أعلنت تركيا مؤخرًا قطع علاقاتها التجارية مع “إسرائيل”، في قرار وصفه مراقبون بأنه “الخطوة ما قبل الأخيرة” نحو مقاطعة شاملة. جاء الإعلان على لسان وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، خلال جلسة طارئة عقدها البرلمان التركي لمناقشة تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث أعلن أن العلاقات التجارية بين بلاده و”إسرائيل” مقطوعة بالكامل، مؤكدًا: “لا توجد دولة أخرى قطعت تجارتها مع إسرائيل بشكل كامل. كما أننا لا نسمح لسفن الحاويات التي تنقل الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل بدخول موانئنا، ولا للطائرات بعبور مجالنا الجوي”.
ورغم أن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها، إذ سبق أن أعلنت أنقرة في مايو 2024 وقف الصادرات والواردات إلى “إسرائيل”، إلا أن التبادل التجاري بين الطرفين استمر وسط نفي رسمي، مسجلاً نحو 393 مليون دولار بين يناير ومايو 2025، مقارنة مع 1.4 مليار دولار في نفس الفترة من العام السابق.
لكن القرار هذه المرة يعكس مخاوف استراتيجية تتعلق بالتهديد الإسرائيلي للنفوذ التركي المتزايد في سوريا وما بعد عهد الأسد، وحرص أنقرة على الحد من أي توسع محتمل لنفوذ تل أبيب في مناطق تعتبرها ضمن مجالها الاستراتيجي في شرق المتوسط. بهذا المعنى، يتحول القرار إلى خطوة رمزية ذات أبعاد سياسية واستراتيجية، تهدف إلى إعادة ترسيخ دور تركيا كلاعب إقليمي فاعل وحماية مصالحها الجيوسياسية.
ومن هنا تبرز أسئلة هامة حول تأثير السياسة على الاقتصاد، وكيف ستتعامل “إسرائيل” مع فجوة الاستيراد والخدمات التي كانت تعتمد على تركيا، وما إذا كانت البدائل المتاحة كافية لتعويض الخسائر. في هذا التقرير، سنستعرض حجم العلاقات التجارية السابقة، انعكاسات التوترات السياسية عليها، ودوافع القرار الراهنة، والتداعيات المحتملة على الاقتصاد الإسرائيلي.
التوترات السابقة لم توقف التبادل التجاري
لطالما شكلت العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” نموذجًا لمرونة لافتة، إذ نجحت على مدى عقود في الصمود أمام موجات التوتر السياسي المتكررة، إذ تعود جذور هذه العلاقة إلى اعتراف تركيا المبكر بـ”إسرائيل” في مارس 1949، ما فتح الباب أمام تعاون سياسي واقتصادي وأمني، وجاءت اتفاقية التجارة الحرة عام 1996، لتؤسس لمرحلة طويلة من النمو في المبادلات التجارية التي لم تخلو من تراجعات في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من الأزمات السياسية، واصلت التجارة بين الجانبين ازدهارها، بل وشهدت اتفاقية التجارة الحرة عام 2007 تعديلات تمنح تخفيضات ضريبية متبادلة، حتى بعد مجزرة سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، التي أقدمت خلالها قوات الاحتلال الإسرائيلي على اعتراض السفينة التركية المتجهة إلى غزة حاملة مساعدات إنسانية وقتلت 13 شخصًا من الجنسية التركية، وما أعقبها من قطيعة دبلوماسية، شهد حجم التجارة بين تركيا و”إسرائيل” زيادة ملحوظة بلغت حوالي 32%. وبحلول عام 2011، وصل إجمالي حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 4.5 مليار دولار.
واصل التناقض بين المستوى السياسي والتجاري بين الطرفين في عام 2014 أيضًا، فرغم الانتقادات التركية الحادة لعملية “الجرف الصامد” التي تمثلت بإدانة وزير الخارجية التركي حينها داوود أوغلو بقوله “الهجمات في غزة التي أصبحت على كل حال سجنا مفتوحا تمثل جريمة ضد الإنسانية تستهدف السكان”، مؤكدًا أن العدوان على غزة يكشف مدى عدائية “إسرائيل”، بقيت المبادلات في مستوياتها المرتفعة.
