امتدادًا لرؤيته القائمة على شعار “أمريكا أولا” يمثل ملف ترحيل المهاجرين أحد أهم القضايا المثيرة للجدل لإدارة الرئيس دونالد ترامب، داخليًا وخارجيًا، فمع بداية ولايته الثانية يناير/كانون الثاني 2025 بدأ الرئيس الجمهوري صاحب السياسة الحمائية المتطرفة في بلورة خطته الكبرى لتقليص وجود المهاجرين غير النظاميين داخل الولايات المتحدة، وتنفيذ ما وصفه بـ”أوسع عملية ترحيل في التاريخ الأميركي”.
ويتعامل ترامب مع هذا الملف كأحد الأضلاع الرئيسية في برنامجه الانتخابي، سواء في ولايته الأولى أو الثانية، متبنيًا خطابًا شعبويًا قائمًا على حماية الموارد الأمريكية من استنزاف المهاجرين، متعهدًا بترحيل الملايين منهم، فيما تشير الإحصائيات غير الرسمية إلى وجود أكثر من 13 مليون مهاجر غير رسمي داخل الولايات المتحدة، وفقًا لأحدث تقديرات معهد سياسة الهجرة لعام 2023.
وتعد أفريقيا أحد الخيارات المثلى أمام الرئيس الأمريكي لتنفيذ خطة الترحيل، فبجانب أن قطاعًا كبيرًا من المهاجرين غير النظاميين ينتمون إلى أصول أفريقية، فإن الحكومات الأفريقية ربما تكون أكثر مرونة واستجابة (تبعية) للسياسات الأمريكية من غيرها من الأنظمة الأخرى، الأمر الذي يجعلها الوجهة الأفضل لترامب.
وأمام رفض بعض الدول الأفريقية استقبال رعاياها المرحلين، خاصة الخطرين منهم، اضطرت واشنطن إلى ما يعرف بـ”الدولة الثالثة”، أي ترحيل المهاجر إلى دولة أخرى غير الولايات المتحدة وموطنه الأصلي، وهو ما يسمح بترحيل أكبر عدد ممكن من المهجرين، لا سيما من ذوي الأصول الأسيوية والأمريكية الجنوبية، والذين يمثلون الغالبية العظمى من المهاجرين غير الشرعيين.
وقوبلت تلك السياسة بمواقف متباينة من الحكومات الأفريقية، بين مؤيد ورافض ومتحفظ، وفق مقاربات وحسابات خاصة تجمع بين الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ما قد يدفع الولايات المتحدة لتوظيف ما لديها من أوراق ضغط وابتزاز في مواجهة الدول المناوئة لتوجهاتها الحمائية، ما سيكون له انعكاسه، بطبيعة الحال، على مستقبل العلاقات الأمريكية–الأفريقية بصفة عامة.
الخطة الأكبر في التاريخ
وضع ترامب البذور الأولى لخطة ترحيل المهاجرين التي سعى لأن تكون الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، خلال ولايته الأولى (2017–2021)، حين شدد قوانين الهجرة وفرض قيودًا على دخول رعايا من دول ذات أغلبية مسلمة، وجعلها محورًا رئيسيًا خلال حملته الانتخابية في ولايته الثانية، متعهدًا بترحيل ملايين المهاجرين غير النظاميين.
وبعد فوزه مباشرة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بدأ في ترجمة تعهداته إلى خطة عملية جمعت بين التشريعات الداخلية والاتفاقيات الخارجية، ففي يناير/كانون الثاني الماضي أصدر الأمر التنفيذي رقم 14159 تحت عنوان “Protecting The American People Against Invasion”، والذي تضمن عددًا من الإجراءات، أهمها توسيع استخدام الترحيل السريع لحالات تتعلق بالمهاجرين الذين لا يمكنهم إثبات إقامتهم لمدة عامين.
بجانب حجب التمويل الفيدرالي عن المدن التي يُعرف عنها دعمها للمهاجرين، وفرض عقوبات عليها، مع منح المحليات والإدارات التنفيذية صلاحيات وسلطات أوسع لتطبيق قوانين الهجرة، بما في ذلك اعتقال المهاجرين ووقف وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى الخدمات العامة، كما تبنت واشنطن حملات اعتقال ممنهجة استهدفت المهاجرين غير الشرعيين، خاصّة الذين يحملون خلفيات جنائية، في المدن الكبرى، بالتعاون بين الشرطة والحرس الوطني.
