قبل الثامن من ديسمبر /كانون الأول 2024 ليس كما بعده في سوريا، إلا أن هذا التحول كان مختلفًا في محافظة القنيطرة وتحديدًا في المنطقة العازلة منها، فما هي إلا ساعات قليلة بعد إعلان سقوط نظام الأسد، حتى أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن عملية في المنطقة العازلة جنوب غرب سوريا.
أمر نتنياهو الجيش بالسيطرة على المنطقة، وتوالت بعدها التوغلات الإسرائيلية، وترافقها البيانات والتصريحات التي تتحدث عن حماية أمن إسرائيل، وصولًا لإنشاء قواعد عسكرية، متجاهلين حياة وأمن ما يقارب 40 ألف سوري في العازلة و113 ألف في عموم القنيطرة.
شوارعٌ تغيرت معالمها ومناطقُ تحولت لنقاطٍ عسكريةٍ مغلقةٍ
أثرت العمليات العسكرية الإسرائيلية بشكل مباشر على حياة سكان القنيطرة في مختلف النواحي. ولسان حالهم يقول: “لم نشهد تحريرًا، بل انتقلنا من سيطرةِ نظام الأسد إلى احتلال إسرائيلي في أوج طغيانه”، فاليومُ الذي كان فجرَ حريةٍ منتظرةٍ لأكثر من 54 عامًا تحول لبداية فصلٍ جديدٍ من فصول معاناة السوريين.
تكاد تنعدم حركة التنقل في المنطقة العازلة باستثناء أوقات الذهاب للدوام صباحًا والعودة بعد الظهر، حيث يخرج الطلاب إلى مدارسهم والموظفون إلى وظائفهم. والوجهةُ الرئيسيةُ تكون في الغالب مركز المحافظة، مدينة السلام وبلدة خان أرنبة، إلا أن هذه الطرقات ليست دائمًا سالكة، هناك احتمال أن يواجه المواطنون نقطةَ تفتيشٍ مؤقتةٍ لجيش الاحتلال، أو طريقًا مغلقًا بسببهم أيضًا بشكل مؤقت أو ربما دائم. وفي كلتا الحالتين، لا تكون الأمور على أفضل ما يرام.
يجري جنود الاحتلال تفتيشًا دقيقًا للمارة، يسألونهم أسئلةً شخصيةً وأسئلةً عن المنطقة، يفتشون الهواتف المحمولة، يلتقطون صورًا للهويات ولأصحابها.
أمجد باير (26 عامًا)، وهو طالب في كلية الإعلام، تعرض للإيقاف والتفتيش على أحد الحواجز خلال عودته من الجامعة، قائلًا: “قاموا بتفتيش الجوال والتقاط صورة لي ولهويتي، واستجوبوني بأسئلة شخصية. إنهم ينتهكون خصوصية المواطنين. بعد تلك الحادثة أصبحت أتجنب المرور من الطرقات التي تشهد عادةً تواجدًا لنقاط تفتيش الاحتلال”.
أما إذا كان الطريق مغلقًا، يضطر السائق لسلك طرقٍ أخرى، زراعيةٍ أو وعرةٍ، حتى لو كانت حالة طوارئ تستدعي الوصول بأقصى سرعة. يوسف الحجي، شابٌ أصيب إصابةً بليغة خلال عمله، يقول: “في طريقي للمشفى، صادفنا دوريةً إسرائيلية. على الرغم من حالتي الصحية السيئة، منعتنا من المرور واضطررنا لتغيير الطريق. وصلنا بعد 20 دقيقة من الوقت الذي كان يفترض بنا أن نصل فيه”.
أغلق جيش الاحتلال بشكل دائم الطريق الرئيسي الذي يربط بين الريف الشمالي والريف الأوسط للمحافظة. ويغلق بشكل مؤقت بعض الطرق بين القرى، مما يضطر السكان لسلك طرقات زراعية أو طرق بديلة، تتحول من خلالها المسافة الجديدة إلى الوجهة المطلوبة، لضعف الأصلية أحيانًا.
ليست الطرقات فقط، بل محيط القواعد العسكرية أصبح منطقةً عسكريةً مغلقةً أيضًا، حيث يحظر الدخول إليها تحت أي سبب، ما منع السكان من الوصول إلى أراضيهم تحت طائلة الاعتقال أو الاستهداف المباشر، كما أدى إلى حرمانهم من مصدر رزقهم الأساسي وهو الزراعة أو رعي الأغنام.
View this post on Instagram
محمية جباثا الطبيعية، تعد من أكبر الأغطية النباتية في الجنوب السوري، لكن قوات الاحتلال حولتها إلى منطقة عسكرية، فجرف قرابة 50 دونمًا من أشجارها المعمرة، واقتطع 7000 دونمٍ من المحمية والحراج وأراضي المزارعين لاستحداث تلك القاعدة، وإنشاء مساحةٍ مغلقةٍ من حولها.
محمود غانم، مزارع من بلدة جباثا الخشب، يقول: “اعتدتُ على تفقد البستان كل يوم، لكن هذا الأمر لم يعد متاحًا الآن. البلدة بدون المحمية والحراج بلا روح، خسرنا أراضينا وأجمل مكان في القنيطرة”.
هذا الحظر طال أيضًا سد المنطرة، أكبر سدود الجنوب، والذي يعد متنفسًا لأهل القنيطرة مع المنتزه المبني على ضفافه، إذ لم يعد مسموحًا الوصول إلى السد سوى للعاملين عليه.
