منذ اندلاع حرب الجنرالات في السودان أبريل/نيسان 2023، وتنظر القاهرة بعين القلق والترقب للمشهد السوداني المرتبك في معظمه، غير أن هذا القلق تصاعد بشكل لافت خلال الأسابيع القليلة الماضية مع الحديث عن نية قائد ميليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) إعلان حكومة موازية في المناطق التي يسيطر عليها في إقليم دارفور (غرب).
ومع مساء السبت 30 أغسطس/آب 2025 فاجأ حميدتي الجميع، حين خرج مؤديًا اليمين الدستورية، كرئيس لما عرف بالمجلس الرئاسي لحكومة تحالف السودان الجديد “تأسيس”، في مدينة نيالا بإقليم دارفور، معلنًا عن تشكيل حكومة موازية تحت مسمى “حكومة السلام والوحدة” تضم 15 عضوًا، وتهدف بحسب زعمه إلى توفير الخدمات الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم، مثل دارفور وأجزاء من كردفان والنيل الأزرق.
تؤمن القاهرة تمامًا أن مثل هذا التحرك إنما هو بداية لفتح الباب على مصراعيه أمام شياطين الفوضى، ووضع السودان فوق فوهة بركان التقسيم، وأن الحياد لم يعد خيارًا موضوعيًا، بعدما بات الفناء الخلفي للدولة المصرية خنجرًا في الظهر، وكابوسًا قد يؤرق الأمن المصري ويضع استقراره على المحك.
فالسودان بالنسبة لمصر ليس مجرد جار تجمعه عوامل الجغرافيا والتاريخ، بل امتداد طبيعي للأمن القومي والمجتمعي، وخط الدفاع الاستراتيجي الأول، والحديقة الخلفية التي ظلت لعقود طويلة جدارًا صلبًا أمام أي تهديدات أو اختراقات، الأمر الذي يضع المصريين في مأزق حقيقي، فأي السيناريوهات والخيارات أمام القاهرة للتعاطي مع هذا التطور اللافت؟
شبح الانقسام وكابوس الجنوب
فرص سيناريو التقسيم نفسه على المشهد السوداني منذ اندلاع الحرب الدامية بين الجيش وميليشيا حميدتي، في مشهد يعيد للأذهان تجارب مريرة مشابهة في المنطقة، مثل الصومال واليمن وليبيا، الأمر الذي أثار القلق والمخاوف، ليس لدى الداخل السوداني فحسب، بل دول الإقليم التي تتمتع بخارطة جيوسياسية متشابكة مع الدولة السودانية.
كما أن تجربة السودان مع التقسيم والتشظي غريبة، كان أخرها عام 2011 حين انفصل الجنوب بعد حرب ضروس، هذا بخلاف البيئة المناسبة لنمو سرطان التفتت، حيث استمرار الصراعات الإثنية والعرقية والقبلية في كردفان ودارفور وغيرها.
هذا بخلاف العديد من العوامل الداخلية المغذية للتفكك، منها الانقسام العسكري والسياسي وصراع النفوذ بين الجنرالات، عبدالفتاح البرهان وفريقه من جانب، وحميدتي وعصابته من جانب أخر، قوتان لكل منهما نفوذها وممولها ورعاتها، تتنازعان الشرعية، بالقوة العسكرية تارة، وبالدعم الخارجي تارة أخرى.
ومنها كذلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة والأوضاع الإنسانية المزرية التي يعاني منها السودانيون خاصة في المناطق البعيدة عن دوائر الاهتمام الرسمي، على الأطراف خارج نطاق العاصمة، والتي تمثل في حقيقتها أرضًا خصبة للاضطراب والانفلات.
كل تلك العوامل مجتمعة، إلى جانب إعلان حكومة موازية بقيادة حميدتي، تعني عمليًا تكريس سلطة ثنائية، وهو ما يُقرب السودان خطوة أخرى من سيناريو التفكك الشامل، ما يدفع القاهرة دفعًا للتخلي نسبيًا عن دبلوماسيتها الهادئة وحيادها المزعوم، فالأمر انتقل من دائرة الوساطة إلى الانخراط في المشهد كطرف أصيل وإن لم يكن غير مباشر.
مقاربات القاهرة الأربعة
تنطلق الدولة المصرية في تعاطيها مع تطورات المشهد السوداني من مقاربات ومخاوف أربعة:
أولا: المقاربة الأمنية، فالشريط الحدودي الذي يربط بين البلدين والممتد لأكثر من 1200 كيلو متر، أغلبها مناطق مفتوحة، يعد بيئة خصبة للنشاط الإجرامي، بما يشمل تهريب السلاح والمخدرات، وساحة عريضة للعصابات المسلحة، ما يزيد من احتمالات تسلل بعض من تلك العناصر للداخل المصري، وهو سيناريو تعتبره القاهرة تهديدًا استراتيجيًا لا يقل خطورة عن التحديات التي تواجهها في سيناء أو على حدود ليبيا.
