أعلنت كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، في بيان لها عصر الإثنين 29 ديسمبر/كانون الأول 2025، استشهاد الناطق باسمها حذيفة الكحلوت، المعروف بـ أبو عبيدة، إلى جانب عدد من قادتها البارزين، على رأسهم محمد السنوار قائد أركان كتائب القسام، ومحمد شبانة “أبو أنس” قائد لواء رفح، والقائد الكبير حكم العيسى “أبو عمر” الذي شغل مناصب عدة لعل أبرزها قيادة ركن التدريب، وهيئة المعاهد والكليات العسكرية، والشيخ الشهيد رائد سعد “أبو معاذ”، قائد ركن التصنيع، وقائد ركن العمليات الأسبق.
وقال بيان مصور للناطق الجديد باسم كتائب القسام، الذي ورث عن “أبو عبيدة” اسمه ولثامه وهيئته ولغة جسده: “إننا اليوم نزف إليكم بكل فخر واعتزاز، كوكبةً عظيمةً من أبناء شعبنا، ومن المجاهدين الأبطال الذين قضوا نحبهم بعد خرق الاحتلال للتهدئة، واستئناف حربه الإجرامية في مارس الماضي، ليلتحقوا بقافلة طويلة من الشهداء الأبرار، ونخصّ هنا بالذّكر، ثلةً من قادة القسام الميامين، الذين ارتقوا في ميدان المعركة، وفي غرف القيادة والسيطرة، وهم على ثغورهم، يؤدون أدوارهم الجهادية دون كلل أو ملل”.
وعن الشهيد أبو عبيدة، قال الناطق الجديد باسم القسام: “ونحن إذ نقف أمامكم هذا الموقف، لا يمكننا إلا أن نتوقف إجلالاً وإكباراً، أمام صاحب هذا المقام، الذي لطالما أطلّ عليكم بصوته القوي، وكلماته الصادقة، وبشرياته المنتظرة، الملثم الذي أحبّه الملايين، وانتظروا إطلالته بشغف، ورأوا فيه مصدر إلهام، وفي كوفيّته الحمراء أيقونةً لكلّ الأحرار في العالم، الشهيد القائد الكبير، الناطق باسم كتائب القسام، “أبو عبيدة”.
وأضاف: نحن اليوم نزفه إلى أمّتنا وشعبنا، باسمه وكنيته الحقيقيتين، نزفّ القائد الكبير حذيفة سمير عبد الله الكحلوت “أبو إبراهيم”، الذي ترجّل بعد عقدين من إغاظة الأعداء وإثلاج صدور المؤمنين، ولقي الله على خير حال، وأيّ علامة أدلّ على الصدق مع الله، من أن يرفع الله ذكره في العالمين، ويضع له القبول في الأرض، ترجّل بعد أن قاد منظومة إعلام القسام بكلّ اقتدار، وسطّر مع إخوانه ما رآه الصديق والعدو من أداء مشرف
ويعرف الفلسطينيون والعرب، بل وجماهير واسعة حول العالم، أبو عبيدة بطلّته المميزة: لثام بكوفية حمراء تغطي ملامحه، وصوت رخيم يحمل خطابًا قويًا متماسكًا، حافلًا بالحجّة والرسالة، إذ لم يكن مجرد متحدث عسكري، بل أيقونة للمقاومة ورمزًا لخطابها الذي شكّل بارقة أمل متجددة، واحتل مكانة خاصة في قلوب الملايين، حتى غدا اسمه وصورته حاضرين في كل ساحة ومحفل -بل في كل وجدان حرّ- بوصفهما تعبيرًا عن فعل المقاومة ورمزيتها.
حذيفة الكحلوت، أبو إبراهيم، هو إذن، صاحب اللثام؛ ابن مخيم جباليا، وسليل الثورة والمقاومة، المقاوم في الميدان وابن لواء الشمال في كتائب الشهيد عز الدين القسام، قبل أن يكون ناطقها العسكري، يحجز اليوم موقعه إلى جانب كوكبة من قادة المقاومة الذين ارتقوا على مذبح الحرية في مواجهة طوفان الأقصى والتصدي لحرب الإبادة، ليُنعى إلى علياء المجد شهيدًا، وتبقى كلماته نبراسًا ودليلًا.
من “أيام الغضب” إلى “سيف القدس”
راكم أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، حضوره على مدار عقدين كاملين، حيث كبر مع كبر المقاومة في قطاع غزة، وتعاظمت رمزيته مع تعاظم فعلها الميداني وخطابها السياسي.
