تعمل منظمات الإغاثة في غزة اليوم في “حقل ألغام” من القواعد الأمنية والاشتراطات البيروقراطية والضغوط السياسية المتزايدة التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب على غزة، ما يثير مخاوف جدية بشأن استقلالية العمل الإنساني وسلامة العاملين فيه وقدرة هذه المنظمات على تقديم المساعدات الحيوية للمدنيين المحتاجين.
هذه القيود لا تقتصر على العراقيل اللوجستية فحسب، بل تمتد لتشمل محاولات للتحكم في “لغة” الإغاثة نفسها، وتضييق الخناق على حرية المنظمات في التعبير عن الواقع الإنساني في القطاع، فكيف يمكن تحمّل تبعات انتقاد ممارسات الاحتلال في ظل شروط تعيد تعريف العمل الإنساني حتى قبل أن يبدأ؟
خريطة تسليح المساعدات
منذ اليوم الأول للحرب التي اقتربت من دخول عامها الثالث، تمارس “إسرائيل” ضغوطًا متعددة الأوجه على منظمات الإغاثة، تتضمن فرض قواعد جمركية مشددة تعيق دخول المساعدات، حيث يتم رفض عشرات الطلبات لإدخال إمدادات حيوية، بما في ذلك مواد الإيواء الأساسية، بحجة أنها يمكن استخدامها لـ”أغراض مزدوجة”، أي إمكانية استخدامها لأغراض عسكرية.
على الأرض، تجلّت هذه الضغوط في حلقات متتابعة، ففي منتصف يوليو/ تموز الماضي، ألزمت “إسرائيل” شحنات المساعدات القادمة من مصر بإجراءات تخليص جمركي جديدة، ما تسبب – بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية – في تعقيدات بيروقراطية إضافية وتأخيرات مكلِّفة أعاقت عمل المنظمات الإنسانية، وأثقلت كاهلها بتكاليف جديدة.
وفي محاولة أخرى لتعطيل إدخال المساعدات عبر الأردن، فرضت “إسرائيل” رسومًا جمركية تتراوح تصل إلى 400 دولار على كل شاحنة مساعدات قادمة إلى غزة، ما أعاق تدفق الإمدادات الحيوية، وحرم المستشفيات ومراكز العلاج من احتياجات أساسية، الأمر الذي انعكس مباشرةً على الفئات الأضعف كالمرضى والأطفال وكبار السن الذين دفعوا الثمن بنقص الغذاء والدواء.
الأونروا تؤكد أن سكان غزة يعانون من الجوع لدرجة فقدان الوعي، في مشهد يلخّص كارثة التجويع المتواصلة. pic.twitter.com/1eBLMzhjnl
— نون بوست (@NoonPost) July 22, 2025
لم تقتصر هذه الإجراءات على التضييق الإداري أو الجمركي، وإنما شملت قيودًا سياسية وأمنية فرضت على جميع منظمات الإغاثة الدولية العاملة مع الفلسطينيين إعادة تسجيل نفسها ابتداءً من مارس/ آذار 2025، بما في إلزامها بتقديم تفاصيل المانحين من القطاع الخاص، وقوائم الموظفين الفلسطينيين الكاملة، وغيرها من المعلومات الحساسة عن موظفيها لما يُسمى بالتدقيق “الأمني” للسلطات الإسرائيلية، ما يثير مخاوف بشأن توظيفها في أغراض قمعية أو عسكرية.
كما لن تحصل المنظمات التي تُتهم بدعم مسارات قانونية ضد جنود إسرائيليين في المحاكم الدولية أو بالدعوة إلى مقاطعة “إسرائيل”، على تصريح للعمل، فيما سيواجه معظم الشركاء الدوليين خطر وقف عملياتها في غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية بحلول 9 سبتمبر/ أيلول 2025، إذا لم يلتزموا بهذه القواعد الصارمة، بل وُجهت لبعض المنظمات مهلة 7 أيام لتقديم قوائم الموظفين الفلسطينيين، لتتحوِّل بذلك الإغاثة من حقّ تكفله اتفاقيات جنيف إلى امتياز هش قابل للسحب متى شاء الاحتلال.

