ترجمة وتحرير: نون بوست
قال جورج واشنطن في خطاب الوداع محذّرا الشعب الأمريكي:
“في مواجهة مكائد النفوذ الأجنبي الخبيثة (أدعوكم لتصدقوني، أيها المواطنون)، ينبغي أن تبقى غيرة الشعوب الحرة يقظة باستمرار، إذ إن التاريخ والتجربة يثبتان أن النفوذ الأجنبي يُعدّ من أخطر أعداء الحكم الجمهوري”.
يُقال إن نفوذ إسرائيل على الشؤون العسكرية والخارجية الأمريكية فريد من نوعه، إذ لم تمارس أي دولة صغيرة في العصر الحديث مثل هذا التحكم في سياسات قوة عظمى. إنه ادعاء مثير للقلق، لكن هل هو صحيح؟
بالطبع، حاولت قوى أجنبية عبر التاريخ التأثير في السياسة الأمريكية، لتوجيهها أو حتى التحكم في قراراتها على الساحة الدولية. لكن لم تصل تدخلاتها يومًا إلى مستوى النفوذ المتواصل الذي تمارسه إسرائيل على مراكز القوة في واشنطن. هذه القبضة المحكمة والمعقدة استمرت لأجيال، ومنعت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا من التصرف وفق مصالحها الأمنية، سواء في الشؤون الداخلية أو الخارجية.
سيكون من المفيد إجراء تحليل مقارن لفهم مدى خطورة الوضع بشكل كامل. دعونا نستعرض أربع حالات حاولت فيها قوى أجنبية التدخل في السياسة الأمريكية. ما مدى عدوانية تلك التدخلات؟ إلى أي حد شكّلت تهديدًا للأمن القومي الأمريكي؟ وهل تضررت السيادة الأمريكية في نهاية المطاف؟
عندها فقط يمكننا أن نقيس بشكل كامل مدى نفوذ الذي تمارسه إسرائيل اليوم.
محاولة فرنسية للتحكم بحليفتها الناشئة
كانت فرنسا في عهد آل بوربون عاملًا حاسمًا في استقلال الولايات المتحدة عام 1783. بعد 10 سنوات، مزّقتها الثورة وتعرّضت للغزو على يد الملكيات الأوروبية الكبرى. وفي لحظة يأس، حاولت فرنسا استمالة حليفها السابق، الولايات المتحدة. أرسلت “المواطن” إدموند شارل جيني ليطلب الدعم من الرئيس واشنطن، لكنه أغرى الأمريكيين بالانخراط في مخطط للقرصنة يستهدف السفن البريطانية والإسبانية.
كانت واشنطن قد أعلنت للتو الحياد في الحرب الأوروبية التي تخوضها فرنسا، لذلك اعتُبرت تلك المساعي محاولة سافرة لجرّ أمريكا إلى الحرب. سارعت واشنطن إلى رفض خطة جيني، لكن الولايات المتحدة – الدولة الناشئة حينذاك – حافظت على علاقتها الجيدة مع فرنسا. تمت صفقة شراء لويزيانا من فرنسا في 1803، ثم في عام 1812، قاد الرئيس ماديسون البلاد إلى الحرب مع بريطانيا معتقدًا أن نابليون على وشك هزيمة خصم أمريكا القديم. هكذا بقيت الاستراتيجية الأمريكية تحت ظل راعيتها فرنسا، ضمن علاقة مفيدة للطرفين، قبل أن تتلاشى تلك العلاقة بعد جيل واحد أو أكثر قليلًا.
بريطانيا وفرنسا تستغلّان الكونفدراليين
خلال الحرب الأهلية الأمريكية، خاضت بريطانيا حربًا غير مباشرة ضد الولايات المتحدة عبر وكيلها، الولايات الكونفدرالية الأمريكية. سلّمت بريطانيا الكونفدراليين مليون بندقية، مما ساعد على استمرار تمردهم. كما أن المدرّعات التابعة للبحرية الملكية البريطانية، التي تمركزت لعدة سنوات في برمودا، أضعفت بشكل كبير الحصار الذي فرضه الاتحاد.
كان هدف بريطانيا الاستراتيجي مشابهًا إلى حد ما لأهداف الولايات المتحدة حاليا ضد روسيا في حرب أوكرانيا: تقويض قوة منافسة كبرى تهدد نفوذها العالمي. كان ذلك تلاعبًا على واجهتين: تسليح الجنوب، وفي الوقت نفسه إجبار الشمال على تقبّل هذا التخريب بالوكالة – إذ إن أي مقاومة مسلّحة كانت ستدفع الدولة الفيدرالية إلى حرب عالمية مع بريطانيا وفرنسا. أما فرنسا، فقد اكتفت بدور التابع لبريطانيا، مستغلة انشغال الولايات المتحدة بالحرب الأهلية لغزو المكسيك. مع ذلك، سرعان ما تبخّرت آمال بريطانيا: بحلول عام 1864، ومع تراجع قضية الجنوب، اضطرت بريطانيا وفرنسا إلى “التخلّي عن الرهان” على الكونفدراليين.
