صدرت عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، بداية سبتمبر/أيلول الجاري، الورقة 85 من سلسلة “أوراق إسرائيلية” تحت عنوان: “تهجير سكان قطاع غزة: الخطط الرسمية والتوصيات اليمينية وتحليل العمليات العسكرية خلال الحرب 2023-2025”، والذي أعدّها وقدّم لها الباحثان وليد حباس وياسر مناع.
تقدّم هذه الورقة الواقعة في 204 صفحات، حسب وصف المركز، 15 مادة إسرائيلية مترجمة حول تهجير سكان قطاع غزة خلال الحرب الجارية، تشمل خططًا ووثائق رسمية، ومقالات رأي، وتقارير إعلامية، ودراسات أكاديمية، وندوات حوارية تعكس الحضور البارز لخطاب التهجير خلال الحرب الحالية على المستوى الرسمي، والعسكري، بالإضافة في أوساط العديد من المثقفين والأكاديميين والدبلوماسيين ومراكز الأبحاث والتفكير في “إسرائيل”.
بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في أعقاب عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، متسببة في دمار هائل وقاسٍ، حيث وصل حجم الدمار في البنية العمرانية إلى نحو 78%، ما جعل القطاع “منطقة منكوبة طاردة للحياة الإنسانية”، ما أدى إلى موجات غير مسبوقة من النزوح الداخلي، وأعادت إلى الواجهة فكرة “الترانسفير” أو التهجير القسري لسكان القطاع.
وهذا ما تحاول الورقة تسليط الضوء عليه، حيث ترتكز على أن فكرة التهجير ليست مجرد استجابة طارئة لظروف الحرب الراهنة، بل هي امتداد لمشروع أيديولوجي ومؤسسي متجذر في الفكر الصهيوني منذ بدايته، كما تُظهر أن الحرب الحالية تُعَدُّ “فرصة ذهبية” لإحياء هذا المشروع وتطبيقه بشكل عملي، بعد أن ظل في خانة الأحلام لعقود.
من هنا، نحاول طرح قراءة تحليلية ونقدية للوثائق والمواد المقدمة، وكشف الروابط بين الأبعاد التاريخية، السياسية، العسكرية، والقانونية، كما استنتاج علاقات سببية وأنماط متكررة، وتحديد الأطراف الفاعلة في هذا المشروع، في ظل راهنية المشهد المأساوي والمعقد في قطاع غزة.
الأسس التاريخية والأيديولوجية للترانسفير: سوابق “الهجرة الطوعية”
يتضح أن فكرة “إخلاء الأرض” قد رافقت الفكر الصهيوني منذ نشأته، ففي عام 1895، طرح ثيودور هرتسل مقترحات حول “دفع السكان المعدَمين إلى ما وراء الحدود” عبر الحوافز الاقتصادية، ما يوضح أن فكرة “الترانسفير” لم تكن مجرد رد فعل على الصراع، بل كانت جزءًا أصيلاً من الرؤية الاستيطانية التي سعت إلى إقامة دولة يهودية بأغلبية سكانية واضحة.
كانت نكبة عام 1948، بمقربة شبه كاملة على تحقيق عملي لهذا “التغير الديموغرافي” الذي صبّ في مصلحة “إسرائيل”. في تلك الفترة، فتم تشكيل لجان “ترانسفير” غير رسمية برئاسة يهود بارزين في الحركة الصهيونية مثل يوسف فايتس وموشيه شاريت، حيث كان الهدف منع عودة اللاجئين بأي ثمن، فيما صرّح دافيد بن غوريون، حينذاك، بضرورة “منع عودتهم بأي ثمن”.
“ارحلوا إلى حيث يشبهكم”.. الوطن العربي كـ”مستودع ترحيل” للفلسطينيين
أما بعد النكسة، عام 1967، جددت “إسرائيل” محاولاتها في تهجير السكان، وذلك عبر خطة سرية لوزير الأمن آنذاك موشيه ديان، التي عُرفت بـ “الدفع والجذب”، وكانت تهدف إلى تقليص عدد سكان غزة من 450 ألفًا، قرابة 80% منهم لاجئون، إلى 100 ألفًا فقط، وكانت تعتمد آلية “الدفع” على الإبقاء على معدلات بطالة مرتفعة في القطاع، بينما يتمثل “الجذب” في توفير فرص عمل وحوافز مالية في الضفة الغربية، ما يوضح أن فكرة “الهجرة الطوعية” ليست مجرد رغبة فردية، بل هي نتاج لظروف مصممة خصيصًا لإنشاء إكراه ممنهج للوجود والبقاء في أرض غزة، فما يُقدَّم على أنه “حل إنساني”، تاريخيًا، هو في الواقع أداة لتفريغ الأرض من سكانها.