يتفاقم هذا القلق مع التوتر الواضح في العلاقات بين الجانب المصري وميليشيا الدعم السريع، حيث شهدت الأونة الأخيرة سجالا وتراشقًا إعلاميًا وسياسيًا بين الجانبين على خلفية اتهامات متبادلة حول التدخل العسكري في السودان، ودعم القاهرة للجيش الوطني السوداني، مما يصعد من مخاوف الانتقام في حال تدسين ثنائية سلطوية في البلاد.
ثانيًا: المقاربة الاقتصادية والاجتماعية، حيث تئن الدولة المصرية حاليًا من تزايد أعداد النازحين السودانيين جراء الحرب، والذي يتجاوز عددهم 4 مليون شخص بحسب تقديرات غير رسمية، ما يثقل كاهل الحكومة بالأعباء المادية ويمثل ضغطًا على البنية التحتية المرفقية المصرية، وفق الخطاب الرسمي وغير الرسمي المصري.
وعليه وفي حال الدخول في نفق التقسيم تتخوف القاهرة من موجات نزوح جديدة، بحكم القرب الجغرافي بين البلدين، مما يزيد من الضغوط على الاقتصاد المصري الذي يعاني بطبيعة الحال من أوضاع مأساوية، بخلاف التبعات الاجتماعية والأمنية الناجمة عن ارتفاع معدلات النازحين السودانيين لمستويات قد يصعب السيطرة عليها.
ثالثًا: المقاربة السياسية. مثل السودان على مدار عقود طويلة شريكًا وحليفًا استراتيجيًا لمصر في العديد من القضايا والملفات الحساسية، السياسية والاقتصادية والأمنية، فهو الحديقة الخلفية التي لا غنى عنها للدولة المصرية، وبعيدًا عن محطات التباين والخلافات بين الحين والأخر، إلا أن الطابع العام لمسار تلك العلاقة كان التحالف الاستراتيجي والتناغم الذي يغطي على أي منغصات جانبية.
من هنا وفي حالة الولوج إلى مستنقع التقسيم، ستجد القاهرة نفسها أمام مأزق سياسي كبير، إما أن تضطر للتعامل مع كيانات متناحرة، ما يقلص من قدرتها على رسم سياسات إقليمية متماسكة، أو الانحياز لكيان دون أخر ما يضعها في عداوة مباشرة مع الطرف المستبعد، ولكل من السيناريوهين تحدياته الخاصة.
في ذات السياق، فإن انقسام السودان سيجعله ساحة مفتوحة لصراع النفوذ، فريق يدعم الجيش وعلى رأسه الولايات المتحدة والسعودية، وأخر يدعم ميليشيا الدعم وفي مقدمته روسيا والإمارات، هذا الاستقطاب بجانب أنه سيؤدي إلى إطالة أمد الحرب، لكنه سيجعل مصر عالقة بين صراعات متشابكة على حدودها الجنوبية، في وقت تحتاج فيه القاهرة إلى استقرار إقليمي يخفف من أزماتها الداخلية.
رابعًا: مقاربة الأمن المائي وسد النهضة. تعتبر الخرطوم أحد الأصوات الداعمة لحق المصريين في مياه النيل، والمتخندقة إلى جانب القاهرة في معركتها مع أديس أبابا بشأن سد النهضة، بصرف النظر عن بعض الخلافات التي شابت مسار المفاوضات إزاء هذا الملف خلال العشرية الأخيرة.
ومن هنا ترى الدولة المصرية أن انقسام هذا الحليف إلى حكومتين أو سلطتين متناحرتين، سيُضعف قدرتها على التفاوض مع إثيوبيا، هذا بخلاف المخاوف من استثمار أديس أبابا لهذا التقسيم لتعزيز نفوذها في الداخل السوداني، في ظل العلاقات الجيدة التي تربطها بحميدتي وميليشيا الدعم، ما يضر بالموقف المصري في ملف سد النهضة ويهدد أمنها القومي في خاصرته الجنوبية.
سيناريوهات التحرك المصري
بعيدًا عن الفريق الذي يرى أن خطوة تشكيل حكومة موازية في السودان لن يكون لها تأثير مباشر على مصر، كونها سودانية خالصة، فالخطاب الأكثر انتشارًا يميل إلى عكس ذلك، فما يحدث في السودان سيتجاوز حدود الجغرافيا الضيقة إلى دول الجوار وفي المقدمة منها الجار الشمالي المصري.