ومنذ 2015، بدأت أنقرة تسجل فائضًا تجاريًا واضحًا. أما في 2018، ومع تصاعد التوتر إثر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإقرار قانون “الدولة القومية اليهودية”، لم تتأثر العلاقات التجارية وبلغت التجارة قرابة 6 مليارات دولار حتى بلغت الذروة في 2022 عند 9.48 مليار دولار.
بدأت المؤشرات في التراجع بحلول عام 2023، إذ انخفض التبادل التجاري إلى 7.06 مليارات دولار، بانخفاض يقارب 23% في الصادرات و33% في الواردات مقارنة بـ2022. ورغم أن “إسرائيل” بقيت في المرتبة 13 بين أهم وجهات الصادرات التركية، فإن الضغوط الاقتصادية العالمية – من الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الإنتاج – ساهمت في التراجع.
لكن التطور الحاسم جاء بعد أكتوبر 2023، مع تصاعد العمليات الإسرائيلية في غزة، حيث شرعت تركيا في مراجعة علاقاتها التجارية بسبب الضغط الشعبي وفي 9 أبريل 2024، فرضت قيودًا على تصدير 54 مجموعة منتجات إلى “إسرائيل”، ثم أعلنت في 2 مايو القرار الأشد، بوقف كامل للتبادل التجاري في الاتجاهين.
ضربة للاقتصاد الإسرائيلي
إيقاف التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب يحمل تداعيات اقتصادية واسعة على الأخيرة، إذ تُظهر البيانات أن “إسرائيل” أكثر اعتمادًا على السوق التركية في الاستيراد مقارنة باعتماد تركيا عليها في التصدير، ما يضع الاقتصاد الإسرائيلي في موقع هشّ أمام هذا القرار الذي يهدد بشكل كبير قطاع البناء والإنشاءات، حيث تستورد “إسرائيل” ما بين 65% و70% من احتياجاتها من الصلب من تركيا، إضافة إلى كميات ضخمة من الإسمنت ومواد البناء الأخرى.
ويرجح أن توقف هذه الواردات سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الحديد والإسمنت بشكل حاد وتعثر مشاريع بنية تحتية، وسط تحذيرات من أزمة حقيقية في سوق العقارات نتيجة زيادة التكاليف.
أما قطاع الصناعة والاستهلاك، فيتجلى الضرر في فقدان “إسرائيل” منتجات تركية ذات جودة عالية وأسعار تنافسية، تشمل الأجهزة الكهربائية، والأدوات المنزلية، ومنتجات العناية الشخصية، والمواد الغذائية. على سبيل المثال، يتم إنتاج نحو 30% من الأجهزة الكهربائية المباعة في “إسرائيل” في تركيا، ومع وقف الواردات يتوقع ارتفاع أسعارها بما لا يقل عن 10%.
كما تأثر قطاع السيارات بعد توقف استيراد طرازات تركية كانت تشكل جزءًا من السوق المحلي، فبحسب بيانات جمعية مستوردي السيارات، تم استيراد 23.363 سيارة مصنوعة في تركيا من أصل 270.023 سيارة إلى “إسرائيل” حتى العام الماضي، وهو رقم يضع تركيا في المركز الرابع في الواردات إلى “إسرائيل”، ما يجبر المستوردين على البحث عن بدائل أوروبية وآسيوية أغلى ثمنًا وأكثر تعقيدًا في النقل والشحن.
إلى جانب ذلك، تجد “إسرائيل” نفسها مضطرة للبحث عن موردين بديلين، لكنها ستدفع أسعارًا أعلى وتقبل بمنتجات ذات جودة أقل، فضلاً عن خسارة في الوقت وزيادة في التكاليف ضمن سلاسل التوريد، وهي العوامل التي من شأنها أن تعزز الضغوط التضخمية، حيث بدأ التضخم الشهري في “إسرائيل” بالارتفاع منذ مارس/آذار 2024 بعد فترة من الانخفاض.
ولم تقتصر التداعيات على السلع فقط، إذ أعلنت أنقرة إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران العسكري الإسرائيلي، ما أطال مسارات الرحلات وزاد من تكاليف الوقود والتشغيل.
بالمجمل، ورغم أن “إسرائيل” قد تتمكن من إيجاد بدائل عبر أوروبا أو آسيا، إلا أنها ستكون أعلى تكلفة وأقل توافرًا، ما يجعل المقاطعة التركية ضربة مباشرة لقطاعات حيوية ويضاعف الضغوط التضخمية، مع انعكاسات سلبية على تكاليف المعيشة ومشاريع التنمية في المدى القصير والمتوسط.