باءت هذه التجربة بالفشل، حيث نجحت الخطة في تهجير 20 ألفًا شخصًا فقط من أصل 350 ألفًا كانت تستهدفهم، كما أن الخطة واجهت إدانة دولية وشكوى رسمية من مصر والأردن في الأمم المتحدة، ما أدى إلى وقفها. هذه التجربة التاريخية تثبت أن الضغط السياسي من الدول العربية والمجتمع الدولي كان كافيًا لإفشال خطة التهجير، وهذا ما يظهر، وإلى الآن، أن أي خطة تهجير مستقبلية لن تنجح إلا إذا تم تحييد هذه العوامل، وهو ما تسعى إليه الخطط الحالية عبر الحصول على دعم وموافقة أمريكية وعربية واضحة ومباشرة.
خطط التهجير ما بعد السابع من أكتوبر
مع اندلاع حرب الإبادة، عادت فكرة التهجير إلى الواجهة بصفة رسمية ومؤسساتية، فقد كشفت وثيقة مسربة من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 عن مقترح لـ “إخلاء السكان المدنيين من غزة إلى سيناء”، فيما كانت تعتبر أن هذا الخيار “يحقق نتائج استراتيجية إيجابية وطويلة الأمد لصالح إسرائيل”، وقدرتها على تحقيق “ردع حاسم” ضد أي تهديدات مستقبلية.
وقد تحولت هذه الفكرة لاحقًا من مجرد ورقة مفاهيم إلى قرار حكومي رسمي، حيث صادق المجلس الوزاري الأمني-السياسي (الكابينت) في مارس/آذار 2025 على قرار ب/176، الذي أمر بإنشاء “مديرية النقل الطوعي” في وزارة الأمن، وتوكل لهذه المديرية مهمة تنسيق الاستعدادات لنقل الفلسطينيين “طوعياً” إلى دول أخرى عبر مسارات برية وبحرية وجوية، بما يتوافق مع القانون الإسرائيلي والدولي.
هذه السلسلة المتتابعة من الخطوات – من طرح الفكرة في الأيديولوجيا، إلى الأبحاث والدراسات (معهد القدس، مركز بيغن) مثالًا، ثم تبنيها كـ “ورقة مفاهيم” في وزارة الاستخبارات، وأخيرًا تحويلها إلى قرار حكومي ومؤسسة رسمية (المديرية) – يؤكد أن التهجير ليس مجرد خطاب طارئ، بل هو عملية تخطيط ممنهجة ومؤسساتية، تحاول قدر إمكانها استغلال وضع القطاع، الذي أنتجته الحرب، لبدء تنفيذها.
تتضمن الخطط الحالية مقاربة عسكرية واضحة تهدف إلى تحقيق الأهداف الديموغرافية عبر التدمير. وقد جاءت “خطة الجنرالات” التي كتبها غيورا آيلاند، الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، لتقترح تهجير 300 ألفًا مدنيًا من شمال غزة قبل فرض حصار شامل على من تبقى من المقاتلين، كما إنه يبرر خطته بأنها “أكثر الوسائل فعالية لإنهاء الحروب بسرعة، مع تقليل عدد القتلى، سواء من جانبنا أو من المدنيين”.
فيما يُظهر تحليل هذه الخطط أن الأهداف العسكرية المعلنة، وأهمُّهما القضاء على حماس، تتشابك بشكل وثيق مع الأهداف الديموغرافية (خلق فراغ سكاني)، فالتدمير المادي الواسع الذي لحق بالبنية العمرانية للقطاع يُستخدم كأداة لخلق “واقع طارد للحياة”، وهو ما يصبح بدوره مبررًا لـ “الهجرة الطوعية”، والتي تتيح عملية عسكرية أكثر كفاءة، حيث يولد التدمير نزوحًا، والنزوح يبرر التهجير، والتهجير يخدم الأهداف العسكرية والأمنية طويلة المدى.
الأيديولوجيا اليمينية كوقود: من خطاب إلى خطة
تُعدّ الخطابات الصادرة عن اليمين الإسرائيلي المتطرف وقودًا أيديولوجيًا لخطط التهجير، ففي مؤتمر “الاستيطان يجلب الأمن” الذي عُقد في القدس، أواخر عام 2024، دمج الوزراء إيتمار بن غفير وإلياهو ليبرمان ودانييلا فايس بين البعد التوراتي (حرب “العماليق”)، والبعد الأمني (الاستيطان يجلب الأمن)، والبعد السياسي (التهجير كحل)، ما جعل الخطاب غير مقتصرًا على المبررات الأمنية، بل يذهب إلى جوهر الرؤية الدينية-القومية التي ترى في إخلاء الأرض شرطًا لازمًا للخلاص.