كما أقرت الإدارة الأمريكية ميزانية هي الأضخم في تاريخ البلاد لدعم السياسات الأمنية والترحيل، بلغت قيمتها 170 مليار دولار، مع اتخاذ بعض الإجراءات التي تخدم هذا التوجه، منها إنشاء 100,000 سرير احتجاز جديدة، بناء الجدار الحدودي، توظيف آلاف الضباط، وتمويل تقنيات حدودية.
وفي مارس/أذار الماضي دعا ترامب إلى تفعيل قانون الترحيل القديم المعروف باسم “قانون الأجانب الأعداء” (Alien Enemies) الصادر عام 1798، بزعم استهداف أعضاء من العصابات مثل “Tren de Aragua” الفنزويلية، وتوجيههم نحو الترحيل السريع، وفي الشهر التالي مباشرة أصدر الرئيس قرارًا يقضي بترحيل فوري لأكثر من 900 ألف مهاجر دخلوا الولايات المتحدة منذ عام 2023 باستخدام تطبيق “سي بي بي وان” الذي أطلق خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
مساء الخير ☕
📌ملفنا الذي اخترناه لك من أرشيفنا لهذا اليوم يقدم نظرة فاحصة على المصالح الشخصية وشبكة النفوذ التي تقف وراء توجهات إدارة دونالد #ترامب الثانية وانعكاساتها على الولايات المتحدة ومنطقتنا العربية، إلى جانب عوامل مؤثرة أخرى مثل خلفيته التجارية وعقليته المنفعية التي… pic.twitter.com/YXiPwm058u
— نون بوست (@NoonPost) August 29, 2025
وفي يوليو/تموز منحت المحكمة العليا الأمريكية إدارة ترامب سلطة ترحيل المهاجرين إلى دول غير بلدانهم الأصلية، وذلك بعدما ألغت أمرًا قضائيًا كان يلزم الحكومة بمنح المهاجرين المقرر ترحيلهم إلى “دول أخرى” حق الاستئناف على قرارات الترحيل، موضحة أنه بذلك ستتمتع الإدارة الأمريكية بسلطة ترحيل المهاجرين على وجه السرعة إلى دول غير وطنهم.
المتحدثة باسم وزارة الأمن الداخلي، تريشيا ماكلولين، وصفت هذا القرار – رغم الجدل المثار بشأنه داخليًا – بأنه “انتصار لسلامة وأمن الشعب الأمريكي”، وأنه أصبح بإمكان وزارة الأمن الداخلي “استخدام سلطتها القانونية وإرسال المهاجرين غير الشرعيين إلى دول مستعدة لاستقبالهم”.
أحدثت تلك الخطة انقسامات حادة داخل الشارع الأمريكي، فالداعمون لها يرونها وسيلة ناجعة للتعامل مع مخالفي قوانين الهجرة الذين قد يشكلون تهديدًا للشعب الأمريكي، كما جاء على لسان مديرة السياسات في مركز دراسات الهجرة الذي يدعم خفض مستويات الهجرة، جيسيكا فوون، التي قالت إن “إدارة ترمب تعطي الأولوية لسلامة المجتمع الأميركي على راحة هؤلاء المرحلين”.
أما على الجانب الآخر فيرى المعارضون أن عمليات الترحيل بهذه الطريقة وعبر سياسة “الدولة الثالثة” تهدف إلى إثارة الخوف بين المهاجرين، ودفعهم إلى “الترحيل الذاتي” إلى بلدانهم الأصلية، بدلاً من إرسالهم إلى دول بعيدة لا تربطهم بها أي صلة، بحسب مديرة الاتصالات في معهد «سياسة الهجرة» غير الحزبي، ميشيل ميتلشتات، التي ترى أن “هذه رسالة مفادها أنكم قد تواجهون نتيجة عشوائية للغاية، إذا لم تختاروا المغادرة بمحض إرادتكم”.
أفريقيا والدولة الثالثة.. تباين في المواقف
انقسمت الدول الأفريقية في تعاطيها مع خطة ترامب لترحيل المهاجرين استنادًا إلى سياسة “الدولة الثالثة” إلى ثلاثة أقسام:
أولا: الدول المرحبة بالمقترح.. تأتي على رأسها دولة جنوب السودان، التي تعتبر الدولة الأفريقية الأولى التي أبدت موافقة على استقبال المهاجرين المرحلين إليها من الولايات المتحدة، ففي يوليو/تموز 2025، استقبلت ثمانية أشخاص تمت ترحيلهم من أمريكا، منهم شخص واحد فقط يحمل الجنسية الجنوب سودانية، والآخرون من دول مثل كوبا وميانمار ولاوس والمكسيك.
