ترجمة وتحرير: نون بوست
يقود محمد العباد، وهو شاب نحيل يرتدي بنطال جينز أسود ونظارات شمسية، دراجته النارية عدة مرات في الأسبوع صعودًا إلى تلٍّ من الحصى المتراكم من بقايا حطام حيّه القديم، في مدينة تقع على أطراف العاصمة السورية دمشق.
من أعلى التل، يتأمل مشهدًا يشبه تضاريس المريخ؛ حيث تمتد الرمال المسطّحة بلونها الرملي الباهت. لا يكاد يظهر ما يدلّ على أن هذا المكان كان يومًا مجتمعًا نابضًا بالحياة، يضم منازل تقليدية من طابق واحد، مبنية حول ساحات داخلية وحدائق صغيرة.
من بعيد، يستطيع العباد، البالغ من العمر 29 عامًا، أن يرى أبراج الشقق السكنية في حي المزة، وهو حي سكني راقٍ نسبيًا في دمشق، نجا إلى حد كبير من آثار الحرب الأهلية التي استمرت 14 عامًا. ويبدو بالنسبة له وكأنه عالم خيالي أشبه بمدينة أوز.
وقال العباد في أحد أيام الصيف الأخيرة، ونبرة صوته تزداد حدة: “لم يحدث شيء هناك، وهنا كل شيء مدمّر. يمكنك أن ترى أنه لم يكن هناك قصف، ولا إطلاق نار، ولا أي شيء. كلهم ممثلون وفنانون وأصحاب مال ومؤيدون للنظام. لم يصبهم أي سوء، ولم يقتربوا منهم، لكنهم دمّروا حياتنا. وهذا الأمر يجعلني غاضبًا جدًا”.
وكان حي العباد القديم، الخليج، يقع في داريا، وهي مدينة مزّقتها الحرب شأنها شأن العديد من المدن السورية الأخرى. ويُعدّ إحياؤها أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة، التي لا تزال هشّة. إذ يتعيّن عليها، بطريقة ما، أن تحشد موارد ضخمة لتوفير المأوى وفرص العمل لملايين السوريين الذين يشعرون أنهم ضحّوا بكل شيء في سبيل الإطاحة بحكومة الرئيس بشار الأسد، دون أن تُستعاد منازلهم أو تُرمّم حياتهم حتى الآن.
وتقع داريا على بُعد نحو 30 دقيقة بالسيارة من وسط دمشق، لكنها تبدو كأنها عالم مختلف تمامًا. فهي واحدة من سلسلة من المجتمعات ذات الأغلبية السنية ومن الطبقة العاملة التي تحيط بالعاصمة، والتي شكّلت العمود الفقري للمعارضة في المنطقة ضد الأسد.
لقد سعى النظام، بعزيمة واضحة، إلى جعل أماكن مثل داريا غير قابلة للعيش، فأنزل بها غضبه الوحشي. وتعرّضت للقصف بالبراميل المتفجرة والقصف المدفعي، وفي بعض الأحيان للغازات، كما فُرض عليها الحصار والتجويع، وأُفرغت من سكانها، ثم جُرّدت من كل ما يمكن حمله. وتسمع كثيرًا في الأحاديث العربية كلمة “تعفيش” – أي نهب.
وقال محمد جنينة، رئيس بلدية داريا ومهندس مدني: “في البداية، كنا سعداء لأن دمشق لم تُدمّر؛ فهي مدينة جميلة للغاية. لكن عندما نعود إلى داريا، نشعر بالدمار. لا نستطيع التوقف عن سؤال أنفسنا: لماذا حدث هذا لداريا؟ لماذا كل هذا الدمار؟”
وبعد اجتياز الدوّار الرئيسي عند مدخل داريا، تعلو الشارع العريض لافتة تُناشد الزائرين احترام ذكرى الشهداء، كتب عليها: “يرجى الدخول بهدوء، فكل خطوة هنا شهدت سقوط شهيد.”