في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2004، شن الاحتلال عملية عسكرية واسعة شمالي قطاع غزة، زجّ خلالها بأكثر من مئة آلية عسكرية في طليعتها دبابات الميركافا، تحت مسمى “أيام الندم”. كان الهدف المعلن تفكيك بنية المقاومة المتنامية والقضاء على قدرات إطلاق الصواريخ محلية الصنع التي لم يتجاوز مداها آنذاك عشرة كيلومترات، واستهدفت بالأساس مستوطنة سديروت، واستمرت العملية حتى السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، لكنها واجهت تصديًا ملحميًا أوقف توغل الآليات وأفشل الوصول إلى قلب مخيم جباليا، وكان لها دلالات استراتيجية كبيرة لما هو قادم من فعل المقاومة وتصلب عودها.
في مواجهة التسمية الإسرائيلية للعملية، صاغت المقاومة خطابها الخاص، فأطلقت على المواجهة اسم “أيام الغضب”، ومن قلب جباليا، صعد شاب ملثم ليقرأ البيان الأول باسم كتائب القسام، معلنًا عن ميلاد صوت جديد سيتحول لاحقًا إلى أيقونة خطاب المقاومة: أبو عبيدة.
أول ظهور لأبو عبيدة، بتاريخ 14 ديسمبر 2004، وذلك ليتلو البيان الأول لكتائب الشهيد عز الدين القسام وذلك في معركة أيام الغضب.
توالت بعد ذلك المحطات الكبرى، ففي عملية “الوهم المتبدد” عام 2006، أعلن أبو عبيدة مسؤولية المقاومة عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، مؤكدًا أن سبيل الإفراج عنه لن يكون إلا عبر صفقة تبادل تعيد للأسرى الفلسطينيين حريتهم.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ خطاب الناطق العسكري يتبلور كأحد أعمدة السردية الفلسطينية، ممزوجًا بالثبات والثقة، وبهيئة عسكرية محكمة يعلوها كوفية حمراء تاريخية ارتداها الشهيد عماد عقل ذات يوم قبل استشهاده.
وخلال عدوان 2014، بلغ حضوره ذروته، إذ لا تزال كلماته ترنّ في وجدان الفلسطينيين حين أعلن عن عمليات الإنزال خلف خطوط الاحتلال، وتبني المقاومة أسر الجندي شاؤول آرون، وفقدان الاتصال بالمجموعة التي أسرت هدار جولدن. كما بقيت جملته الشهيرة في مواجهة الاجتياح البري علامة فارقة: “أتتوعدنا بما ننتظر يا ابن اليهودية”.
ومع مرور السنوات، ترسّخ وتقدم دوره ليقود الإعلام العسكري للمقاومة، مطورًا خطابًا يجمع بين القول والفعل، ويترجم البطولة الميدانية إلى سردية مؤثرة، وكان النموذج الأبرز في “سيف القدس”، حين أعلن عن مهلة القائد العام محمد الضيف لجيش الاحتلال بالانسحاب من المسجد الأقصى ووقف الاعتداءات، ملوّحًا بالرد. وما إن انقضت المهلة، حتى انطلقت صواريخ المقاومة لتوقف تل أبيب على “رجل واحدة”.
طوفان الأقصى: الخطاب والحرب النفسية
مع انطلاق “طوفان الأقصى”، برز أبو عبيدة كالعنوان الأبرز للتعبير عن موقف المقاومة، راوياً ملاحم البطولة في الميدان، وداعيًا للنفير، وعاتبًا على المتخاذلين. شكّل خطابه المتين والمتماسك جدارًا في مواجهة آلة الدعاية الإسرائيلية، التي حاولت صناعة رواية مغايرة لتبرير الإبادة وتشويه صورة المقاومة، وبينما سعت “إسرائيل” لتسويق “دعشنة” المقاومة وتثبيت وصمة الإرهاب عليها أمام الرأي العام الدولي، تمسكت المقاومة بخطابها الأخلاقي وبحقها الطبيعي في مقاومة الاحتلال.
وظّف الاحتلال ترسانته الإعلامية بتعاون واسع مع وسائل إعلام غربية ودولية، في حملة خداع وتضليل كبرى، لكن المواجهة على جبهة الخطاب لم تكن أقل أهمية من مجريات القتال، وهنا لعب أبو عبيدة دور البوابة الرئيسية لتقديم السردية الفلسطينية، وبصوت واثق أعلن منذ اللحظة الأولى عن رؤية المقاومة لملف الأسرى، محددًا بوضوح الموقف الأخلاقي تجاه المدنيين، ومرفقًا ذلك بعروض إنسانية جادة للإفراج عن حاملي الجنسيات الأجنبية، في مقابل الإبقاء على الجنود رهنًا لصفقة تبادل شاملة.