هذا يعني أن المنظمات مجبرة على الالتزام بعملية تسجيل ظالمة تمامًا، وتفتقر إلى الشفافية، ولكن لمواصلة دعم عملها في غزة، يجب عليها أن تخضع لهذه الإجراءات التي تتيح لـ”إسرائيل” صلاحية رفض تسجيل المنظمات بناءً على معايير سياسية غامضة ومُسيّسة مثل مزاعم”تجريد إسرائيل من شرعيتها” أو دعم حركات مقاطعة ضدها.
لذلك، دعت العديد من الوكالات الأممية والمنظمات الدولية “إسرائيل” إلى التراجع عن هذا الشرط، وفي 6 أغسطس/ آب 2025، صدر تحذير أممي صريح نبّه إلى أن عدم التراجع سيعني عمليًّا إخراج معظم الشركاء الدوليين من الاستجابة الإنسانية خلال أسابيع قليلة، وأن بعض المنظمات غير المسجّلة مُنعت بالفعل من إرسال أي شحنات إلى غزة.
ثبتت صحة هذه المخاوف، إذ اُستخدم نظام التسجيل لمزيد من عرقلة المساعدات وحرمان الغذاء والدواء في خضم أسوأ سيناريو للمجاعة، ففي يوليو/ تموز الماضي، تم رفض أكثر من 60 طلب قدمتها عشرات المنظمات – التي عملت في غزة لعقود، وتحظى بثقة المجتمعات المحلية، ولديها خبرة في تقديم المساعدات بأمان – لإدخال مساعدات حيوية إلى غزة، وأُبلغت بأنها غير “مُصرّح لها” بتقديم المساعدات، بحجة أنها غير مرخصة، ما تسبب في حجز ملايين الدولارات من الإمدادات الغذائية والطبية في المخازن في الأردن ومصر بينما يعاني الفلسطينيون من الجوع، ويموت بعضهم نتيجة ذلك.
وبعد شهور من تقييد الحركة ورفض شحنات وتعليق آليات أممية، صعّدت أكثر من 100 منظمة دولية خطابها التحذيري، متهمةً “إسرائيل” بـ”تسليح المساعدات” عبر اشتراطات التسجيل والانتقاء السياسي للشركاء، مؤكدة أن القبول بهذه القيود يفرِّغ العمل الإنساني من جوهره، وأن الاحتلال يستخدم قواعد تعسفية ومسيّسة لإسكات الأصوات المناصرة والرقابة على التقارير الإنسانية ورفض طلبات إدخال المساعدات إلى غزة، وإقصاء الجهات الفاعلة الفلسطينية، واستبدال المنظمات الإنسانية الموثوقة بآليات تخدم أهدافًا سياسية وعسكرية.
قواعد جمركية مشددة
لم تكن تلك المرة الأولى التي تضيف فيها “إسرائيل” طبقة أخرى من التعقيد على أزمة الغذاء المتفاقمة داخل القطاع المحاصر، ففي منتصف أغسطس/ آب 2024، فرضت “إسرائيل” قاعدة جمركية جديدة عطّلت مسارًا رئيسيًا لنقل الغذاء عبر الأردن، وانعكس هذا مباشرة على حجم الإمدادات التي شهدت منذ ذلك الحين تراجعًا حادًا.
استهدفت هذه القاعدة المستحدثة تحديدًا قوافل الشاحنات التي تستأجرها الأمم المتحدة لنقل المساعدات من الأردن إلى غزة عبر “إسرائيل”، ويتعين بموجبها على موظفي منظمات الإغاثة تعبئة نماذج تتضمن بيانات جوازات السفر وتحميلهم كامل المسؤولية دقة المعلومات الواردة بشأن محتوى الشحنات، وما قد تؤول إليه المساعدات.
هذه المتطلبات الجديدة لم تقتصر على الجانب الإداري فحسب، بل حملت معها تبعات قانونية قد تضع العاملين في منظمات الإغاثة في مواجهة مباشرة مع سلطات الاحتلال، وتعرضهم للملاحقة، ما دفع منظمات الإغاثة بدورها إلى التعبير عن قلقها البالغ من المخاطر المترتبة على ذلك، خاصة إذا ادَّعت سلطات الاحتلال وصول الشحنات إلى فصائل مسلّحة أو اتهمت العاملين بالتقصير.
أمام هذه القواعد الجديدة التي فرضها الاحتلال، وجدت المنظمات الإنسانية نفسها أمام معادلة صعبة بين المخاطرة القانونية أو توقف الإمدادات، وسرعان ما انعكس هذا على الأرض، فتوقفت قوافل الغذاء القادمة من الأردن بالكامل، لتتقلص بذلك خيارات الوصول إلى غزة بحرمانها من واحد من أهم مساراتها الإمدادية.