في عام 2011، قبل اندلاع الحرب، قال رئيس بلدية داريا في مقابلة إن المدينة كانت تضم نحو 350,000 نسمة، وكان فيها عدد كبير من النجارين والكهربائيين وغيرهم من الحرفيين المهرة الذين كانوا يكسبون رزقًا جيدًا من العمل في المصانع. كما كان المستشفى الوطني، الذي يضم 160 سريرًا، يجذب الأطباء والممرضين والعاملين في المجال الطبي، إلى جانب وجود مجتمع زراعي كبير.
وتقع داريا بمحاذاة قاعدة المزة الجوية، وهي منشأة عسكرية رئيسية تضم مركز احتجاز سيئ السمعة للمعتقلين السياسيين. وقد خشيت القوات الحكومية من احتمال تسلل مقاتلي المعارضة إلى القاعدة عبر شوارع حي الخليج المتشابكة، الذي كان يقطنه نحو 40,000 نسمة، فقررت هدم كل منزل فيه لإنشاء منطقة عازلة.
لم يكن حال باقي داريا أفضل بكثير؛ إذ يشير السكان إلى أن أسوأ حدث وقع في يوم واحد كان مذبحة التي شهدتها المدينة في أغسطس/ آب 2012، حين اقتحمها الجنود وأطلقوا النار على السكان بشكل جماعي. وبحسب ياسر جمال الدين، المتحدث باسم قوات الدفاع المحلية، فقد قُتل ما لا يقل عن 700 شخص.
بعد ذلك، فرّ نحو ثلاثة أرباع السكان من المدينة. ومنعت قوات النظام الأهالي من العودة، وطالبت برشاوى ضخمة للسماح بمرور أي شيء عبر نقاط التفتيش، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسية مثل القهوة والسكر والدقيق والزيت.
كانت داريا شبه خالية بين عامي 2016 و2019، إلى أن بدأت القوات الحكومية بالسماح بعودة السكان تدريجيًا. وبحسب رئيس البلدية، بلغ عدد السكان 25,000 نسمة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عند سقوط النظام، لكنه تجاوز الآن 150,000 نسمة. ويقول ناشطون إن نحو نصف الـ5,400 شخص الذين تم اعتقالهم لا يزالون في عداد المفقودين، فيما توفي 451 منهم أثناء الاحتجاز.
الدمار في داريا مذهل في حجمه؛ حيث تصطف المباني السكنية المنهارة جزئيًا على امتداد الشوارع، فيما تتدلّى كتل من الخرسانة لا تزال معلّقة على قضبان البناء فوق الطرقات الخالية، وكأنها منحوتات شيطانية متحرّكة. وقد قدّر تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2022 أن نحو 43 بالمائة من البنية السكنية في داريا قد دُمّرت.
من حيث البنية التحتية والخدمات المتضررة، صنّف التقرير داريا كأسوأ مدينة من بين 14 مدينة شملها المسح. إذ تحتاج نحو ثلث شبكة الطرق فيها إلى إصلاحات جذرية، فيما دمّر القصف المتواصل شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي. وقد أدّى تراكم الأنقاض إلى انسداد أنابيب الصرف، ما تسبب بتسرّب النفايات إلى التربة. كما أن سبعة من أصل ثمانية مرافق صحية أصبحت شبه غير عاملة، فيما تحوّل المستشفى الوطني إلى هيكل فارغ لا يؤدي أي وظيفة.
بعد فراره إلى الخارج في عام 2013، عاد جنينة إلى داريا في عام 2020. وقال رئيس البلدية: “عندما عدت لأول مرة، كنت أتجنب دخول داريا. ولم أكن أرغب في رؤية الدمار؛ كان الأمر صادمًا. وعندما ترى منزلك، وكل ما عملت لأجله وقد دُمّر بالكامل، تشعر بالاكتئاب الشديد”.