كيف يعيش السكان واقعهم الجديد؟
“أستطيع التعبير بكلمة واحدة عن الواقع الذي نعيشه (كابوس)”، هكذا وصفت الناشطة عائشة الطحان الوضع في قرية يسيطر الاحتلال على تل فيها ولا يبعد عنها هذا التل سوى عشرات الأمتار.
قلق وخوف، هذا ما يعيشه الأهالي، فإطلاق الرصاص شبه اليومي من الرشاشات يثير الرعب في نفوس الكبار والصغار، وعادة ما يجري في الصباح الباكر أو في أوقات متأخرة. ليس وحده الرصاص مرعبًا، بل حديث الجنود بالعبرية عبر مكبرات الصوت يُشعر الأهالي وكأنهم في ساحة معركة.
الدوريات التي تجوب أنحاء المنطقة العازلة وما بعد العازلة تدفع الأهالي إلى عدم الخروج ليلاً، تجنبًا لأمورٍ لا يمكن التنبؤ بها إذا صادف خروجهم وجود دورية للاحتلال. وفي بعض الأحيان، تكون التوغلات، خاصةً الليلية منها، بهدف مداهمة وتفتيش المنازل، وهنا يعمل أصحاب المنازل على إخفاء أموالهم وربات البيوت على إخفاء مصاغهن الذهبي بعد تكرار حالات السرقة من قبل جنود الاحتلال.
“تمر أيامٌ لا ينام فيها المرء خوفًا على نفسه وعلى أهل بيته، وخوفًا من المجهول”، هذا ما أضافته عائشة بعد أن شهدت هي وعائلتها مداهمةً لمنزلهم من قبل قوات الاحتلال، واحتجزوا أخيها لساعاتٍ قبل الإفراج عنه.
أما أزيز طائرات الاستطلاع “الزنانة” فيرسم مشهدًا يشوبه التوتر على أرض المحافظة. وتحليق الطائرات الحربية يجعل الجميع في حالة استنفار وترقب.. ما هو المكان المستهدف التالي؟
عائلات هٌجّرت، بيوت دمرت، وبقية باقية تحت الاحتلال
يوم الثامن من ديسمبر 2024، ظن السوريون أن ملف التهجير والنزوح في سوريا سيُطوى، لكن ما حصل صبيحة يوم التحرير وبعده كان مغايرًا لكل التوقعات، فقد هُجّر جميعُ سكانِ قريةِ الرواضي، وهدم الاحتلال منزلين فيها.
وبعد شهرين من التهجير، سمح لهم بالعودة إلى منازلهم. وفي قريةِ الحميدية، هُجِّر سكانُ حيٍّ كامل (أبو شطبة)، وبعد 6 أشهر هدمَت قواتُ الاحتلالِ كاملَ منازلِ الحي، والبالغ عددها 15 منزلًا.
التقيت في بلدةِ جباثا الخشب بمحمد سليمان (45 عامًا)، موظف حكومي، من سكانِ الحميدية، أجبره الاحتلال على ترك منزله بتاريخ 9/12/2024، وبتاريخ 16/6/2025 هدم الاحتلال المنزل. يقول: “أجبروني على ترك بيتي وترك كل ما فيه، لم آخذ معي شيئًا. قاموا بهدمه، وبعد الانتهاء استدعونا لنخرج أثاثنا من تحت الردم. الآن أنا وعائلتي بلا بيت. نعيش في غرفة في بيت أهلي الذي هو أيضًا في منطقة قريبة من قواعد الاحتلال. شبح التهجير لا يزال يلاحقني”.
يعاني السكان المتبقون في الحميدية من ضغط الاحتلال الذي يحاول، بحسب أقوالهم، أن يشرعن وجوده ويظهر بوجه إنساني من خلال تقديم عروض شتى كتوزيع سلال غذائية وطبية وتقديم خدمات مختلفة، لكن ما أن يتم رفض هذه العروض حتى يظهر الوجه الحقيقي للاحتلال، وتصل للأهالي تهديدات بالتهجير. وتقوم الدبابات بتكسير وتعطيل أنابيب المياه، ومن بعد ذلك يُمنع الأهالي أو أي جهة من إصلاحها.
حتى طلاب المدارس طالتهم المعاناة، فلم يعد بإمكان العشرات منهم الذهاب لمدرسة القرية بسبب القاعدة العسكرية ومنع التنقلات في محيطها، فاضطروا لنقل تعليمهم إلى مركز المحافظة (مدينة السلام). المسافة إلى المدرسة الجديدة تستغرق حوالي النصف ساعة سيرًا على الأقدام، لكن لا حل آخر لهؤلاء الطلاب.
أساليب الاحتلال متعددة في فرض وجوده، والمخاطر التي يواجهها أهالي الحميدية ليست بقليلة، إلا أنهم لا يزالون متمسكين بقريتهم. عماد الدين، مهندس مدني يسكن في مكان قريب من قاعدة الحميدية، يقول: “اضطررتُ للذهاب إلى دمشق لبعض الوقت لإنجاز المهام المتراكمة. صوت الزنانة، تدريبات الجنود وحركة الدبابات من وإلى القاعدة، جميعها تؤثر على تركيزي وإنتاجيتي، وعلى الرغم من هذا لن أترك قريتي لجنود الاحتلال”.
يعيش سكان القنيطرة اليوم هاجس التهجير، إذ إن انتهاكات الاحتلال المستمرة فرضت عليهم واقعًا ينعدم فيه الأمان والاستقرار، وبات وجودهم في أراضيهم ومنازلهم تحت التهديد، لكن رغم هذا الواقع القاسي الذي يضيق الخناق عليهم يومًا بعد يوم، يبقى التمسك بالأرض الحقيقة التي لن يستطيع الاحتلال تغييرها في القنيطرة.