الرسالة: العبث بسوريا سيُواجَه برد قاس
إعلان أنقرة وقف علاقاتها التجارية مع “إسرائيل” لم يكن وليد لحظة غضب عابرة أو خطوة رمزية تضامنية فحسب، بل جاء كقرار سياسي استراتيجي يحمل أبعادًا داخلية وإقليمية متشابكة، فمن الناحية الداخلية، تصاعدت منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 موجة غضب شعبي عارم في الشارع التركي، تُرجمت في احتجاجات واسعة تطالب بقطع العلاقات مع “إسرائيل” بشكل كامل.
لكن البعد الأعمق يكمن في السياق الإقليمي. فتركيا لا تنظر إلى الحرب على غزة باعتبارها حدثًا منعزلًا، بل تربطها مباشرة بالتحولات الأمنية في سوريا وبمخاوفها من تمدد النفوذ الإسرائيلي في مناطق قريبة من حدودها الجنوبية، ففي يوليو/تموز الماضي، قصفت “إسرائيل” مواقع حساسة في قلب دمشق ومحافظة السويداء، بحجة حماية الأقلية الدرزية وسارعت لدعم مساعي ميليشيات درزية بزعامة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، بالانفصال عن دمشق، هذا السلوك محاولة إسرائيلية لخلق منطقة نفوذ عابرة للحدود تُهدد وحدة سوريا وتفتح الباب أمام تفتيتها.
ناشطة أمريكية: “إسرائيل” لم تقصف #سوريا لأجل الدروز، “إسرائيل” لديها مطامع وأهداف هناك وذلك جلي منذ سقوط نظام #الاسد pic.twitter.com/TpJWKFYfcT
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 20, 2025
عبر عن ذلك وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، قائلًا “عندما رأت ـ “إسرائيل” ـ أن سوريا، التي كانت تتوقع أن تغرق في الفوضى من تلقاء نفسها، تنجح في الخروج من الفوضى بدعم دولي، شعرت بالحاجة إلى التدخل فورًا، ووضعت خطة باستخدام الدروز كذريعة”، مؤكدًا أن بلاده ستعتبر أي تدخل عسكري في سوريا تهديداً لأمنها وستتدخل.
من ناحية أخرى، أفادت تقارير بوجود تنسيق بين “إسرائيل” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكّل وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) عمودها الفقري، وهي قوة تصنّفها أنقرة كتنظيم إرهابي يشكل تهديدًا وجوديًا، ما دفع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى توجيه تحذيرات صارمة إلى “قسد” من أي تعاون مع تل أبيب، كان آخرها منتصف أغسطس، حيث حثّها على التخلي عن أي آمال للتنسيق مع “إسرائيل” ضد دمشق والالتزام بالاتفاق الذي أبرمته مع الحكومة السورية المركزية في مارس الماضي بشأن الاندماج.
من هنا، يرى البروفيسور في العلوم السياسية، عبد الله الشايجي أن أنقرة باتت تعتبر “إسرائيل” خصمًا مباشرًا لمشروعها الداعم لوحدة سوريا وقوتها، مقابل سعي تل أبيب إلى إبقاء سوريا ضعيفة ومجزأة.
وبذلك، فإن قرار قطع العلاقات التجارية لا يمكن فهمه بمعزل عن البعد الاستراتيجي؛ فهو من جهة رسالة تضامن مع غزة تؤكد أن تركيا تتصدر الصف الإسلامي في مواجهة الاحتلال، ومن جهة ثانية تحذير لـ”إسرائيل” بأن العبث بالمعادلات الجديدة في سوريا سيقابل برد تركي قاسٍ على مستويات متعددة، من السياسة إلى الاقتصاد وربما الأمن.
بهذا المعنى، يصبح القرار التركي أكثر من مجرد مقاطعة اقتصادية؛ إنه ورقة ضغط إقليمية لإعادة صياغة قواعد الاشتباك مع “إسرائيل”، وإيصال رسالة بأن أنقرة مستعدة لاستخدام أدواتها الاقتصادية والجيوسياسية لحماية أمنها القومي ومصالحها في سوريا، إلى جانب التزامها التاريخي بالقضية الفلسطينية.