بريطانيا اليائسة تتلاعب بالقوة العالمية الصاعدة
بعد اندلاع الحرب العالمية عام 1914، وجد الحلفاء أنفسهم يعتمدون بشكل كامل على الأسلحة الأمريكية. ارتكز المجهود العسكري خلال الحرب على ملايين القذائف المدفعية والبنادق والمتفجرات المصنّعة في الولايات المتحدة، والتي تدفقت بفضل القوة الصناعية الأمريكية الهائلة.
سعت الطبقة الحاكمة اليائسة في بريطانيا إلى جرّ الولايات المتحدة للانخراط في الحرب بشكل مباشر. لتحقيق هذا الهدف، استخدمت كل وسائل المنطقة الرمادية في ترسانة جلالة الملك: دعاية مبالغ فيها، تسريبات استخباراتية مثيرة، وربما عملية راية مزيفة خطيرة للغاية. ساهمت عملية استخباراتية بريطانية ناجحة -برقية زيمرمان- في ترجيح الكفة. وهكذا، تم جرّ الولايات المتحدة عنوة إلى الحرب العالمية الأولى.
كانت جهود بريطانيا – أو جهود وينستون تشرشل تحديدًا – في دفع الولايات المتحدة نحو الانخراط في الحرب العالمية الثانية أكثر دهاء وإصرارا مما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى. لكن في ظل الدعم الكامل الذي قدمه فرانكلين روزفلت وحماسه في دخول الحرب، يصعب وصف تلك الجهود بأنها تلاعب بالسياسة الخارجية الأمريكية.
الاتحاد السوفيتي المحاصر يتلاعب بالقوة العالمية
كان الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين متخلفا صناعيًا ومعزولا دوليًا، وقد وجد في إدارة روزفلت “التقدمية” حليفا متعاطفا بعد عام 1933. غير أن فتح الأرشيفات السوفيتية لفترة وجيزة بعد عام 1991 كشف تغلغل مئات الجواسيس الأمريكيين الشيوعيين داخل الحكومة الأمريكية في تلك الفترة، ووصل العديد منهم إلى أعلى مستويات النفوذ. بالإضافة إلى ذلك، قدمت الولايات المتحدة تنازلات هائلة:
أولًا، أعفت الاتحاد السوفيتي فعليًا من كامل ديونه الحربية المتراكمة خلال الحرب العالمية الأولى، والتي بلغت 150 بالمائة من الناتج المحلي الأمريكي (كانت الولايات المتحدة تمر بفترة الكساد العظيم).
ثانيًا، منحت الاتحاد السوفيتي حق الوصول إلى تكنولوجيا الطيران الأمريكية، الأفضل عالميًا.
ثالثًا، شجعت الشركات الأمريكية الكبرى على بناء وتشغيل منظومة صناعية سوفيتية جديدة، مما ساعد في تحقيق حلم ستالين بالتصنيع على مستوى عالمي. هذا فضلًا عن أن السوفييت نجحوا أيضًا في سرقة القنبلة الذرية ونظام إيصالها، أي طائرة بي-29. وبشكل عام، كان ذلك درسًا متكاملًا في فنون التلاعب الاستراتيجي.
باختصار، تشترك جميع هذه الحملات في خصائص عامة:
كانت الحملات السابقة غير أيديولوجية إلى حد كبير، واتسمت في جوهرها بـ”الواقعية” والانتهازية. غطى جيني مخططاته ببريق الأخوة الثورية، تمامًا كما روّج ستالين للأخوة الديمقراطية في الكفاح ضد الفاشية.
مع ذلك، فإن الطموحات الثورية كانت تعتبر المساعدة الأمريكية هدفًا مركزيًا. كانت الجمهورية الفرنسية والاتحاد السوفيتي والإمبراطورية البريطانية (بعد 1914) في حاجة ماسة إلى الولايات المتحدة للحصول على الموارد والمال. وعلى النقيض، كانت بريطانيا وفرنسا خلال الحرب الأهلية مجرد دولتين انتهازيتين، وكان من مصلحة بريطانيا الاستراتيجية إخضاع أمريكا.
ركزت عمليات التأثير السابقة على الوضع الراهن، ولم يكن الهدف التأثير على السياسة الأمريكية بشكل دائم، بل كان الهدف من التأثير السياسي هو تحقيق مكاسب قصيرة الأجل في خضم الأزمة: حدث ذلك في حالة الجمهورية الفرنسية المحاصرة أوروبيا، وبشكل أوسع بالنسبة للاتحاد السوفيتي المعزول والمفلس والمتخلف صناعيًا، وكان دخول الولايات المتحدة في الحرب (بعد عام 1914) مطلبًا وجوديًا لبريطانيا.