فـ “الجيش الإسرائيلي والاستيطان جسد واحد”، وطرد الغزيين “عدل تاريخي”. هذا التزاوج يظهر أن الدوافع ليست فقط براغماتية، بل هي رؤية شاملة بدوافع متعددة ومتداخلة، ومن هنا، برز دور مراكز الأبحاث مثل “معهد القدس” (JISS) في تسويق التهجير كحل “إنساني” و”استراتيجي”، ما يعكس محاولة لتقديم الفكرة المتطرفة في قالب أكاديمي لزيادة قبولها في الأوساط الثقافية والحقوقية.
التلاعب بالمفاهيم: من “الترانسفير” إلى “الهجرة الطوعية”
تتجنب الوثائق الإسرائيلية مصطلح “التهجير القسري” المحظور قانونًا، وتستعيض عنه بـ “النقل الطوعي” و”الأسباب الإنسانية”، وذلك ليس مجرد تلاعب لفظي، بل هو محاولة لـ “هندسة الموافقة”، فحوار “مؤتمر قطيف” يكشف أن الموافقة لا تُعتبر حقيقية إذا كانت نتيجة لـ “إكراه هيكلي” ناتج عن تدمير كامل للبنية التحتية وحرمان من الموارد الأساسية، فيما بدا أن الهدف من هذا التلاعب هو توفير “شرعية” قانونية للعملية أمام محاكم دولية مثل لاهاي، عبر الادعاء أن السكان اختاروا المغادرة بأنفسهم.
أيضًا، يُستخدم خطاب نزع الصفة الإنسانية كتمهيد للتهجير، ففي مقالة بعنوان “لا يوجد صالحون في غزة”، تُقدم حجة تقول: “إن المجتمع الغزي بأكمله، وليس فقط حماس، هو شريك في العنف”. هذا الخطاب يخدم هدفًا مزدوجًا: الأول هو نزع الصفة الإنسانية عن الضحية وتبرير استهدافها جماعيًا، عبر القول إنها “مجتمع اختار الكراهية”؛ والثاني، هو تبرير عدم جدوى أي حلول سياسية أو اجتماعية مستقبلية في غزة، مثل مشاريع إعادة الإعمار. هذا الخطاب “يمأسّس” الكراهية ويحولها إلى أساس منطقي للسياسة.
كما يُعدّ الهجوم على مؤسسة مثل الأونروا ليس مجرد انتقاد لإدارتها، بل هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية التهجير. فهي كمؤسسة، تُعتبر “جهازًا يهدف إلى تخليد اللجوء”، ويُنظر إلى تدميرها على أنه خطوة ضرورية لإلغاء صفة اللاجئ الفلسطيني ودفن فكرة “حق العودة”، وبالتالي، تصفية القضية الفلسطينية كقضية سياسية.
توضح النصوص أن وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تتميز بولايتها الإنسانية البحتة، إذ تُعرّف اللاجئ بأنه الشخص الذي يفر من العنف أو الاضطهاد ولا يمكنه العودة إلى وطنه الأصلي، وتتمثل وظيفتها السياسية في حل أزمات اللجوء. في المقابل، تُصنَّف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بأن ولايتها إنسانية وسياسية في آن واحد، حيث تعتبر أن وضعية اللجوء يمكن توريثها بغض النظر عن الجنسية أو الإقامة، وترى بعض الأطراف الإسرائيلية أن وظيفتها السياسية هي تخليد اللجوء وحق العودة كأدوات تعرقل الطموحات والخطط الإسرائيلية لتهجير قطاع غزة.
“القوى العاملة” و”الوطن البديل”: أصحاب المصالح والشركاء المحتملون
تتماشى رؤية الرئيس دونالد ترامب مع خطة لـ “هندسة إقليمية جديدة” في الشرق الأوسط. حيث يرى ترامب في غزة “موقع دمار” لا يمكن العودة إليه، كما صرح، بعد توليه الرئاسة الأمريكية بفترة بسيطة، ويقترح “نقل” السكان إلى “منطقة جميلة”، ريفيرا أخرى، على غرار غزة المستقبلية، ويُعدّ إزالة “التهديد الإرهابي” من غزة عبر التهجير شرطاً لإكمال “صفقة القرن” وتوسيع اتفاقيات أبراهام مع السعودية أولاً والدول الأخرى، ما يدل على أن هذه الرؤى تُظهر كيف يتم دمج الأهداف الديموغرافية مع الرؤى الجيوسياسية الأوسع.