وتُعد داريا مثالًا نموذجيًا يفسّر سبب عودة عدد قليل فقط من بين ملايين اللاجئين. فغالبيتهم لا يملكون منازل أو وظائف يعودون إليها، وغالبًا ما تفتقر إمكاناتهم إلى الحد الأدنى الذي يتيح لهم إعادة البناء.
في جوبر، أحد أحياء دمشق التي دمّرت على غرار داريا، لم يُسمح للسكان بالعودة إلا مؤخرًا.
وبعد خطبة صلاة الجمعة الأخيرة، تجمّع المصلّون مطالبين بالإسراع في إعادة الإعمار. واندلعت نقاشات حادّة بينهم حول ما إذا كان ينبغي الضغط على الحكومة أو منحها مزيدًا من الوقت.
وكان المسجد أشبه بصورة بريدية للدمار؛ إذ وقف الإمام عمر ربيعة أمام جدار إسمنتي عارٍ، مناشدًا الحكومة أن تحمي العائدين وتوفّر لهم مساكن تأويهم.
وقال: “منذ التحرير، ونحن ننتظر حلولًا عملية تُظهر لأبنائنا أن هناك تغييرًا يحدث بالفعل.” وحذّر المصلّين من الحقد تجاه من يملكون المال لإعادة البناء، مضيفًا: “لن يُبنى هذا البلد فوق كل هذه الضغائن”.
وقال وزير المالية السوري، محمد يسر برنيه، وهو اقتصادي بارز، إنه لا توجد أموال عامة متاحة لإعادة الإعمار في المستقبل القريب، وإن الحكومة تتجه نحو القطاع الخاص، وأضاف في مقابلة مقتضبة: “نحن بحاجة إلى حلول مبتكرة”.
غير أن السكان يخشون أنه ما لم تقم الحكومة بإعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية، فإن المستثمرين من القطاع الخاص سيترددون في المباشرة بأعمال البناء.
وبعض العائدين الفقراء يفترشون منازلهم القديمة المهدمة للإقامة فيها.
وقالت هند صادق، 55 عامًا، وهي أم لأسرة مكوّنة من سبعة أفراد يعيشون على أرضية إسمنتية في غرفة واحدة تم ترميمها جزئيًا: “ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه، هذا هو منزلنا”. جدران المبنى مثقوبة برصاص الحرب، ومعظم الغرف تحوّلت إلى مسارات مليئة بالأنقاض المحطّمة والنوافذ المكسورة، فيما تبرز الأنابيب المتشققة وحديد التسليح بزوايا عشوائية.
وعادت نحو ست عائلات إلى مبنى سكني مؤلف من ستة طوابق كان يضم في السابق 24 شقة. ولا يخرج أحد ليلاً، إذ تخلو الشوارع من الناس والسيارات والإنارة، فقط مجموعات من الكلاب الضالة التي تتجول في الظلام الدامس. وقالت هند: “ومع ذلك، فالحياة هنا تبقى أفضل من العيش تحت النظام السابق.”
ووافقت خديجة القرة زوجة شقيقها على ما قيل، وقالت إنها تبلغ من العمر 51 عامًا، ثم أضافت: “بالنظر إلى ما رأيته، ينبغي أن تكتبوا 500.” وعندما سُئلت عن تأثير العيش وسط هذا الدمار الكامل على حالتها النفسية، أجابت: “لقد اعتدنا عليه. فالدمار يعكس حياتنا.”
ويستأجر عباد حاليًا منزلًا في داريا، لكن عندما يطغى عليه شعور الضيق بسبب دمار منزله، يمتطي دراجته النارية ليشعر، ولو جسديًا، بالقرب من حياته السابقة. وقال: “نأتي إلى هنا لنخفف الضغط عن قلوبنا.”
وقال: “من دون دعم، لا يمكن للحي أن ينهض من جديد. قد يستغرق الأمر عشرين عامًا. الأمر لا يقتصر على داريا بالطبع – فالوضع مشابه في عموم سوريا”.
المرئيات: سيرجي بونوماريف
المصدر: نيويورك تايمز