وتؤكد بيانات الأمم المتحدة وحكومة الاحتلال حجم التراجع، إذ انخفضت شحنات الغذاء والإمدادات الإنسانية في سبتمبر/ أيلول 2024 إلى أدنى مستوى لها خلال 7 أشهر، وهو ما يعكس عمق الأزمة التي يواجهها القطاع في ظل استمرار القيود.
وبحلول 19 سبتمبر/ أيلول 2024، أكدت وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (كوغات) عدم دخول أي شاحنات مستأجرة أمميًّا من الأردن، رغم نفيها أنّ “إسرائيل” تمنع دخول البضائع، في موقف يثير جدلاً واسعًا حول الفجوة بين التصريحات الرسمية والواقع الميداني الذي يشهد شللاً شبه كامل لأحد أهم مسارات الإمداد الحيوية لغزة.
لاحقًا، ومع تعقّد الوصول البري، لم تثبت آليات بديلة مثل “الممر البحري عبر قبرص” أو آلية الأمم المتحدة 2720 استقرارًا كافيًا، فبحسب الأمم المتحدة لم تُسجَّل أي شحنات عبر هذه الآلية خلال مارس/ آذار الماضي، بعد تعليق إدخال البضائع، مقارنة بآلاف الأطنان في فبراير/ شباط الذي سبقه. وهذا يعني أن ثغرات “التيسير” التي تُعلن في البيانات لا تُحَوِّل تلقائيًا إلى غذاء ودواء في المخازن والمستشفيات.
وتأتي هذه الإجراءات – التي قد تغلق آخر النوافذ إلى سكان غزة المحاصرين – في الوقت الذي تُصعّد فيه حكومة الاحتلال هجومها العسكري، وتُعمّق احتلالها الكامل لقطاع غزة، مما يُوضّح أن هذه الإجراءات جزء من استراتيجية أوسع لترسيخ السيطرة ومحو الوجود الفلسطيني.
خفوت لغة الإغاثة
في ظل الضغوط الإسرائيلية القاسية، لجأت العديد من المنظمات الدولية إلى “تبريد” متعمَّد لخطابها وإخضاعه لرقابة صارمة، ومنع موظفيها من استخدام مصطلحات بعينها، مدفوعةً بمخاوف تعريض الموظفين للملاحقة، أو إغلاق قنوات الوصول القليلة المتبقية إلى القطاع.
تخفيف النقد يتمثل في اللجوء إلى لغة أكثر حيادية أو مخففة، واعتماد خطاب أكثر تحفظًا وأقل تصعيدًا تجاه الإجراءات الإسرائيلية، مع التركيز على الجانب الإنساني فقط، دون التطرق للجذور السياسية للصراع أو انتهاكات الاحتلال، في محاولة للمحافظة على قدرتها على العمل في القطاع.
كما أفرزت هذه الضغوط بيئة من الرقابة الذاتية تلمِّع الواقع الإنساني القاسي، وتجعل من الصعب على المنظمات الإفصاح عن مأساة الحصار، أو نقد سياسات الاحتلال، ويتمثَّل هذا في حذف مقالات و”تنقيح” صفحات تعالج انهيار المنظومات الصحية أو أثر الحصار، وإعادة تحرير البيانات الصحفية، وحذف مصطلحات بعينها، وتقليص الإحالات القانونية، وتجنّب توصيفات الإبادة الإسرائيلية، في مسعى لتهذيب اللغة بما يمرّ تحت رادار سلطات الاحتلال.
وتكشف شهادات موظفي منظمات إغاثة دولية، أوردها تحقيق استقصائي لقناة “دويتشه فيله” الألمانية، ملامح تشكل “بيئة خوف” دفعت منظمات إلى التزام سردية محايدة قسريًّا تتجنب تسمية المسؤولين عن الإبادة أو الإشارة إلى العوائق التي تكبّل وصول المساعدات، مراهنةً على أن الصمت قد يكون الثمن المطلوب للإبقاء على شريان المساعدة مفتوحًا، حتى لو بالحد الأدنى.
