وتشمل هذه المناطق متعددة الاستخدامات “وحدات سكنية، ومرافق تجارية، ومراكز صناعات خفيفة، ومرافق أخرى، بما في ذلك عيادات ومستشفيات ومدارس وغيرها”، تتخللها “مساحات خضراء، بما في ذلك أراضٍ زراعية وحدائق وميادين للغولف”.
وسيتم عرض فرصة امتلاك شقق سكنية جديدة بمساحة 1,800 قدم مربع على العائلات الغزّية التي تبقى في القطاع، أو تغادر ثم تعود بعد الانتهاء من بناء المناطق السكنية، مقابل رموز الأراضي التي حصلت عليها في البداية. وتُقدّر الخطة قيمة كل شقة بـ75,000 دولار أمريكي.
وقال عادل حق، أستاذ القانون والخبير في النزاعات المسلحة بجامعة روتجرز، إن أي خطة تُمنع فيها عودة الفلسطينيين إلى منازلهم، أو يُحرمون فيها من الغذاء والرعاية الطبية والمأوى بشكل كافٍ، تُعد غير قانونية، بغض النظر عن أي حوافز مالية تُعرض مقابل مغادرتهم.
وقال أبو محمد (55 عاما)، في اتصال عبر تطبيق واتساب من غزة يوم السبت، إنه رغم الوضع الكارثي، فإنه لن يغادر أبدًا. وأضاف: “أقيم الآن في منزل مدمّر جزئيًا في خان يونس، لكن يمكننا ترميمه. أرفض أن يُجبروني على الذهاب إلى بلد آخر، سواء كان مسلمًا أم لا. فهذه أرضي، وهذا وطني”.
المصدر: واشنطن بوست