ويُنظر إلى هذا الموقف على أنه محاولة من جوبا لكسب حسن نية واشنطن وتقديم أوراق اعتماد لديها، بهدف رفع بعض القيود المفروضة عليها وعلى قادتها، مثل حظر التأشيرات أو العقوبات المفروضة على مسؤوليها، وهي المطالب التي حتمًا ستضعها واشنطن قيد الدراسة، إن لم يكن حاليًا ففي المستقبل القريب.
هناك كذلك مملكة سواتيني (سوازيلاند سابقًا)، الدولة الأفريقية الثانية التي وافقت على استقبال المهاجرين المُرحلين من الولايات المتحدة، حيث استقبلت في يوليو/تموز الماضي خمسة من دول أمريكا الجنوبية (جامايكا، لاوس وكوبا)، واثنان من آسيا (فيتنام واليمن)، حيث تم وضعهم في المعتقلات والعزل الانفرادي، ما أثار انتقادات حقوقية حول ظروف احتجازهم.
ثانيًا: الدول التي تدرس الاقتراح، أو التي أبدت موافقة مبدئية دون استقبال أي من المرحلين حتى كتابة تلك السطور، ومن بينها رواندا، التي وافقت على تلك الخطوة بشكل أولي في أغسطس/آب 2025 وأعلنت نيتها استقبال 250 مهاجرًا، لكنها ما زالت تدرسها مع إدارة ترامب، مع الوضع في الاعتبار أنها كانت قد توصلت قبل فترة لاتفاقية أخرى مع بريطانيا لاستقبال المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين في بريطانيا.
خمسة دول أفريقية أخرى (السنغال، موريتانيا، غينيا بيساو، الغابون وليبيريا)، وضعها ترامب على رادار خطة الترحيل ضمن سياسة “الدولة الثالثة”، حيث اجتمع بقادتها في البيت الأبيض بناءً على دعوة رسمية وجهها لهم في يوليو/تموز الماضي، إلا أنه لم يصدر حتى الآن أي رد فعل رسمي من قبل تلك البلدان بشأن الموافقة أو الرفض، فيما تذهب كثير من الترجيحات إلى إبداء مرونة نسبية في هذا الأمر وفق بعض التفاهمات المشتركة بين تلك الدول وواشنطن.
ثالثًا: الدول التي رفضت المقترح.. ومنها نيجيريا على سبيل المثال، والتي أعلنت على لسان وزير خارجيتها يوسف توغار أنها لن تنصاع للضغوط التي تمارسها إدارة ترامب لقبول المرحلين الفنزويليين أو السجناء القادمين من دول ثالثة من الولايات المتحدة، مستشهداً بمغنيي الراب الأمريكيين من التسعينيات، فرقة Public Enemy، لتوضيح وجهة نظره.
وقال الوزير في مقابلة أجرتها معه قناة Channels TV الخاصة في يوليو/تموز الماضي: “كما قال فرقة الراب الأمريكية الشهيرة Public Enemy… ستتذكرون جملة من عضو الفرقة فلافا فلاف، الذي قال: ‘فلافا فلاف لديه مشاكله الخاصة. لا أستطيع أن أفعل شيئًا من أجلك يا رجل'”، وأضاف: “لدينا بالفعل أكثر من 230 مليون شخص”.
تصريحات توغار جاءت بعد تهديدات من واشنطن بفرض قيود على التأشيرات وزيادة الرسوم الجمركية على الدول التي لا تلتزم بسياسة الترحيل الأمريكية، مضيفًا: “سيكون من غير العدل أن تقبل نيجيريا 300 مرحَّل فنزويلي”، مشيرًا إلى أن القيود الأخيرة على تأشيرات المسافرين النيجيريين من قبل الولايات المتحدة لم تكن “متبادلة” بل كانت أسلوبًا للضغط.
أوراق الضغط والابتزاز
تمتلك الولايات المتحدة العديد من أوراق الضغط التي يمكن استخدامها ضد الدول التي ترفض استقبال المرحلين إليها من الأراضي الأمريكية، أبرزها فرض قيود مشددة على التأشيرات الممنوحة لمواطني الدولة المعنية أو جعلها مؤقتة وصالحة لدخول واحد فقط، كما حدث مع نيجيريا، الكاميرون وإثيوبيا، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على رجال الأعمال والطلاب والسياح، إضافة إلى المسؤولين الحكوميين، مما يخلق ضغطًا اقتصاديًا واجتماعيًا على الدولة.