هذه العوائق الإدارية والسياسة تشكل ضغطًا نفسيًا وأخلاقيًا على العاملين في المجال الإنساني، الذين قد يجدون أنفسهم بين نارين، حيث تصطدم رغبتهم في تقديم دعم حيادي ومتوازن بمطالب الاحتلال التي تحاصر استقلالية ومصداقية العمل، ويشعر بعضهم بأنهم يساهمون في “تجميل صورة الوضع” وإخفاء الحقيقة، وأنهم مطالبون بالكذب لضمان استمرارية عمل المنظمة.
ويكشف التحقيق أن العديد من المنظمات بدأت بتقييد لغتها، وخففت انتقاداتها لـ”إسرائيل” بشكل ملحوظ ابتداء من ديسمبر/ كانون الأول 2024، حتى أن بعضها حظر تمامًا كلمات أو عبارات معينة من بياناتها الرسمية وتقاريرها الصحفية، لتجنب إثارة غضب الاحتلال الذي يحتكر صلاحية دخول المساعدات والموظفين.
مظاهر ذلك التراجع تجلَّت في تجنب استخدام قائمة من الكلمات والعبارات والمصطلحات، حتى لو كانت اقتباسًا من الميدان، وتشمل “الاحتلال، الحصار، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، الإفلات من العقاب، المساءلة، انتهاك القانون الإنساني الدولي، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، وفظائع”، وأحيانًا حتى كلمة فلسطين.
على سبيل المثال، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وصفت “لجنة الإنقاذ الدولية” في الولايات المتحدة سكان غزة بأنهم “تحت الحصار”، وكررت المصطلح في بيانات لاحقة، لكن منذ ديسمبر/ كانون الأول 2024 اختفى تمامًا من منشوراتها رغم تفاقم الوضع.
الأمر ذاته تكرر مع منظمة “العمل ضد الجوع”، التي أدانت في في بداية الحرب ما قالت إنه هجمات متعمدة وعشوائية على المدنيين، واعتبرتها “انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي”، لكن بعد الإعلان عن قواعد التسجيل الجديدة توقفت المنظمة عن استخدام هذا المصطلح.
اختبار قاس لاستقلالية العمل الإنساني
ليس سرًا أن عددًا كبيرًا من منظمات الإغاثة الدولية العاملة في غزة وجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إمَّا أن ترفع صوتها وتخاطر بفقدان القدرة على الوصول إلى المحتاجين، أو أن تصمت وتضحي بمبادئها الأساسية في الدفاع عن حقوق الإنسان والتعبير عن الحقيقة، وتحافظ على وجودها الميداني مع تقديم صورة مشوَّهة للوضع.
في الواقع، كلا الخيارين يحمل كلفة باهظة؛ فالكشف الإجباري للبيانات الشخصية يضاعف المخاطر الأمنية والقانونية، ويقوّض ثقة المجتمعات المحلية بالمنظمات إذا اعتبرتها أداة بيد سلطة تُخضع معلوماتها لرقابة أمنية. وفي المقابل، فإن أي خطاب نقدي قد يؤدي إلى سحب التصاريح أو تقليص مدتها، ما يجعل التخطيط طويل الأمد شبه مستحيل.
وتفسر 3 دوافع رئيسية ميل المنظمات نحو الخيار الثاني، بعدما وجدت نفسها مقيّدة بين قول الحقيقة وضمان استمرار تدفق المساعدات:
أولاً، براغماتية الوصول: المبدأ السائد في العمل الإنساني هو إنقاذ الأرواح فورًا مهما كانت الظروف. لذلك، حين يكون ثمن التصريحات الناقدة إغلاق معبر أو تعطيل قافلة، يفضل العاملون الميدانيون تخفيف نبرة الخطاب حتى تمر الشحنات، وبذلك تتحوّل الكلمات القاسية إلى تعبيرات أكثر نعومة، ويصبح الحصار “قيودًا على الوصول”، ويُختصر “القصف” إلى “اشتباكات”.
ويكشف تحليل مستقل نشرته منصة “نيو هيومانيتيريان”، المعروفة سابقًا باسم “إيرين نيوز” كيف تقسِّم قواعد التسجيل الجديدة المشهد الإنساني إلى فئات متنافسة على القبول الرسمي، مع إدراج بنود فضفاضة تسمح باستبعاد المنظمات لأسباب تتصل بخطابها العام، وتفتح الباب أمام “التحكّم السياسي” بمَن يُسمح له بالعمل ومن يُستبعد، وتاليًا إعادة رسم ملامح الاستجابة ذاتها.