كان التأثير ذا طبيعة مؤقتة في تلك الحالات، بل إن محاولات التأثير على أمريكا بعد أعوام 1865 و1918 و1945 أدّت إلى ردود فعل سياسية عكسية: على سبيل المثال تعويضات “ألباما”، ورفض الانضمام لعصبة الأمم، وكذلك الخوف الأحمر والحرب الباردة.
هل كانت تلك الحملات ماكرة ومخادعة ومؤذية على مستويات متعددة؟ نعم. ولكن جميع حالات التأثير الأجنبي العدواني لا تُقارن بعمليات السيطرة الاستراتيجية التي مارستها إسرائيل على مدار الثمانين عامًا الماضية.
العملية الإسرائيلية مدفوعة بالأيديولوجيا، ولا تشبه الشعارات الجوفاء التي تبنّاها جيني أو ستالين. “العملية” الإسرائيلية في غزة تحركها أهداف ميسيانية تمتدّ جذورها لعقود، والأسوأ أن أكثر أهدافها سهولة على الساحة السياسة الأمريكية (المحافظون الإنجيليون) تحركهم أيضا أهداف ميسيانية وعقيدة نهاية العالم، والجائزة المنشودة للجميع هي “إسرائيل الكبرى“، ولا شيء أقلّ من ذلك.
هذا هو ما يحرّك أكثر العناصر تطرفًا في اليمين الإسرائيلي – والليكود بأكمله – والذي أصبح أيضًا مصدر إلهام لداعميه الجمهوريين وبعض أقوى الشخصيات في واشنطن اليوم، مثل رئيس مجلس النواب “مايك جونسون”، والسفير الأمريكي في إسرائيل “مايك هاكابي”، وحتى وزير الدفاع “بيت هيغسِث”.
كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
هناك ثلاث كتل أمريكية ميسيانية قوية حلّت محلّ حقبة “الواقعية السياسية” في واشنطن، والتي انتهت مع إدارة بوش الأولى. أولًا، صعود التيار الميسياني المحافظ الجديد (العلماني)، الذي يمثله شخصيات مثل ريتشارد بيرل وبول وولفويتز، الذين رأوا في إسرائيل مصلحة أمريكية محورية في إطار تحقيق مهمة أمريكا العالمية. ثم ظهرت كتلة “الصهيونية المسيحية”، التي احتلت موقعًا مركزيًا في إدارة ترامب. وأخيرًا، فإن اللوبي الإسرائيلي المنظّم والمموّل جيدًا لم يكن أكثر هيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة مما هو عليه حاليا.
شكّلت هذه القوى مجتمعة المحرّك الذي يدعم رؤية “إسرائيل الكبرى” ويؤيد الحكومة الإسرائيلية التي يهيمن عليها حزب الليكود اليميني منذ نحو نصف قرن.
بالتالي، فإن عملية التأثير الإسرائيلية تختلف عن سابقاتها في التاريخ الأمريكي. لا يرتبط هذا التأثير بوضع مؤقت، بل إن إسرائيل ملتزمة بخطة طويلة الأمد ومصمّمة بعناد على جرّ أمريكا معها في هذا الطريق. حربها المستمرة مع الإسلام، وما تسميه “الإرهاب”، تشير إلى صراع طويل الأمد يشبه الحروب البونيقية. بل إن إسرائيل مهيّأة لحروب تمتدّ لقرون، وهو ما ينطوي على تداعيات خطيرة وبعيدة المدى.
من جانب آخر، كانت عمليات التأثير الأجنبي – كما تُظهر الحالات التاريخية السابقة – تعتمد على حسن نوايا أولئك الذين يستهدفهم التأثير. تعاطف الأمريكيون مع فرنسا في حربها ضد أوروبا، وكان قادة الكونفدرالية يعتقدون أن الطبقة الحاكمة البريطانية تقف إلى جانبهم، وكان الرئيسان وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت يدعمان الحلفاء، لا دول المحور، كما أن إدارة روزفلت كانت مليئة بـ”الرفاق” الراغبين في التحالف مع الشيوعية ضد الفاشية.
لكن على النقيض من ذلك، فإن تدمير إسرائيل لقطاع غزة عبر “الغزو والتهجير والاستيطان“، يواجه تنديدًا متزايدًا من الأمريكيين، بما في ذلك غالبية اليهود الأمريكيين. لكن ردّ مؤيدي “إسرائيل الكبرى” من الإسرائيليين والأمريكيين يتمثّل في خلق مسارات قانونية لقمع حرية التعبير المكفولة بموجب الدستور، ولا سيما اعتبار أي انتقاد للحكومة الإسرائيلية معاداة للسامية. تتطلّب هذه الاستراتيجية رقابة أمنية على الحريات الأمريكية: أي إخضاع الهوية الأمريكية ذاتها.
بالتالي، فإن حملة التأثير الإسرائيلية تُعدّ غير مسبوقة في نطاقها ومدى نجاحها، وتهدّد سيادة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى طوال تاريخها.
المصدر: ريسبونسيبل ستيتكرافت