كذلك التلويح بورقة الرسوم الجمركية، حيث فرض رسوم إضافية على واردات الدولة المعنية، وهو ما ألمح إليه ترامب سابقًا حين أشار إلى فرض نسبة 10% على تلك الدول، ما يضغط على اقتصادها ويجعل التصدير إلى الولايات المتحدة أقل ربحية، علاوة على بعض الإجراءات المالية والاقتصادية القاسية مثل تجميد أو تقليص المساعدات الأمريكية، القروض، أو البرامج الاستثمارية المشتركة.
وتمثل العزلة الدبلوماسية والضغط السياسي أحد الأسلحة الأمريكية في مواجهة تلك البلدان، بالتزامن مع تقييد التعاون الأمني والاستخباراتي أو المشاركة في التحالفات الدولية، والتهديد بخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية أو نقل السفارة/الممثلين الدبلوماسيين إلى مستوى أقل.
الضغط الإعلامي والدولي ربما يكون هو الآخر ورقة ضغط ناجعة بأيدي الأمريكيين، حيث شنوا حملات توبيخ وهجوم إعلامي علني ومباشر على الدول غير المتعاونة مع الولايات المتحدة، ما قد يؤثر على صورة تلك الدول على المستوى العالمي، والتي قد تتفاقم أكثر مع استخدام المنصات الدولية كالأمم المتحدة والمؤسسات المالية بهدف الضغط السياسي.
وهكذا توظف الولايات المتحدة مزيجًا من الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية والقانونية والإعلامية للضغط على الدول لقبول المرحلين، حيث تستهدف كل أداة نقطة ضعف محتملة في الدولة المعنية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، ويتوقف الأمر على مدى قوة وثبات واستقلالية كل دولة في التعاطي مع تلك الأوراق.
وعلى الجانب الآخر، تحاول بعض البلدان الأفريقية الاستثمار في الإلحاح الأمريكي لترحيل بعض المهجرين لديها، ومحاولة تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، استنادًا إلى قاعدة تجنب الصدام مع الولايات المتحدة، خشية الكلفة الباهظة لمثل تلك المواقف، وعليه يكون التفاهم والخروج بأي مكسب محتمل هو السبيل الوحيد.
وتُمثل جنوب السودان الحالة الأكثر براغماتية في هذا المسار، حيث تقدمت بقائمة طلبات للولايات المتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وإعادة تنشيط حساب الدولة في البنك الفيدرالي الأمريكي، بجانب رفع العقوبات الموقعة على بعض قيادات الصف الأول مثل نائب رئيس جنوب السودان للشؤون الاقتصادية والموضوع رهن الإقامة الجبرية بمنزله، وفق ما ذكرت صحيفة “بوليتيكو”.
في ضوء ما سبق، يبات واضحا أن ملف ترحيل المهاجرين يمثل إحدى القضايا الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل في السياسة الأمريكية المعاصرة، إذ يجمع بين أبعاد داخلية انتخابية وشعبوية وأبعاد خارجية دبلوماسية وأمنية، كما أن توظيف إدارة ترامب لمفهوم “الدولة الثالثة” وتركيزها على القارة الأفريقية يظهر بوضوح النهج الاستراتيجي الذي تتبناه واشنطن لتحقيق أهدافها، مستندةً إلى مجموعة متنوعة من أوراق الضغط الاقتصادية والدبلوماسية والقانونية والإعلامية.
وعلى الجانب الأخر، يكشف تباين المواقف الأفريقية إزاء هذا المخطط، والمتأرجحة بين الترحيب والتحفظ والرفض، عن الفجوة الكبيرة بين مصالح الدول الوطنية ومطالب القوى الكبرى، وهو ما يعكس هشاشة العلاقات الدولية في مواجهة السياسات الأحادية والمصالح المتعارضة.
وبالنهاية، يظل تحقيق التوازن بين الاستجابة للضغوط الأمريكية والحفاظ على السيادة الوطنية هو الاختبار الأبرز أمام الحكومات الأفريقية، في حين يستمر ترامب في استثمار هذا الملف سياسياً وانتخابياً لإثبات قدرة إدارته على فرض إرادتها داخليًا وخارجيًا، بما يجعل ملف ترحيل المهاجرين أحد أذرع النفوذ الأمريكي الأكثر تأثيرًا في المنطقة والعالم.