هناك تناقض جوهري بين الموقف الرسمي العلني (الرافض) والمصالح الاستراتيجية الضمنية لبعض الدول العربية، ففي حين أن الجامعة العربية ومصر والأردن أعلنت رفضها القاطع لـ “تفريغ الأراضي”، إلا أن التحليل يُظهر أن بعض هذه الدول قد تستفيد ضمنيًا من إخلاء غزة. فمصر، حسب الورقة، لديها خشية من وجود حماس على حدودها، وهذا، غير واقعي تمامًا، فمصر غير صديقة لحركة حماس، لكنها لم يكن لديها عداء جذري معها، على عكس دول خليجية، كما أن بعضها، الإمارات نموذجًا واضحًا، ترى في التهجير فرصة للقضاء على “محور الإسلام الراديكالي”، بشيعته وسنيّته، وهذا التناقض تعتبره إسرائيل “نقطة ضعف” يمكن استغلالها عبر الضغط والحوافز الاقتصادية والسياسية.
كذلك، توضح الخطط المقترحة أن الدول المستقبلة المحتملة، وأهمها مصر، التي تُقدَّر إمكانية استقبالها لنحو 700 ألف شخص، حيث يُنظر إلى ذلك كطريقة لدعم نظامها الحاكم وحماية طرق الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس. أما الأردن، فيُقترح أن يستقبل ما يصل إلى 50 ألف شخص، مع إمكانية منحه مساعدات مالية وتطوير طرق تجارية برية. وفي ليبيا، يُقدَّر أن يستقبل كل من جنوبها وشرقها (تحت سيطرة خليفة حفتر) وغربها مليون شخص، وتشمل المقترحات أيضاً استقبال الصومال لاند وبونتلاند لنحو 400 ألف شخص لكل منهما، بهدف اعتراف أمريكا ودول أخرى باستقلالهما وتطوير اقتصادهما عبر الاستثمارات الأمريكية والخليجية.
كما يمكن لإندونيسيا أن تستقبل حوالي 250 ألف شخص مقابل استثمارات أمريكية في عاصمتها الجديدة، بينما تشيلي وكولومبيا قد تستقبلان نحو 300 ألف شخص مع تعزيز جالياتهما الفلسطينية القائمة، وتُقترح دول الخليج العربي (قطر، السعودية، الإمارات، الكويت) لتوفير قوة عاملة بنحو 350 ألف شخص، في حين يُنظر إلى دول الاتحاد الأوروبي وكندا كوجهات محتملة لاستقبال نحو 200 ألف و100 ألف شخص على التوالي، لتوفير قوة عاملة وحل أزمة نقص العمالة، كما أن هذا التوجه الممنهج والبراغماتي للخطط لا يتجاهل بل يربط بين التهجير والمصالح المتبادلة للطرفين (اللاجئين والدول المضيفة).
“النصر” في جباليا أم في لاهاي؟
نهاية، لم تكن خطط التهجير نتيجة جانبية للحرب، بل هو هدف استراتيجي متجذر في الفكر الصهيوني، وقد تحوّل من فكرة أيديولوجية إلى خطة مؤسساتية (مديرية النقل الطوعي)، مدفوعة بآليات عسكرية (التدمير) ومبررات أيديولوجية، فـ”لا يوجد صالحون في غزة”، حسب الوصف الإسرائيلي.
أيضًا، يكمن التناقض المركزي في المأزق الذي كشفه حوار مؤتمر “غوش قطيف” فـ”من يريد النصر في لاهاي لن ينتصر في جباليا”، هذه العبارة هي المفتاح لفهم جوهر القضية، وعقلية الحرب الإسرائيلية الحالية، فهي تكشف أن “إسرائيل”، وحكومة نتنياهو، تدرك أن تحقيق أهدافها الأمنية النهائية (القضاء الكامل على التهديد من غزة عبر القضاء على حماس، سياسيًا وعسكريًا، ومن ثم عملية التهجير) يتعارض بشكل جذري مع التزاماتها الدولية والقانونية.
بغض النظر عن وجود الإرادة السياسية والخطط التفصيلية، فإن تنفيذ التهجير الكامل يواجه عقبات هائلة، بما في ذلك الضغط الدولي والمصالح العربية المتناقضة، وعدد السكان الذي يصعب نقله بشكل سهل وكليّ. وعليه، فإن نجاحه أو فشله سيحدد ليس فقط مستقبل غزة، بل طبيعة الصراع في المنطقة لعقود قادمة، فضلًا عن أهمية فهم أن هذه الاستراتيجية ليست وليدة اللحظة، بل هي “نكبة مستمرة” تحاول أن تعيد إنتاج نفسها بأدوات جديدة.