كما قدّم رواية المقاومة عن دوافع الطوفان وسياقه التاريخي والسياسي، في مواجهة سردية إسرائيلية وغربية سعت لتصوير السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كنقطة انطلاق النزاع، متجاهلة عقودًا من الاحتلال والدم المسفوك بحق الفلسطينيين.
لكن مهمة قيادة الإعلام المقاوم في حرب إبادة بهذا الحجم لم تكن يسيرة، إذ سخّر الاحتلال كل أدواته القاتلة والاستخبارية والتقنية –من الذكاء الاصطناعي العسكري إلى قطع الاتصالات والإنترنت– لعزل غزة وإخفاء صورتها عن العالم.
وبين إدارة الميدان الإعلامي والتوثيق على الأرض، والحفاظ على خطاب متكامل مع السياسة والميدان، وخوض حرب نفسية ضد الاحتلال وجبهته الداخلية، تولى أبو عبيدة وفريقه مهمة مركبة وصعبة، وأداروها بصلابة لافتة.
لقد كان الإعلام العسكري أحد أبرز وجوه نجاح المقاومة في هذه الحرب، فاللقطات المصورة الخارجة من الميدان، التي توثق شجاعة المقاتلين وقدرتهم على رفع كلفة الاحتلال في كل محور قتال، لم تكتف بتفكيك سردية العدو، بل أثبتت أن منظومة القيادة والسيطرة والاتصال بين الوحدات الميدانية وغرف العمليات لا تزال صامدة ومتماسكة.
ولم يكن غريبًا أن يضع الاحتلال ضمن قائمة “إنجازاته” اغتيال قائد الإعلام العسكري، محمّلاً إياه المسؤولية عن أدوات الحرب النفسية التي هزّت جبهته الداخلية، فالمقاطع المصورة المتعلقة بالأسرى، وتصريحات أبو عبيدة التي ثبتت صحتها على الأرض، كانت تحظى بمصداقية أكبر حتى لدى الجمهور الإسرائيلي ذاته أكثر من خطابات قادته السياسيين، بل ساهمت تلك الرسائل في إشعال احتجاجات ذوي الأسرى، وضغطهم على الحكومة التي تتهرب من صفقة تبادل لحسابات سياسية ضيقة.
هكذا، شكّل أبو عبيدة التعبير الأصدق عن تماسك وتكامل السردية الفلسطينية في أكبر وأطول معركة يخوضها الشعب الفلسطيني، مواجهةً حرب اقتلاع وإبادة صهيونية تسعى لإنهاء وجوده على الأرض.
أيقونة مكمّلة في السردية التاريخية
لم يكن الاستهداف الإسرائيلي للأيقونات الفلسطينية وليد اللحظة، بل جزءًا أصيلًا من محاولاته الدائمة لتثبيت قواعد الردع وصهر الوعي الفلسطيني، عبر ضرب الرموز والقيادات الفدائية، في مسعى لتهشيم القيم الكبرى التي تغذي النهج المقاوم.
من هذا الباب، اغتال الاحتلال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي شغل موقع الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيس تحرير مجلة الهدف. كان كنفاني بوابة مركزية لصياغة خطاب فلسطيني مقاوم في مواجهة محاولات القفز عن الحق التاريخي وتمرير الأفكار الاستسلامية.
تعاظمت رمزيته حين تصدّر المؤتمرات الصحفية إبان عملية “مطار الثورة” (سبتمبر/ أيلول 1970)، التي خطفت خلالها الجبهة الشعبية أربع طائرات واحتجزت إسرائيليين للمطالبة بتبادل أسرى، ولإيصال السردية الفلسطينية إلى العالم.
وتضاعفت هذه الرمزية أكثر بعد عملية مطار اللد (30 مايو/ أيار 1972) التي نفذها ثلاثة من الجيش الأحمر الياباني. وفي 8 يوليو/ تموز 1972، استشعر الاحتلال خطر هذه الرمزية، فاغتال كنفاني وابنة شقيقته لميس نجم في بيروت بتفجير سيارتهما.
على النهج ذاته، لاحق الاحتلال السردية الفلسطينية في أوروبا عبر عملية “غضب الرب”، وهي حملة الاغتيالات التي أطلقتها جولدا مائير، واستهدفت الكتاب والمفكرين الذين حملوا الخطاب المقاوم، من أمثال الدكتور باسل الكبيسي، محمد بودية، محمود الهمشري، ووائل زعيتر، إدراكًا لخطورة دورهم في تجنيد المتضامنين مع فلسطين عالميًا.