ثانيًا، حسابات المانحين والعلاقات العامة: كثير من التمويل يمر عبر حكومات غربية متحالفة مع “إسرائيل” أو متحفظة تجاه توصيفات قانونية حادة مثل “جرائم حرب” أو “إبادة”. لذلك، تحاول بعض المنظمات غض الطرف عن مفردات تصطدم مع مزاج مانحين رسميين يخضعون بدورهم لضغوط سياسية، كي لا تخسر مواردها الأساسية.
ثالثًا، هندسة المخاطر القانونية والأمنية: شروط التسجيل الجديدة التي تفرضها “إسرائيل” لم تكن مجرد إجراءات إدارية، بل أداة للضغط والتحكم وتغيير في قواعد اللعبة يمسّ جوهر جهود الإغاثة وحيادها وسلامة العاملين فيها، لذلك، تعتبرها العديد من المنظمات غير الحكومية انتهاكًا لمبدأ حماية العاملين في المجال الإنساني، والذي ينص على ضرورة توفير بيئة آمنة لهم لأداء واجباتهم دون خوف من الانتقام.
ففي بيئة سياسية مشحونة، يمكن أن تُستخدم بيانات الموظفين الفلسطينيين في الموقع لاستهدافهم، أو تقييد حركتهم، أو حتى اعتقالهم، مما يعرض حياتهم للخطر، ويقوض قدرتهم على أداء عملهم الإنساني بحرية وحياد، كما يمكن أن يؤدي الكشف عن بيانات الممولين إلى ضغوط سياسية أو مالية على المنظمات، مما يؤثر على قراراتها وبرامجها.
📌 أعلنت وزارة الصحة في غزة وفاة 33 شخصًا بين 19 و22 يوليو/تموز بسبب سوء التغذية.
📌 أعلنت الأمم المتحدة أن معدلات المجاعة بين الأطفال بلغت ذروتها في يونيو/حزيران الماضي.
📌 وثّقت هيومن رايتس ووتش أن تجويع الفلسطينيين في غزة هو فعل متعمّد من قِبل “إسرائيل”. pic.twitter.com/mn2ycolNEb
— نون بوست (@NoonPost) July 23, 2025
وفي ظلّ أشدّ الظروف خطورة على عمال الإغاثة حول العالم، حيث كان 98% (509 من أصل 517) من وفيات عمال الإغاثة فلسطينيين، لا تملك المنظمات غير الحكومية أي ضمانات بأن تسليم هذه المعلومات لن يُعرّض موظفيها لمزيد من المخاطر، أو يُستخدم لدعم الأهداف العسكرية والسياسية المعلنة لحكومة الاحتلال.
نتيجة لذلك، باتت اللغة نفسها “منطقة ألغام”، يزن الموظفون كل كلمة فيها بميزان حساس، خشية أن تُقرأ على أنها انتقاد مباشر، فيخسرون إذنًا بالدخول أو تُحجب المساعدات التي يحاولون إدخالها أو يجدون تأشيرتهم معلقة، لتتحول الإقامة نفسها إلى امتياز مشروط بـ”حُسن السلوك” في البيانات والمؤتمرات الصحفية.
حدث ذلك بالفعل مع مسؤولين كبار في الأمم المتحدة وغيرهم من المنظمات الدولية، ففي يوليو/ تموز الماضي، امتنعت “إسرائيل” عن تمديد تأشيرة رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في القدس “أوتشا”، جوناثان ويتهال، بعدما اُعتبرت “نبرة” خطابه هي الأخرى معيارًا أمنيًّا. ولم يكن ذلك مجرد صدفة، بل رسالة تأديبية موجهة إلى الجميع، مفادها أنه حتى الكيانات الأممية غير محصّنة إذا اعتُبر خطابها “ناقدًا” يتجاوز الحد المقبول.
هل ينقذ الصمت المجوَّعين؟
هذا التغيير في الخطاب يعكس حالة من الاستسلام القسري السياسي في وجه واقع قمعي، ما يؤدي إلى تقديم صورة مشوهة للواقع الإنساني في غزة، فبدلاً من وصف الوضع كما هو، تجد المنظمات نفسها مجبرة على تقديم بيانات وتقارير لا تعكس الأزمة الحقيقية، وتضطر في كثير من الأحيان إلى استخدام لغة دبلوماسية أو مخففة، مما يقلل من حجم المعاناة ويطمس الانتهاكات.