ورغم أن تلك الخطوة كانت متوقعة وغير مفاجئة، في ظل الإعلان السابق عن هذه الحكومة في يوليو/تموز الماضي، والذي قوبل برفض من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، إلا أن القاهرة لم تتعاطى معها بالشكل المطلوب حينها، وسط التحذيرات الإقليمية والدولية لوضع هذا الملف تحت مجهر الاهتمام لحساسيته الأمنية والسياسية.
يومًا تلو الأخر تتقلص الخيارات أمام الدولة المصرية للتعاطي مع المشهد السوداني، وفي ظل هذا التطور الأخير تجد القاهرة نفسها محصورة في ثلاثة سيناريوهات للتحرك العاجل قبل أن يتحول الانقسام من مخطط إلى واقع عملي، أولها المسار الدبلوماسي، حيث تكثيف الجهود الدبلوماسية المصرية واتصالاتها داخل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والإيغاد لتأكيد بطلان خطوات “الدعم السريع” والدفع نحو صيغة تسوية تمنع الاعتراف بأي حكومة موازية.
كذلك ممارسة أقصى درجات الضغط عبر الشركاء الخليجيين، السعودية والإمارات تحديدًا، لحثهما على استخدام نفوذهما للتأثير على الطرفين، الجيش والميليشيات، لما لهما من حضور قوي في تغذية هذا الصراع، من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة للتفاهم تجنب البلاد ويلات الانقسام والتفتت.
وفي ذات السياق الدبلوماسي، قد تطرق القاهرة باب المجتمع الدولي من أجل بناء تحالف عالمي داعم للوحدة السودانية، عبر التنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإيجاد سياق من التفاهمات تمنع تفكك السودان، مع توظيف أوراق الضغط المتوفرة، واللعب على ثنائية الترهيب والترغيب.
ثاني المسارات هو المسار الأمني، حيث تكثيف التواجد العسكري المصري على الحدود الجنوبية بطول الشريط الحدودي مع السودان، لمنع تسلل السلاح والمقاتلين، وربما إنشاء مناطق عازلة مؤقتة إذا استدعى الأمر، وهو التواجد الاستباقي الأقرب للردعي لكل من العصابات المسلحة وميليشيا الدعم.
يتزامن ذلك مع حراك عسكري أخر داعم للجيش السوداني، تسليحيًا واستخباراتيًا، لضمان أولا التفوق العسكري للجيش الوطني على الميليشيا بما يقوض إمكانياتها وقدراتها، وثانيًا منع أي تمدد للفوضى داخل العمق المصري، مع تقوية الوجود المصري في الموانئ والمناطق الساحلية السودانية بالتعاون مع حلفاء إقليميين، لضمان أن الانقسام لا يهدد أمن الممرات البحرية، وهو الحراك الذي لو وظف جيدًا سيكون له تأثيره في تغيير المعادلة، إلا أنه مقيدًا بسلاسل المقاربات المصرية التي تميل للتهدئة وعدم التصعيد.
ثم يأتي المسار الإنساني الاقتصادي ليكمل مثلث المسارات الثلاثة التي ترسم سيناريوهات التحرك المصري إزاء هذا التطور، والذي ينقسم بطبيعة الحال إلى محورين، الأول يتعلق بملف اللاجئين، وضرورة وضع آليات أكثر تنظيمًا للتعامل مع موجات النزوح، من خلال التنسيق مع الأمم المتحدة لتقاسم الأعباء، ثم دعم البنية التحتية السودانية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، على الأقل في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، لتوفير البيئة الملائمة للاستقرار والتي تحول دون تزايد موجات النزوح الجديدة.
وهكذا فإن ما يجري في السودان اليوم يتجاوز كونه صراعًا داخليًا على السلطة بين جنرالات، ليصبح اختبارًا حقيقياً لقدرة الإقليم على حماية استقراره ومنع تكرار سيناريوهات التشظي التي عصفت بدول عربية وأفريقية أخرى، أما بالنسبة لمصر فالسودان ليس مجرد جار جغرافي، بل عمق استراتيجي لا غنى عنه، وأي انقسام فيه سيترك جروحًا عميقة في خاصرتها الجنوبية، ومن هنا تبدو القاهرة مطالبة بالتحرك وفق مقاربة شاملة تجمع بين الضغط الدبلوماسي، والاستعداد الأمني، وإدارة التداعيات الإنسانية، حفاظًا على وحدة السودان وصونًا لأمنها القومي في آن واحد