وفي امتداد لهذه العقلية الإجرامية، لم يكن خافيًا على أجهزة الاحتلال وأدوات قياس الرأي العام، حجم الرمزية التي نسجها أبو عبيدة في الوعي الجمعي، ليس الفلسطيني فحسب، بل العربي والإسلامي والعالمي أيضًا. لقد تحولت صورته بملامحه الملثمة وكوفيته وخطابه الثابت إلى أيقونة مكثفة عن المقاوم الفلسطيني، لا تقل خطرًا في حسابات الاحتلال عن فعل المقاومة نفسه.
هذه الرمزية، التي يسعى الاحتلال منذ السبعينيات لاغتيالها، وجدت امتدادها في هيئات وأيقونات جديدة باتت عنوانًا ثوريًا عالميًا، شبيهًا برموز النضال الأممي التاريخي. ومن هنا، استشعر الاحتلال خطورة هذه الصورة التي تستمد شرعيتها من الكفاح المسلح الفلسطيني، وتحوّلت إلى نقطة التقاء أممية تعبّر عن الانحياز لحق الفلسطينيين في المقاومة والوجود.
ومن هذا المدخل، اغتال الاحتلال الناطق باسم سرايا القدس أبو حمزة، واغتال الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، في سياق إبادة واسعة تستهدف ليس فقط الإنسان والأرض، بل أيضًا الصوت والصورة والكلمة، في أوسع عملية لـ”كيّ الوعي” ليس للشعب الفلسطيني فقط، بل لكل الأحرار في العالم.
تجارب التاريخ أبلغ من الصواريخ
إنّ الموت بالنسبة لأبي عبيدة لم يكن غائبًا عن الحسابات، بل حاضرًا في شخصه وخطابه، باللثام أو بدونه، كجزء من مآلات طبيعية لمعركة مفتوحة مع احتلال لا يتورع عن قتل كل فلسطيني إذا واتته الفرصة.
حصدت هذه الحرب خيرة قادة المقاومة، ودفعت غزة وأهلها عشرات آلاف الشهداء على طريق الحرية، في كل زقاق واشتباك، ترك القادة بصمتهم، وأسسوا جيلًا لا يقتلع بسهولة، جيلًا لم تتوقف رصاصته في مواجهة اعتداءات الاحتلال على كل محور من محاور القطاع.
ينزف الشعب الفلسطيني مع كل شهيد، وتتمزق أوصاله على كل قائد ينجح الاحتلال في اغتياله، ومع ذلك، تبقى الرمزية أوسع من الأفراد، والبطولة أعمق من الكاريزما، وفي حالة أبو عبيدة، الذي ظل عقدين خلف اللثام، لقد كان حضوره تعبيرًا جمعيًا عن صورة المقاوم الفلسطيني المجهول الذي يواجه أعتى جيوش المنطقة وأكثرها إجرامًا وأن استشهاده سيشكل ترسيخًا لهذه الرمزية وليس قتلًا لها.
لم تكن خطابات أبو عبيدة مجرد بيانات عسكرية، بل لسان حال شعب يواجه الإبادة يوميًا، ونداءاته لم تكن إلا صدى لما يشعر به كل فلسطيني محاصر بالخذلان، يرى الجمهور يصفّق لرمزية المقاومة ويمجّدها، ثم يتنكر لدوره الفردي في تحريك الشوارع ووقف المذبحة، وسيبقى خطابه الأخير، المحمّل بأقسى عبارات اللوم، شاهدًا وحجة على كل من قصّر وتخاذل.
يرتقي القادة، ويصعد المقاومون شهداء، وتقدّم غزة فلذات أكبادها في مواجهة آلة قتل إسرائيلية مدعومة أمريكيًا، لكن المسيرة لا تنكسر، ولا يرفع شعب المقهورين الراية البيضاء، ودائمًا هناك من يحمل اللواء.
من غسان كنفاني وماجد أبو شرار ومعين بسيسو، إلى أبو عبيدة وأبو حمزة، هي مسيرة نضال لا تتوقف عند حدود، وتبتكر دومًا شكلًا جديدًا لخطابها للعالم، وفعلًا جديدًا يترجمه أبطالها في الميدان، حتى ينتزع هذا الشعب حريته الحتمية.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي، قد أعلن في بيان مشترك مع جهاز الأمن العام “الشاباك”، يوم الأحد 31 أغسطس/آب 2025، اغتيال من وصفه بأنه “رئيس منظومة الدعاية في الجناح العسكري لحركة حماس وناطقها الرسمي”، المعروف باسم “أبو عبيدة”.