والواقع أن تحمل تبعات أي انتقاد لسياسات الاحتلال أو إدانة للانتهاكات يصبح أمرًا محفوفًا بالمخاطر في ظل هذه الإجراءات والشروط الجديدة التي تعيد تعريف شروط العمل الإنساني حتى قبل أن يبدأ بحيث يصبح الخضوع لمعايير الاحتلال شرطًا لمواصلة العمل.
هذا الوضع لا يؤثر فقط على قدرة المنظمات على كسب الدعم الدولي، بل يؤثر أيضًا على استقلالية العمل الإنساني، الذي يعتمد على مبادئ الحياد والنزاهة والاستقلال، فعندما تضطر المنظمات إلى الرقابة الذاتية على خطابها لتجنب العقوبات، فإنها تفقد جزءًا كبيرًا من فعاليتها وقدرتها على الدفاع عن الفئات الأكثر ضعفًا.
هذا يعيد تشكيل المشهد الإنساني في غزة نحو مزيد من الانتهاكات وعدم الاستقلالية، ويجعل من الصعب على المجتمع الدولي والجمهور العالمي فهم الحجم الحقيقي للأزمة الإنسانية هناك، فعندما لا يتم استخدام المصطلحات الصحيحة لوصف الوضع، يصبح من الصعب على الناس إدراك حجم الكارثة والضغط على حكوماتهم للتحرك.
المفارقة أنّ حتى الصمت لا يحمي بالضرورة سلامة العاملين أو يستبقي القنوات مفتوحة، خاصة بعدما اعتمدت “إسرائيل”، في مايو/ أيار الماضي، استراتيجية أوسع نطاقًا تتضمن نظامًا جديدًا لتوزيع المساعدات، يتجنب منظمات الإغاثة الدولية، لصالح مخطط ما تسمى بـ”مؤسسة غزة الإنسانية” الممولة أمريكيًا، والتي تعمل كوكيل أمني وعسكري لصالح الاحتلال منذ بدء تشغيلها، وتسببت في استشهاد نحو ألف فلسطيني قرب نقاط التوزيع التابعة لها.
📍 15 منظمة حقوقية دولية حذّرت مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) من التورط في جرائم حرب.
📍 أبرز هذه المنظمات “الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان” و “المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان” و “المركز الأميركي للحقوق الدستورية” وأيضًا “لجنة الحقوقيين الدولية”.
📍 المنظمات صرّحت بأن GHF تعمل بنموذج… pic.twitter.com/rIkGc6zZOg
— نون بوست (@NoonPost) June 24, 2025
حتى الصمت الذي تلجأ إليه منظمات الإغاثة لحماية وجودها في غزة يكلّفها الكثير، فإحجامها عن تسمية الانتهاكات يهدد مصداقيتها أمام جمهور يشهد اتساع رقعة التجويع واستخدامه كسلاح حرب موثق دوليًا، وحين تُقصي هذه الحقائق من خطابها أو تتجاهلها، فإنها لا تبدو محايدة كما تدّعي، بل في موقع من يصف المأساة دون أن يجرؤ على تسمية المسؤول عنها.
وبينما تنتظر منظمات الإغاثة الدولية قرار “إسرائيل” بشأن تسجيلها وتصاريحها، يخشى الكثير من العاملين في المنظمات الدولية غير الحكومية أن تمنع الوصول إلى غزة تمامًا رغم كل التنازلات التي قدَّموها، وألا يجدي صمتهم الذي فرضوه على أنفسهم نفعًا في حمايتهم من الطرد أو التقييد النهائي، ليجدوا أنفسهم بين فقدان استقلاليتهم وفقدان قدرتهم على الوصول إلى المجوَّعين.
في المحصلة، تنتج القيود الإسرائيلية الجديدة -من ضغوط التسجيل والجمارك إلى الكشف الأمني والاستخدام السياسي للمعايير الأمنية وتقييد التأشيرات كأداة تأديب- بيئة “خوف مؤسسي” تدفع باتجاه الصمت القسري، لكن هذا الصمت لا يُنقذ الأرواح، بل على الأرجح يطيل أمد الأزمة، ويحوّل الاستجابة إلى إدارة للأعراض بدل معالجة أسبابها.